إنهاء "أزمة طلبة الطب" يطرح إشكالية تعويض الأشهر الطويلة من المقاطعة    هكذا علق زياش على اشتباكات أمستردام عقب مباراة أياكس ومكابي تل أبيب    حجوي: 2024 عرفت المصادقة على 216 نصا قانونيا    بعد إضراب دام لأسبوع.. المحامون يلتقون وهبي غدا السبت    ابنة أردوغان: تمنيت أن أكون مغربية لأشارك من أسود الأطلس الدفاع عن فلسطين    سانت لوسيا تشيد بالتوافق الدولي المتزايد لفائدة الصحراء المغربية بقيادة جلالة الملك (وزير الشؤون الخارجية)    التصفيات المؤهلة لكأس إفريقيا لكرة السلة 2025.. المنتخب المغربي يدخل معسكرا تحضيريا    مواطنون يشتكون من "نقطة سوداء" أمام كلية العلوم بطنجة دون استجابة من السلطات    افتتاح الدورة 25 لمهرجان الأرز العالمي للفيلم القصير بإفران    أسعار الغذاء العالمية ترتفع لأعلى مستوى في 18 شهرا    الحكومة: سيتم العمل على تكوين 20 ألف مستفيد في مجال الرقمنة بحلول 2026    دوري الأمم الأوروبية.. دي لا فوينتي يكشف عن قائمة المنتخب الإسباني لكرة القدم    من مراكش.. انطلاق أشغال الدورة الثانية والعشرين للمؤتمر العالمي حول تقنية المساعدة الطبية على الإنجاب    هذه الحصيلة الإجمالية لضحايا فيضانات إسبانيا ضمن أفراد الجالية المغربية    المغرب يشرع في استيراد آلاف الأطنان من زيت الزيتون البرازيلي    "إل جي" تطلق متجرا إلكترونيا في المغرب    ظاهرة "السليت والعْصِير" أمام المدارس والكلام الساقط.. تترجم حال واقع التعليم بالمغرب! (فيديو)    بيع أول لوحة فنية من توقيع روبوت بأكثر من مليون دولار في مزاد    الحجوي: ارتفاع التمويلات الأجنبية للجمعيات بقيمة 800 مليون درهم في 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    بورصة البيضاء تستهل التداول بأداء إيجابي    بعد 11 شهرا من الاحتقان.. مؤسسة الوسيط تعلن نهاية أزمة طلبة كلية الطب والصيدلة    هزة أرضية خفيفة نواحي إقليم الحوز    "أيا" تطلق مصنع كبير لمعالجة 2000 طن من الفضة يوميا في زكوندر        مصدر من داخل المنتخب يكشف الأسباب الحقيقية وراء استبعاد زياش    غياب زياش عن لائحة المنتخب الوطني تثير فضول الجمهور المغربي من جديد    الهوية المغربية تناقَش بالشارقة .. روافدُ وصداماتٌ وحاجة إلى "التسامي بالجذور"    كوشنر صهر ترامب يستبعد الانضمام لإدارته الجديدة    الجولة ال10 من البطولة الاحترافية تنطلق اليوم الجمعة بإجراء مبارتين    طواف الشمال يجوب أقاليم جهة طنجة بمشاركة نخبة من المتسابقين المغاربة والأجانب    الجنسية المغربية للبطلان إسماعيل وإسلام نورديف    بحضور زياش.. غلطة سراي يلحق الهزيمة الأولى بتوتنهام والنصيري يزور شباك ألكمار    رضوان الحسيني: المغرب بلد رائد في مجال مكافحة العنف ضد الأطفال    ارتفاع أسعار الذهب عقب خفض مجلس الاحتياطي الفدرالي لأسعار الفائدة    كيف ضاع الحلم يا شعوب المغرب الكبير!؟    تحليل اقتصادي: نقص الشفافية وتأخر القرارات وتعقيد الإجراءات البيروقراطية تُضعف التجارة في المغرب        تقييد المبادلات التجارية بين البلدين.. الجزائر تنفي وفرنسا لا علم لها    طوفان الأقصى ومأزق العمل السياسي..    إدوارد سعيد: فلاسفة فرنسيون والصراع في الشرق الأوسط    متوسط عدد أفراد الأسرة المغربية ينخفض إلى 3,9 و7 مدن تضم 37.8% من السكان    حظر ذ بح إناث الماشية يثير الجدل بين مهنيي اللحوم الحمراء    طلبة الطب يضعون حدا لإضرابهم بتوقيع اتفاق مع الحكومة إثر تصويت ثاني لصالح العودة للدراسة    خمسة جرحى من قوات اليونيفيل في غارة إسرائيلية على مدينة جنوب لبنان    المنصوري: وزراء الPPS سيروا قطاع الإسكان 9 سنوات ولم يشتغلوا والآن يعطون الدروس عن الصفيح    إسبانيا تمنع رسو سفن محملة بأسلحة لإسرائيل في موانئها    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    جرافات الهدم تطال مقابر أسرة محمد علي باشا في مصر القديمة    "المعجم التاريخي للغة العربية" .. مشروع حضاري يثمرُ 127 مجلّدا بالشارقة    قد يستخدم في سرقة الأموال!.. تحذير مقلق يخص "شات جي بي تي"    الرباط تستضيف أول ورشة إقليمية حول الرعاية التلطيفية للأطفال    وزارة الصحة المغربية تطلق الحملة الوطنية للتلقيح ضد الأنفلونزا الموسمية    خبراء أمراض الدم المناعية يبرزون أعراض نقص الحديد    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    برنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بالسيدا يعلن تعيين الفنانة "أوم" سفيرة وطنية للنوايا الحسنة    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصة نجاح المؤثر الافتراضي "سِّي"
نشر في هسبريس يوم 17 - 10 - 2020

رغم أن ما صمد أمام عوامل التعرية من رصيده في القراءة والكتابة ساعده بشكل كبير في تحقيق "النجاح المثالي" الذي ينعم به اليوم، لم يندم قط عن انقطاعه عن الدراسة، بل لا يتردد في الاستخفاف بها، والاستهزاء بالمواظبين عليها، وبخريجيها مهما كانت شواهدهم ومناصبهم.
في البدء كافح من أجل امتلاك هاتف ذكي، ثم كافح من أجل تغذية رصيده من الإنترنيت. أصبح يقضي معظم وقته في مواقع التواصل الاجتماعي، وأصبح من "الكائنات الواقع-افتراضية"، وهي كائنات، على غرار الكائنات البرمائية، لها قدرة العيش في بيئتين مختلفتين، بيئة واقعية محسوسة، وبيئة افتراضية عبر الشبكة العنكبوتية.
في بداية تجربته كان يمارس هواية الإبحار الافتراضي وهو جالس على قارعة الطريق كأي مهمش في المجتمع، فلا يرى إلا غارقا في التهام ما تجود به شاشة هاتفه، وما تستفزه أنامله. وكثيرون ممن عرفوه ما يزالون يستحضرون صورته وهو منكمش على نفسه، مقوس الظهر والعنق، جامد لا يعير اهتماما لما حوله. حتى إن المرء ليحار في فهم متى ينام؟ ومتى يأكل؟ ثم ارتقى افتراضيا واجتماعيا بتدرج، ليجد مكانه في مقاهي المدينة، ثم ليستقر به الحال في أرقى مقهى حيث يلتقي ب"النخبة"، قبل أن ينال تصنيف أقوى شخصية مؤثرة في العالم.
تدرج في اكتساب المعرفة بأغلب تقنيات "التواصل" في العالم الافتراضي، وتعلم العديد من قوانينه. وبفضل نشاطه الكبير في "النشر"، اكتسب شيئا فشيئا شهرة مكنته من امتلاك قاعدة واسعة من المعجبين والمتابعين، تحولت إلى "الأصل التجاري" الذي رقاه اجتماعيا.
اهتدى بفعل ذكائه إلى نقط ضعف جمهور العالم الافتراضي. أو ربما نجح في استثمار تجربته الشخصية، واستطاع من خلال ذلك العالم الأزرق أن يبلور نموذجا للعيش "ناجح".
اكتسب شهرة متنامية مند أن بدأ ينشر صورا وفيديوهات يصورها بهاتفه الذكي لمظاهر اجتماعية في محيطه، واكتشف أن الصورة أو مقطع الفيديو هما من الوجبات الشهية المفضلة لدى الشعب الافتراضي.
القاعدة الصلبة التي انتزع بها مكانا له في العالم الافتراضي هي "انشر كل ما يصلك". وفي هذه القاعدة لا يهم المضمون. لا يهم هل هو حقيقي أم مزيف؟ ولا هل له انعكاسات ضارة على الآخرين أم لا؟ فكل هذا لم يفكر فيه يوما، وحتى حين يجد نقاشا حوله يتضايق منه، ويستهزئ به، ويرمي أصحابه بالجهل.
تطورت تجربته، وتطور من "ناشر ما يصله" إلى باحث لدى الآخرين عما ينشره. فقد اكتشف أحد "قوانين" التواصل الاجتماعي الافتراضي: "انشر دائما تكن عظيما".
لم يهتم من قبل بالملكية الفكرية، ولا بحقوق المؤلف، ولا بالأمانة العلمية، وحدها قيمة المنشور تبرر موقفه منه. وهكذا نشط في "سرقة" ما ينشره الآخرون لينشره هو دون إحالة ولا إشارة إلى مصدره.
وهو في طور "الرقي العلمي"، اكتشف قانونا جديدا في مجال التواصل الاجتماعي الافتراضي: "العبرة ليست بقيمة المضمون بل بنشره". فجرب نشر تدوينات لا يعرف هو نفسه ماذا يريد منها. لكن قانون الفعل ورد الفعل جعله يدرك أهمية أن يتحول إلى "كاتب"، فعدد المعجبين بما يكتبه من خربشات مهم ومتنام. والذي زاد من ثقته في نفسه اتصال صحافيين به بحثا عن "الجديد"، وحين يرى "جديده" يوقعه "صحافيون"، قرر أن يكون صحافيا أيضا، ثم قرر أن يكون "باحثا"، ثم "خبيرا"...
تعلم وهو يبني مجده الافتراضي أن "الإثارة" هي أقوى مغناطيس لجلب الجمهور، وكثيرا ما يشبهها بلعبته المفضلة لديه في طفولته.
لقد كان وهو صغير يجر قطعة مغناطيس في التراب، فتلتصق بها جسيمات صغيرة لا يعرف ماهيتها، لكنه يقوم بجمع كمية معتبرة منها، ثم يضعها على ورقة أو قطعة خشب أو زجاج أو فقط على كفه، ومن تحت الحامل يقوم بتمرير قطعة المغناطيس في مختلف الاتجاهات. كان معجبا بقدرة المغناطيس على التأثير في تلك الجسيمات من خلال "أي حائل"، وبقدرته على تصفيفها، وفي توجيهها، وفي تجميعها، وفي التحكم فيها. وكان أكثر ما يثير إعجابه حين تكون تلك الجسيمات في وضعية مصطفة، وتقوم تحت تأثير قوة المغناطيس وحركته، بحركات تشبه "الركوع" و"السجود".. وكان يقضي معظم وقته وهو يلعب لعبته تلك حتى إنه أبدع الكثير من أشكال اللعب بها.
انتقل من "لعبة المغناطيس" التي واظب عليها حتى وهو مراهق، إلى "لعبة الإثارة" بعد أن أصبح من "الكائنات الواقع-افتراضية". لم يكن بحاجة للمرور بأحد "معاهدها" كي يتعلم فنونها ويدرك العوامل الفاعلة فيها فقد تعلم أن يكون "عصاميا" في كل شيء. لكنه استطاع أن يميز الكثير من تلك العوامل: الغرابة، والصدمة، والغموض، والمبالغة... وأدرك أن توظيفها في بعض القضايا الخاصة يحولها إلى قنبلة جذب قوية.
تعلم كيف يعد مختلف "خلطات الإثارة". فيحول مواضيع في مجال السياسة، والجنس والدين... إلى نيران مشتعلة. لا تهمه معرفة الميكانيزمات النفسية لتلك العوامل، كما لم يهتم من قبل قط بمعرفة القانون الذي يحكم علاقة المغناطيس بالجسيمات التي كانت تتراقص تحت تأثيره فيلهو بذلك. وكل ما يهمه من "خلطات الإثارة" هو النتيجة العملية، تأثيرها، قدرتها على الجذب، قدرتها على التجميع، قدرتها على التصفيف، قدراتها المختلفة... لقد تعلم صناعة الإثارة، وهو يسير في اتجاه إنشاء "مختبر" إعداد "خلطاتها" لطالبيها.
"مشادات بالأيدي بين جيران أوصلتهم إلى القضاء".. كان ذلك عنوان خبر لم يهتم أحد بمضمونه. فحوله إلى قنبلة حين أضاف كلمات بسيطة: "مشادات بالأيدي بين جيران حول تهم التحرش الجنسي أوصلتهم إلى القضاء". كانت تلك صنيعته الأولى، اكتشف من نجاحها أن له "موهبة جديدة".
لا يهمه ما سيجده القارئ في ثنايا الخبر الذي ينشره، بل يهمه أن يجذبه إليه، ويجعله يقرأه.
لا يهمه أن يكذب، فهو إنما أراد أن "يجذب"، كما كان المغناطيس يجذب من قبل. كان كلما تطابقت في ذهنه الصور الماضية مع المواقف المستجدة يتساءل: وما ذنب المغناطيس إذا جذب، وجمع، وصفف...؟ بل وما ذنب الطفل الصغير الذي إنما كان يلعب ويلهو؟
ومن بين أهم التقنيات التي تعلمها في مسار بناء خبراته التواصلية، "تقنية البلوكاج". استعملها بفعالية للحد من النقاد والمنبهين والفاضحين لسلوكاته. واظب على تنقية جمهوره من المشوشين. أصبح له اليوم جمهور واسع، وفي و"نظيف".
وهو في تطوره وتعلمه المستمر، أدرك أن أكثر ما يغري الجمهور الافتراضي ويستهويه هو "مذهب نقد كل شيء"، وأنه كلما كان "النقد" جارحا وفاضحا وقاسيا وعنيفا، كان مثيرا وجذابا. وتعلم أن "شروط" رواج الخطاب الافتراضي بسيطة جدا، أن يكون سلبيا، يائسا وناقما.
لا يعرف سر تأثير كل تلك "القواعد" التي اكتشفها، لكنه، وهو يكتسب شيئا فشيئا نظرة فلسفية للأمور، أدرك أنها قواعد الجذب في "مغناطيسه" الجديد. فانتقد الوضع في بلدته وفق "خلطات" تلك القواعد، وانتقد المنتخبين، وبعض المسؤولين فيها، ونشر صورا لسيارات بعضهم، و... حتى صورة كلب أو قط اكتشف أن لها قيمة عظيمة في "التواصل الاجتماعي الافتراضي" إذا كانا لمسؤول. وعلمه قانون الفعل ورد الفعل الاجتماعي أنه على "الطريق".
كان كلما تطابقت في ذهنه صورته وهو ينقر على هاتفه، مع صورته وهو يلعب "لعبة المغناطيس" وهو صغير، يجد متعة نوستالجيا لا تقدر بثمن.
اكتشف مبكرا "آلهة العالم الافتراضي"، تعلم الطقوس الضرورية التي ترضيها، وواظب على تقديم القرابين التي تطلبها، وحرص على أن يضحي لنيل رضاها بالغالي والنفيس، كل ذلك من أجل نيل بركتها وجودها والدخول إلى جنتها.. هكذا تعامل مع "الجمهور الافتراضي".
في أول استدعاء له من طرف مسؤول أمني، ظن أن سوابقه العدلية ما تزال تلاحقه، لم يَدُر بخلده أبدا أن خربشاته بالنقر في هاتفه النقال هي موضوع الاستدعاء. لكنه تعلم الكثير من لقاءاته المتكررة مع ذلك المسؤول. اطمأن أن لا شيء سيوقفه، بل فقط ينبغي الانتباه إلى تجنب فلان وعلان، وهذه المؤسسة وتلك... وهكذا تعلم أن يكون له "خط تحرير".
توالت الدعوات الموجهة إليه لحضور التظاهرات واللقاءات و... يتصل به القائد، والبرلماني، ورئيس المجلس البلدي، والمنتخبون، ومسؤولو الأحزاب في مدينته، فضلا عن الشيخ والمقدم... كل يطلب الهدنة معه ويوجهه إلى "الآخرين". لقد قيل له إنه أصبح من "الشخصيات المؤثرة".
أدرك أن سر قوته يكمن في "جبهته الافتراضية". وأن تلك "الجبهة" كلما كانت صلبة فسحت له الطريق. وهنا تعلم شيئا آخر، أن يكون للجميع، وأن يكون على الجميع، وأن يأكل مع الصديق وعدوه.
لا يصدق أحيانا ما أصبح عليه شأنه. أصبح لرقم هاتفه رواج لم يكن ليحلم به. اتسعت لائحة معارفه. وأدرك أن ريع أمجاده الافتراضية أصبح واقعا يعيش به. تقدم له الهدايا، ويستدعى للولائم، ويدعى لشرب كأس شاي أو قهوة من طرف "النخبة" حين يمر قرب مقهى، وأصبح لديه مدير أعمال ينسق مواعيده، ويتفاوض باسمه، ويرد على الرسائل والدعوات و... وأصبحت لاسمه لازمة من لقب "سِّي".
تضخم طموحه. انتبه وهو يتعلم أنه ينبغي أن يكون من "المؤثرين" على المستوى الوطني، بل والعالمي أيضا. فاهتم، باعتماد "خلطاته"، بنقد البرامج والسياسات العمومية، والقضايا الفكرية والفلسفية، والعلاقات الدولية، ومواقف الدول، ونتائج الانتخابات هنا وهناك، وتدبير مختلف الأزمات، والصراع مع الصهاينة، وقضايا الشرق الأوسط، والتنافس بين الصين وأمريكا، و... لقد تعلم أن لا شيء يمنع من مناقشة أو الكتابة في أي شيء، ف"ديمقراطية" العالم الافتراضي قد أسقطت الحدود ومزقت المواثيق، وأنتجت ثقافة "كولشي كايفهم فكولشي".
كسب شهرة عابرة للحدود حين نشر صورة سلفي له وهو يحمل صورة عالم فيزياء مشهور تداولت الصحافة ومواقع التواصل الاجتماعي آخر نظرياته حول الكون. في الصورة كان يشير إلى العالم بسبابته. نشر الصورة مع تعليق بسيط يقول: "لا تصدقوا هذا الكذاب، فإن ما يقوله مجرد خيال!". كتبه باللغة العربية والانجليزية والفرنسية، بمساعدة فريق مساعديه من الشباب العاطل. ومكنته خبرة التسويق الافتراضي، التي اكتسبها فريق عمله، من نشرها على أوسع نطاق.
أثارت الصورة جدلا واسعا وكبيرا عبر العالم. وفتح النقاش حول ما مدى صدقية ما توصل إليه عالم الفيزياء؟ وهو سؤال لم يثره أحد لما نشر نتائج أبحاثه. وتفرق الناس بين مشكك في هوية صاحب الصورة المتهمة، وبين من يشك في الخلاصات العلمية للعالم، وبين من يدافع عن تلك النظرية الجديدة. ونشَّطت الصحافة تلك الديناميكية بتصريحات علماء ونقاد وباحثين وملاحظين...
أحد مختبرات تحليل المضمون الرقمي العالمية قام برصد روجان تلك الصورة في الأنترنيت، كانت النتيجة شيئا لا يصدق إلا في العالم الافتراضي. لقد كانت "صورة السنة" بأزيد من مليار تفاعل مختلف! تمنى "سي" لو أن كل تفاعل يترجم إلى سنتيم أو درهم، ولم لا إلى دولار أو يورو! لا يعرف ما هو المليار بلغة الرياضيات، لكنه رقم حاضر بقوة في أحلامه الافتراضية لقياس الثروة التي يطمح إلى جمعها.
"مقاولة سي للخدمات"، أصبحت واقعا، ببناية خاصة، وأجراء، وفريق عمل ضمنهم خبراء، ورقم معاملات يتنامى بسرعة،... لكن الأصل التجاري الحقيقي لتلك المقاولة ليس في عقاراتها ورأسمالها، ولائحة زبنائها الماديين والمعنويين، وغير ذلك، بل في رصيدها من الجمهور الافتراضي.
هذا الأصل التجاري الافتراضي، الذي يحكي قصة تجربة "سِّي"، هو مصدر قوته ومقاولته، هو ما تبيعه، وهو ما تستثمر في تنميته والمحافظة عليه... مئات الملايين من المتابعين والمعجبين لحسابات وصفحات وقنوات "سِّي" في العالم الافتراضي. هذه القاعدة الافتراضية هي التي يبيعها "سِّي" لأصحاب الاشهار، ولمروجي الأخبار الزائفة والإشاعات، ويبيعها كمنصة إطلاق لمنظمي الحملات، التجارية منها والسياسية. أصبح "سي ..." رقما صعبا في العالم الافتراضي، خاصة في تنظيم الغزوات والحروب الالكترونية، بين الشركات، بين الأحزاب، وبين الدول أيضا. باختصار شديد لقد أصبح "سِّي" خبيرا في مجال "التواصل".
في كل يوم يخصص "سِّي" اجتماعا مع فريق الخبراء، يستعرضون فيه أهم القضايا التي رصدوها في العالم الافتراضي وتثير اهتمام الجمهور باعتماد أحدث برامج الرصد والتتبع، فيقترحون رزنامة أهم تلك القضايا مع "زوايا معالجة" تناسب "خط تحرير سِّي" الذي بناه بعصامية ناذرة. فيخرجون بمجموعة مضامين سيتم نشرها عبر مختلف الدعامات الإلكترونية التي تم تحفيظها باسم "سِّي"، وتشمل صفحة فيسبوك، وقناة في يوتيوب، وحسابات في كل المواقع الاجتماعية، وعلى الفريق أن يقترح لكل دعامة ما يناسبها: مقاطع فيديو ينبغي تصويرها، تدوينات مختصرة تنشر باسم "سِّي"، رسوم كارتونية، كاريكاتير... وفي كل عمل يعطي "سِّي" توجيهاته وفق "خط تحريره". فيوضع برنامج للتنفيذ، يشمل تصوير فيديوهات قصيرة ل"سِّي"، وإعداد مضامين مختلفة يوقعها "سِّي"...
"مقاولة سِّي" لا تنام، تنشر باستمرار، تراقب، ترصد، تشن الهجمات، تحاصر، تبتز، تهدد، تروج، تضغط... تقوم بكل شيء. لقد تحولت إلى آلة جهنمية تهتز من حركاتها جبال العالم الافتراضي، وبدون مبالغة تهتز من نشاطها أنظمة سياسية منذ أن تمكنت من التلاعب بالرأي العام في عدد من الدول الإفريقية وتمكن زبناؤها من حصد النتائج التي خططوا لها.
"شخصية مؤثرة"، عبارة رنت من جديد في ذهن "سي". تأمل فيها بنظرته الفلسفية الجديدة، استعاد صورته وهو يلعب "لعبة المغنطيس". تساءل، هل أنا الطفل أم أنا المغناطيس؟ استرسل في التفلسف حتى اصطدم بسؤال: إذا كنت أنا المغناطيس فمن يكون الطفل؟ آلمه هذا السؤال، فلعن الفلسفة والفلاسفة والتفلسف، وقرر أن يكتفي بمظاهر الأشياء، فهو الذي يملك "مقاولة سِّي"، وهو الذي ينشر، والجمهور يحتشد على صفحة العالم الافتراضي، فيحركه كيف ما يشاء، هذه هي الحقيقة التي لا يريد معرفة وجهها الآخر.
ذات يوم وهو جالس في المقهى يحتسي كوب قهوة مع مدير أعماله، رن هاتف هذا الأخير، وانفرجت أساريره وهو يطلع "سِّي" على هوية المتصل. فتح الخط، وتحدث إنجليزيته المتعثرة، وأنهى المكالمة والعرق يتصبب من جبينه. وقال ل"سِّي": أخيرا نجحت الخطة، القناة الأجنبية الشهيرة "..." في المغرب. سوف تجري معك الحوار في العاصمة الرباط، يقترحون غدا على الساعة الرابعة بعد الزوال، وقد حجزوا لك فندقا...
ابتسم "سِّي" وقال له: إذن ليس لدينا الكثير من الوقت، قم بنا للإعداد...
قام "سِّي" كما يقوم أي شخص واثق من نفسه، وسار مع مدير أعماله بهدوء الرجال العظام نحو مجد إعلامي جديد: قناة أجنبية قررت تحقيق "سبق إعلامي" باستجواب صاحب "صورة السنة" أو صورة "هذا كذاب!".
جرى الحوار ونشرته القناة، وحصدت رواجا لم تحلم به من قبل بفضل خدمات "مقاولة سِّي". كان حوارا ناجحا بكل مقاييس صحافة "ما يطلبه الجمهور".
أما "مقاولة سِّي" فقد حصلت على شيك بمبلغ ضخم أودعته حسابها.
أما "سِّي" فقد أعاد نشر رابط الحوار على صفحته على فيسبوك، وتويتر، وأنستاغرام، و... مع تعليق مقتضب على صورة يرفع فيها شارة النصر بيده، يقول فيه: "أنا قادم"! وحصد ملايين التعليقات التي تقول له: "برافو"، "كنت لامعا"، "واصل"، "أيها البطل"، "ننتظرك"...
وكان من بين كل تلك التعليقات واحد لم تطله يد رقابة فريق "سِّي" يقول فيه صاحبه: "خلا لك الجو فبيضي واصفري".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.