بين الفعاليات القليلة التي حافظت على زخمها المعتاد وفي ظل جائحة كورونا، نجد برامج وأنشطة الاستغوار بإقليمتازة، بما هي في الواقع مجالات مفتوحة على الطبيعة والثقافة معا، وعلى الكشف الدائم والتجوال المستمر في أرجاء ومشاهد الطبيعة وحمولتها المتشعبة، وخاصة على مستوى مغارات إقليمتازة، الذي يعد بحق قبلة حقيقية لأنشطة الاستغوار محليا وقاريا وعالميا. ويعتبر الاستغوار Spéléologie، أي البحث في الكهوف والمغارات، من الممارسات العلمية والرياضية والثقافية معا والتي لا تخلو من متعة وفائدة. ومن أهداف البحث استكشاف ودراسة جوف الأرض، أي المغارات مختلفة الأحجام والأطوال والأشكال، بما يقتضيه ذلك من معرفة نوعية الصخور والمياه الجوفية والكائنات التي تحيى داخل المغارات. تقتضي الممارسة الاستغوارية النفس الطويل وتملك حس المغامرة ومواجهة صعوبات التسلق في الجبال والتلال والمنحدرات والتجاويف، وطبعا إلى جانب قسط محترم من الثقافة والمعرفة الجغرافية والطبوغرافية وعلوم الحياة والأرض، علاوة على التاريخ الجيولوجي وتساهم الأنشطة الاستغوارية في المساعدة على إيجاد المياه الجوفية (العذبة طبعا) والتي تشكل مصدرا رئيسا لاستهلاك الإنسان والحيوان وخاصة في المساحات الصخرية الكيلسية Calcaire . وعلى الرغم من أن هذا المجال هو مفتوح للمختصين والهواة أيضا، فإن هناك عناصر دقيقة تعود إلى المختصين أساسا في علوم المياه والصخور خاصة. وحسبنا هنا أن نثير الاهتمام بهذا المجال، الذي يمكن أن يساهم في السياحة الجبلية وعبر مختلف الظروف والأحوال وحتى في ظل الجوائح مثلا مع أخذ الاحتياطات طبعا، كما هو الحال هذه الأيام. ظهرت أنشطة الاستغوار في فرنسا والنمسا خاصة، منذ أواسط القرن التاسع عشر، أي في بعض البلدان التي سبقت باقي جهات المعمور إلى العديد من المجالات الحديثة. وازدهرت خاصة قبيل وبعد الحرب العالمية الثانية. ومن ثمة، تم اكتشاف العديد من المغارات في ألمانياوفرنسا وبلجيكا وغيرها والتي أصبحت بعد ذلك مهوى أفئدة السياح والدارسين والباحثين من كل الجنسيات، وباتت جزءا لا يتجزأ من بنية الاقتصاد والسياحة بتلك البلدان. وقد ظهرت أول مجموعة استغوارية على الصعيد العالمي بفيينا العاصمة النمساوية سنة 1879م، وكان من رواد الاستغوار إمري غابور بيكي وإميل جورج راكوفيتزاÉmile Georges Racovitza) (Imre Gábor Bekey) (وستيفن بيشوب (Stephen) Bishop ( والفرنسي إي مارتل (E.A Martel ) الذي يعتبر أبا الاستغوار الحديث. كما شرعت الجهات المختصة في تسجيل الأرقام القياسية العالمية والقارية حول مدى التعمق في المغارات طولا وعرضا أو السبق إلى اكتشافها أو ارتيادها. أما على مستوى العالم العربي، فتم اكتشاف مغارة جعيتا على بعد 15 كلم من بيروت العاصمة اللبنانية سنة 1962، ووصل عدد زوارها إلى نصف مليون شخص سنويا، وكان مكتشفها باحث مغربي بالمناسبة. وفي المغرب، بدأ النشاط الاستغواري مع مستهل عهد الحماية الفرنسية على المغرب ورسميا سنة 1927، عندما تم كشف مغارة الجمل في تاسركوت بمنطقة بني يزناسن، وازدهر نوعا ما فيما بين الحربين وبعد الحرب العالمية الثانية، ونذكر هنا جهود نوربير كاستيري Norbert Casteret (1897 – 1987) هذا الباحث الرائد في علم الاستغوار، الذي كان له الفضل في اكتشاف العديد من المغارات بالمغرب، ومنها مغارتا فريواطو وشيكر بإقليمتازة، سنة 1934 استجابة منه لطلب النقابة المحلية للمبادرات السياحية، بالإضافة إلى مغارة الجمل سابقة الذكر، والمعروف أنه تجاوز عمق 200 م من مغارة فريواطو اعتبارا من فتحتها العليا وفضائها المتصل بها. وعلى الرغم من أن أنشطة الاستغوار لم تكن غريبة بتازة، فإنها ظلت حكرا على الباحثين الفرنسيين، وقليل من المغاربة داخل وخارج تازة، ولم تخلُ من كثافة أبرز محطاتها اكتشاف مغارة فريواطو من طرف نوربير كاستري سابق الذكر. واستمر احتكار الأوروبيين، وخاصة الفرنسيين لهذا الميدان بعد الاستقلال إلى حين تأسيس أولى جمعيات الاستغوار في بداية الألفية الثالثة، وبالضبط سنة 2004 بين أبناء تازة وبشكل متزامن تقريبا أو حتى متأخر نسبيا، مع ما شهدته بعض المدن والمناطق الأخرى المعروفة بأنشطتها الاستغوارية كبني ملال وأكادير ومراكش والرباط والبيضاء وفاس، على سبيل المثال لا الحصر، وهناك مجموعة الأبحاث والدراسات السبيليولوجية بتازة، علما بأن يوجد حاليا ما يزيد عن 30 جمعية خاصة بالاستغوار والسياحة الجبلية على المستوى الوطني. ويذكر أن دور المغاربة، كما يذهب إلى ذلك مامون عمراني مراكشي رئيس فيدرالية الاستغوار المغربية، في ظل سيطرة الأجانب، انحصر في المساعدة فقط وحمل المعدات، ولم ينتقل إلى المبادرات الفعلية إلا في أواخر ثمانينيات القرن الماضي. من بين تلك الإطارات الوطنية، نذكر على الخصوص الجمعية المغربية للاستغوار والسياحة الجبلية، التي ارتبطت بالفيدرالية المغربية للاستغوار، وقدمت لمنخرطيها ولعموم الجمهور أنشطة مكثفة في هذا المجال (عبر المساهمة الفعلية بالنسبة للطرف الأول والدينامية الإعلامية على مستوى الطرف الثاني أي عموم الجمهور)، امتدت حتى فترة الحجر الصحي وما بعده. شملت تلك الأنشطة عشرات المواقع والمغارات والتجويفات، عبر إقليمتازة مستهدفة بالأساس القيام بالدراسات والمساهمة في الاكتشافات ذات الارتباط المباشر أو غير المباشر بمجال الاستغوار، الذي سبق أن أكدنا أنه لا يخلو من تشعب، تتداخل ضمنه علوم المياه والصخور والأحياء والمناخ وتاريخ التشكيل الكلسي أساسا، ومجال الإنقاذ أيضا وما تعلق منها بقضايا تنمية المناطق المعنية، عن طريق تفعيل السياحة الجبلية والاستغوارية خاصة، ودعم البنيات التحتية المساعدة ومن خلال كل ذلك، الإسهام في التحسيس بأهمية البيئة، عبر أوراش العمل وأنشطة بيئية متنوعة، وفضلا عن العديد من المكتسبات فإن الإطارات المعنية ماضية في تحقيق المزيد. على الرغم من كل تلك الجهود فإن الجهات الرسمية، من مصالح خارجية ومؤسسات منتخبة، ما زالت لم تعر هذا الميدان الاهتمام الكافي باعتباره رافعة أساسية، لتنمية إقليم جبلي حوضي، يتميز بمناظره الخلابة كالشلالات والغابات والمسالك والمغارات خاصة، مما يشكل عامل جذب أساسيا للمجال السياحي وللمهتمين والباحثين داخل وخارج المغرب. من جهود الجمعية المغربية للاستغوار والسياحة الجبلية بتازة بطاقات التعريف التي شملت ما يزيد عن 100 مغارة مختلفة، موزعة على شمال وجنوبالإقليم، علما بأنه بات يعد من بين القبلات الأساسية للاستغواريين المغاربة والأجانب. والمعروف أن ما يزيد عن 200 مغارة وتجويف أرضي تم اكتشافها إلى حد الآن على مستوى منطقة تازة، الشيء الذي يفسر الاهتمام المتزايد تجاه النشاط الاستغواري لدى شباب تازة والإطارات المعنية على حد سواء، حيث تنظم بين الفينة والأخرى جولات دراسية أو سياحية وعبر الأقدام إلى تلك المواقع Randonnées، تعد شبه مفتوحة أمام عموم الجمهور، في إطار تشجيع ممارسة الرياضة الجبلية والبيئية وهي الدينامية التي ما زالت نشيطة ومستمرة رغم جائحة كورونا، الشيء الذي يبعث فعلا على الإعجاب والتقدير. من بين المواقع الاستغوارية المهمة هناك مغارة فريواطو الشهيرة، وتسمى أيضا مغارة الريح وحفرة كاستوري. أما دلالة الاسم في اللهجة المحلية فتعني مغارة الريح، وهي ما زالت – كما يعرف الجميع - قيد إعادة التهيئة، لا بل تمت إعادة تهيئة أدراجها وسلالمها الشيء الذي استغرق سنوات عديدة ولم يتم فتحها للعموم إلى حد الآن، مما يطرح السؤال كبيرا على المسؤولين والمعنيين، خاصة أنها ظلت تستقطب على مدى سنوات ما يزيد عن 10 آلاف زائر/ سائح وباحث أو استغواري. يبلغ المقطع الطولي لمغارة فريواطة اعتبارا من فتحتها الخارجية العليا 146 م؛ وهي تعتبر من مكونات المنتزه الوطني لتازكة الممتد عبر دوائر وجماعات تازة وبابودير وبوشفاعة وباب مرزوقة ووادي أمليل، عبر سفح تيسيدلت المحسوب على جبل بومسعود على علو يتراوح بين 1422 م و1443 م. ويعد النشاط الجيولوجي كثيفا بالمغارة، وتصل درجة الحرارة إلى 9، وهي قائمة في واقع الأمر على مساحة مائية، عبارة عن واد بعمق أرضي تتخلله العديد من الآبار، أعمقها يصل إلى 307 أمتار هذا علاوة على قاعات متعددة، أبرزها قاعتان تسميان الموسيقى ويطو. تقع مغارة فريواطو على بعد 28 كلم عن تازة إلى الجنوب في عمق الأطلس المتوسط وحوالي 340 كلم عن العاصمة الرباط، وتتميز بسهولة الولوج إليها بخلاف العديد من المغارات الأخرى. وقد تمكن إطار استغواري من الوصول إلى نهاية المغارة سنة 2008. ومن خصوصياتها، أيضا، وجود حشرات كهفية وبقايا عظام لحيوانات بدائية منقرضة. ويقدر المختصون زمن نشوء هذه المغارة بين 10 آلاف و20 ألف سنة، ولا علاقة في تكوينها بما هو بركاني، فهي ناشئة عن تعمق المياه في طبقات الكلس نتيجة الأكسدة المستمرة. الأدراج والسلالم السابقة والتي يصل عددها إلى 250 قد جرى تعويضها بأخرى حديثة ومغطاة بشكل يحفظ الأمن للزوار والاستغواريين معا، غير أنه لم تُتح لهؤلاء الاطلاع على الإخراج الجديد للمغارة؛ لأن الجهات المعنية مازالت تغلق أبوابها بإحكام، كما أن هناك إشكالات تعود إلى ملكية المغارة ومساطير كرائها. تتميز مغارة فريواطو يتنوع مشاهدها من صواعد Stalagmites ونوازل Stalactites وستائر Rideaux ومساحات مائية جذابة وأشكال مختلفة، نحتتها المياه في سطح الصخور وأعماقها، فضلا عن كائناتها الحية، وتتصل مغارة فريواطو بمغارة أخرى لا تقل عمقا وجمالا عن فريواطو وهي مغارة شيكر والتي تشترك مع فريواطو في المجرى المائي نفسه المتجمع في عمق ضاية شيكر (كانت بالأحرى ضاية منذ آلاف السنين لكنها جفت فاحتفظت بالاسم نفسه علما بأن عمقها الأرضي غني بالمياه الجوفية) ومدخلها عبارة عن بئر لا بد من حبال ووسائل أخرى من أجل ولوج أعماقها والتي تمتد بطول يصل إلى 3900 م، علما بأن مسافة تقدر ب400 م تفصل بين مدخلها الأول والثاني، وتوحي المشاهد الأولى لهذه المغارة للزائر بنوع من الخوف الرهيب بسبب المياه المتدفقة وصعوبة المسالك والممرات. بعد 1000 م من المدخل الثاني لمغارة شيكر، توجد بعض القاعات غاية في الجمال والروعة وفي تنوع أشكالها الكارستية وألوانها تصل إلى 4 كلم وعمقها 165 م، وتنتهي المغارة ببركة مائية تنصرف مياهها أخيرا إلى عين راس الماء المعروفة التي تستقي منها مدينة تازة جزءا من مياهها الشروب. من بين المواقع التي تحظى باهتمام الباحثين والاستغواريين أيضا، هناك مغارة الشعرة جنوب غرب تازة، وبالضبط بتراب جماعة الصميعة دائرة تاهلة إقليمتازة ويبلغ طولها 7650 م، وتسمى أيضا مغارة ازوكاغ أو المغارة الحمرا. وتم اكتشافها أواخر ستينيات القرن الماضي، وتعد الرابعة على المستوى الإفريقي والثانية وطنيا بعد مغارة باب تازة / إقليمشفشاون، ولها أربعة مداخل بخلاف باقي المغارات. من مميزاتها وجود طابق آخر لها معروف بالوجه الثلجي، إلى صواعد ونوازل ذات لون أبيض غالبا، يتخللها نهر جوفي يمد المياه بدوره إلى سبعة عيون بالمنطقة، وقد أطلق عليها "جنة المغارات" لجمالية أشكالها الصخرية وستائرها، فضلا عن الصواعد والنوازل، ولا تتجاوز المسافة بين مدخلها وعمقها بضعة أمتار، غير أنها كانت تعاني من عزلتها بالنسبة للطريق الرسمي الرابط بين بابردير وجماعة الصميعة عبر أدمام وبوشفاعة. ومما يذكر هنا أنه تم اكتشاف صاعد بهذه المغارة من طرف خبراء بجامعة أمريكية، يصل عمره إلى 200 ألف سنة علاوة على قرون متحجرة لأنواع من الغزال البدائيChrysalis ، مما يؤشر على قدم الحياة العضوية بهذه المناطق من الأطلس المتوسط الشمالي، كما تعيش بالمغارة بعض الحشرات المستكهفة وأخرى نادرة الوجود. بين المغارات المعروفة بالمنطقة وخاصة بمغراوة، موقع واد البارد وهو عبارة عن شق هائل مائل من الأعلى إلى الأسفل يبلغ طوله الإجمالي 1000 م تتخلله منابع مياه واد جوفي بارد فعلا، بسبب طبيعة الموقع الجبلي، ومن مميزاته وجود عدة أعشاش للوطاويط (طير الليل كما يسمى في عاميتنا). هناك إلى جانب هذه المغارات التي ذكرنا عشرات غيرها غير مصنفة، أو بصدد التصنيف وطنيا على الأقل؛ وهي تختلف من حيث أحجامها وأبعادها وأعماقها ومدى جماليتها. ونذكر منها مغارات: السفرجل – النحل – با بودير- كهف الماء – كهف الحمام – الكهف الأزرق – التوهامي – حبس الكلاب – الصعو – زعرور- حيدرة – وارالاغ – أنقيض – مرس حمادي- باب مفرج – إيفجاجن وكهف الغار، وأكثر تلك المغارات توجد في الأطلس المتوسط، كما تتميز أخرى بوجودها في جبال الريف ككهف الغار التابعة لدائرة تايناست، إقليمتازة. ويعاني أكثر هذه المواقع من العزلة، على الرغم من توسيع الطريق الثانوي الرابط بين تازة وبابودير الذي تم مؤخرا. صحيح، هناك العديد من المسالك والمسارات Sentiers ما زالت صالحة للمرور، لكن العزلة تظل السمة الغالبة على تلك المواقع الخلابة في أغلبها. ما زال النشاط الاستغواري يعاني من نواقص وبعض السلبيات كالاعتماد على وسائل تقليدية، والنقص النسبي في التجهيزات لدى الإطارات المعنية، وضعف الوعي بأهمية هذا المجال، ليس لدى المواطنين فحسب، بل أيضا عند المسؤولين المعينين والمنتخبين على حد سواء؛ فيما بقي مشروع وكالة أسفار متخصصة في الاستغوار والسياحة الجبلية حبرا على ورق. وعلى الرغم من الجهود التواصلية التي تبذلها الإطارات المعنية، فإنها ما زالت محتشمة عموما. لا يمكن فصل المدار السياحي لتازة عن مدار جهة فاسمكناس، ولكن الدمج المفتقد لكل الضوابط حمل ظلما فظيعا للمدينة والإقليم، كما أن غياب مندوبية للسياحة بتازة منذ مدة طويلة يلحق المزيد من الضعف والهشاشة على الميدان ناهيك عن تداعيات كورونا الكارثية. * رئيس مركز ابن بري التازي للدراسات والأبحاث وحماية التراث.