كم عبارة شجب تكفي، وكم يلزمنا من الوقت هذه المرة لكي ننسى كما نسينا الذي سبق، فقد أدْمنّا النسيان حتى عاد هوايتنا الجميلة التي نحلّ بها كل شيء (الفيضانات واحتراق الأطفال داخل البيوت المسيجة...). تأتي النازلة فنركنها في باحة النسي، ونقول هذه الأخيرة، وحتى إذا ما عزمنا وسطرنا، فإننا نسطر بقلم المحو على صفحة الماء، ونكون حينها مثل الأسماك، ذاكرة قصيرة والشصّ يقتلع الحلوق. بين ظهراننا مغتصبون، يشهرون "أسلحتهم" ليس في وجه الصغار فقط، بل يوجهونها أينما انحسر اللباس أو تلمسوا البض من اللحم، كبيرا أو صغيرا أو حتى مُسنّا نشف جلده ووهن عظمه، سويا أو غير سوي، من جنس الذكور أو الإناث أو من هذه الأجناس الجديدة التي ما فتئت تظهر كل حين. وبيننا كذلك مغتصِبون محتملون، ذئاب منفردة (مع كامل الاعتذار للذئب، الحيوان النبيل المبرّأ) ومشاريع مغتصبين، يتحينون الفرص، بعد أن ارتدّوا إلى أنفسهم ولم يجدوا ما يواجهون به العالم غير تلك الغريزة الملتهبة. ومجتمعنا واحد من المجتمعات التي يُقترب فيها من الطفل حد الشبهة، يُعانَق ويُباس ويُقرص ويداعب ويختلى به ويُقبّل، فلا يدري المسكين الحدود الفاصلة بين القبلة الحلال والقبلة المحرمة. لا اعتبار مميّزا للطفل عندنا، لا خطوط حمراء يهاب وطأها كل من سوّلت له نفسه. مجرد متاع وتابع للكبار يبوء بمصائرهم، لا مصيره هو. من صيغ النهش، التي يشهد بها كثير من خبراء المجتمع الحقيقيون، الناس ذوي التجربة والمران، أنه من المحتمل الوارد بشدة أن الخطر المحدق بالطفل يأتيه في الغالب من مأمنه، من حيث أقرب الوحوش الآدمية إليه، الوحش الذي يوضع الطفل في "حجره" بكل طمأنينة وأمان، بعد أن قصرت المسافة بينه وبين فريسته، ومهما بلغت وسائل الإعلام من الامتداد والتغطية، فحجم المسكوت عنه من زنا المحارم واعتداء على الأطفال ما يزلزل أركان هذا المجتمع الذي يكاد ينقض. سيقول المُكتوون الذين في قلوبهم خوف وفزع إن الاستئصال هو الحل، فلا جدوى من تتبع خيط الجريمة، وإن الاستئصال من شأنه أن يردع كل مجرم متربص، وإن العبرة نكالا به ستثني كل معتد. وسيقول الذين في قلوبهم رأفة إن الفاعل الذي يفتض البكارة الندية، ويسحل اللحم البض، لا يعدو أن يكون ضحية سابقة في سلم الضحايا، ومفعولا به لفاعل متعدٍ، وهذا الفاعل المتعدي هو أيضا من مفاعيل مجرمين سابقين، ولمزيد اطمئنان يخبرون أن الحلّ هو إلقاء القبض على هذا المجرم الذي هو المجتمع، المسؤول الأول عن الافتضاض والهتك والفتك، والذي فشل في تنشئة هؤلاء الضحايا تنشئة سوية، فتمردوا بأن تغلمّوا وبدؤوا في نهش طفولة أولاد هذا المجتمع "المجرم". مُؤكدّ أنّ استئصال القاتل الهاتك لن يحلّ القضية، لن يقتل الفكرة المتربصة في الرأس، فكرة الانحراف الذي يستهدف الصغار، ويجعلهم موضوعا للشبق، الانحراف الذي يموج بيننا، يظهر ويستخفي، يتحين الفرصة، يكتم الأنفاس الصغيرة، يبلغ بها قبل البلوغ، يرعبها ويسومها من اللذة الآثمة ألما تكاد تنفطر له قلوب من على الأرض جميعا. ومؤكد كذلك أن الرأس بالرأس لن يحلّ القضية تماما، ولن يشفي غليل الموتورين، فليس الأمر حربا للتناوش، وليس نزالا مُعلنا بين طرفين، يتقبل فيه المنهزم هزيمته بروح رياضية. الأمر أشد وطئا على المظلوم، فالبادئ أظلم، بل أشد ظلما. فمهما كان الجزاء، فلن يرتق حجم الفجيعة. الظالم الذي يفتح النار على أعراض الناس، وينهش فلذات أكبادهم، فيُدخلهم دائرة الثأر والمطالبة بالقصاص. وهذا ما لا تستطيع حلّه أعدل القوانين، وأشدها ادعاء فهم العلاقة بين الجريمة والعقاب، لذلك يبقى الاختصام الحل الآخر. عن اجتماع الناس تنشأ المجتمعات، وعن هذا الاجتماع يتولد الظلم والهضم، من أبسط المخالفات إلى ما يشيب له الولدان، فتحاول المؤسسات المحدثة أن تنهض بمسؤولية ردّ الحقوق إلى أصحابها، وفي ذلك نظر وجدل لا ينتهيان. عندما أقنع الفتى الروسي نفسه بأنّ المرأة العجوز المُرابية مَفسدة من المفاسد التي أنتجها المجتمع، قتلها وعاش مستخفيا بجريمته يداري العقاب، وحتى عندما امتدت إليه يد العدالة بعد حين، أمضى سنوات "العقاب" منفيا في الصقيع السيبيري القاتل، لكنه لم يمت، والأشد غرابة أنه لم يستشعر العقاب الواقع به.