عالم قائم بذاته هي أعماق الأرض لِما هي عليه من تشكيل وتفاعل ومشاهد جاذبة ساحرة ومثيرة، تجعلها قبلة تعَرفٍ واسعة لمغامرين ومستكشفين، ولِما تحتويه من معالم خلفها تفاعل كيمياء سنين هي بملايين. ولعل أنشطة الاستغوار "Spéléologie" هي بحق عنوان ما هو دراسات ورياضة وترفيه وترويح ومغامرة وتأمل وتحديات، ذات علاقة بما تحتويه الأعماق من بنية ومكونات وكائنات وكهوف ومغاور وفتحات.. وإلى جانب ما يقوم عليه من بحث وتنقيب وفحص وتعَرف في مجالات بتكوين جيولوجي كارستي، يروم الاستغوار كشف مشاهد جمالٍ وخلْقٍ طبيعي يعود إلى ملايين السنين من القدم. وعليه، بفضل باحثين ومهتمين وممارسين ارتبط هذا النشاط بعوالم باطن الأرض، وهو الذي تعود بداياته في المغرب إلى سنوات الحماية الفرنسية من خلال ما أسهم به عدد من الاستغواريين الفرنسيين تحديداً، ممن اهتموا بكل ما هو مياه وإحيائيات وتكوينات ارتبطت نشأتها وتفاعلها بباطن الأرض. وبحكم بنية منطقة تازة وبنائها الجيولوجي باعتباره جزءا من عتبة ما عُرف في تاريخ المغرب البحري بمضيق جنوب الريف زمن الميوسين، فقد كانت قبلة لأولى أنشطة الاستغوار بالمغرب بداية ثلاثينيات القرن الماضي، من خلال إسهامات الفرنسي نوربيركاستري الذي كان له الفضل في اكتشاف مغارتي "فريواطو"و"شيكر" المتقاربتين، فضلا عن مغارات أخرى مجاورة جنوبتازة على بعد حوالي العشرين كلم. وليست هناك أية معلومة تخص محاولات اختراق هذه المكونات من قبل أهالي المنطقة قبل هذا التاريخ في إطار علاقة قرب أو حب استطلاع ومغامرة، فلا إشارات ولا رواية شافية شفوية حول ما يمكن أن يُحسب لفائدة عمل استغوار (تعرف تلقائي) أولى محلي. وهذه الورقة خلافاً لمألوف في هذا الإطار لا تتوجه إلى جنوب منطقة تازة الغنية والشهيرة بكهوفها ومغاراتها، التي تزيد عن الثلاثمائة مغارة بحسب المهتمين الاستغواريين الفاعلين عن الجمعية المغربية للاستغوار. وقد يكون الرقم أكثر من ذلك على أساس أن مساحة واسعة من هذه المكونات لا تزال غير مكتشفة، لأسباب عدة ومتداخلة؛ منها وعورة المنطقة وتعقد مسالك بلوغ مداخل وفتحات الكهوف والمغارات، ناهيك عما يطبع هذه الثروة المحلية الجهوية والوطنية من قلة عناية في رهان النماء، ومن ضعف إرادة في إعدادٍ وتهيئة واستثمارٍ بعيد ومتوسط المدى، باعتبارها ذخيرة طبيعية رافعة لاقتصاد اجتماعي سياحي جبلي وقروي. ناهيك عما يوجد من قلة تثمين وقراءة لجهود المجتمع المدني في هذا الإطار، لِما بات من تجربة واسعة ميدانية محلية ومن نتائج استكشاف متزايدة. في هذه الورقة لا نتوجه بالعناية إلى مغارة “فريواطو” كمعلمة طبيعية مغربية شهيرة متفردة بكونيتها جمالا وإحيائية، ولعلها مجرى مائي عميق وقديم يعود إلى ملايين السنين قد يكون ازداد عمقاً لينتقل إلى مغارة “شيكر” المجاورة ضمن سياق جيولوجي تطوري ارتبط ببنية مجال ككل. ومن هنا، رهان الجمعية المغربية للاستغوار ذات الفضل الكبير من خلال أنشطة تعريفٍ وتواصلٍ وإشعاعٍ واستكشافٍ لعقود من الزمن، ليس فقط في تسليط الضوء على مركب مغاراتي الأوسع والأهم بالمغرب وإفريقيا والعالم، بل بلوغ نقطة تلاقي باطني بين مغارتين جارتين هما افريواطو وشيكر، حيث يُتوقع أن يكون بينهما مسلك رابط من شأنه السماح للاستغواريين بمزيد من البحث والولوجية، خاصة أنه عند وضع تقابل بين تصميم المغارتين يظهر أنهما متقاربتان جداً وأن الفرق بينهما يكمن في علو بين الأولى والثانية. هذه الورقة نتوجه بها إلى وجهة أخرى ضمن نفس مجال الاستغوار والكهوف والمغارات بالمنطقة، وجْهَة ذات تماس مجالي بمقدمة جبال الريف وعلاقة ببلاد قبيلة البرانس، تحديداً مجالها الغربي الغني بطبيعته وتراثه وتنوع إيكولوجيته وخصبه ومشاهده الطبيعية المتفردة. وجْهة جبلية تجمع بين علو ووعورة مسالك وتنوع مكون وتباين مشهد، أين توجد واحدة من أجمل مغارات المنطقة، والتي تعرف في الطوبونيميا المحلية ب”كهف الغار”. ولعله أيضاً اسم مركز قروي بموقع جبلي مقابل لقمم مرتفعات الريف بشمال إقليمتازة على بعد حوالي خمسين كلم. غير بعيد عنه نجد مغارة بأهمية وجمال وإثارة خاصة في التعرف والاستطلاع، كانت بعناية من قِبل مستكشفين عسكريين خلال سنوات الحماية الفرنسية الأولى على المغرب. وللإشارة، فقد نزلت إحدى الفرق العسكرية الفرنسية، في إطار عملياتها بالمنطقة 1916، على مقربة من هذه المغارة؛ وهو ما سمح لمغامرين منها بدخولها، ومن هنا بداية المعلومة حولها خاصة ما يتعلق بمعطياتها الجيولوجية ومكوناتها المورفولوجية. ولعلها مغارة على درجة من الأهمية مجالياً وجمالياً تلخص عملية حفر عبر ملايين السنين، من أجل فتحة باطنية ذات علاقة ببحيرة ماء صغيرة، يقطعها مجرى مائي مشكلا بذلك مصدر مياهها قبل أن ينتهي بمنخفض مجاور. وهذه المغارة التي هي بمثابة ممر Couloir مستقيم بطول يصل حوالي أربعمائة متر، هي بمدخل في الأعلى يشكل قبة Vaute بعلو تسعين مترا تقريباً تسكنه طيور برية متباينة النوع. وبالمقاطع الصخرية الداخلية Blocs يوجد معبر يسمح بالمرور إلى جانب مجرى مائي باطني، ويؤدي إلى جانب آخر نهائي للمغارة في الأسفل Aval . ومن المهم الإشارة إلى أن مغارة “كهف الغار” هذه هي بمكانة خاصة في تمثلات وذاكرة القبيلة المحيطة إلى درجة ما هو إجلال Culte. وعليه، لم يكن من السهل بلوغها وولوجها؛ لكونها توجد وسط تجمعات وفرق قبلية، ولأنها برمزية فيما هو إرث شعبي لامادي محلي. علماً أنها قد تكون بعمق أركيولوجي لا يزال بحاجة إلى أبحاث ودراسات، وأن من تمكن من دخولها خلال بداية فترة الحماية الفرنسية كان بخلفية استطلاعية تعرفية لا غير؛ فلا أحد وضعها ضمن رؤية بحث علمي، ما نعتقد أنه لا يزال قائماً فلا نعلم إن كانت هناك أبحاث أنجزت حول هذا المكون تخص بناءها وبنيتها وتميزها مجالياً وجيولوجياً وأركيولوجياً، وحتى وإن كانت قد شملتها دراسات فهي لا تزال مغمورة. كل ما هناك روايات شفوية عابرة للزمن الشعبي المحلي، تتحدث عن رسوم حيوانات بصخور هذه المغارة ما لم يخضع لأي تحقيق علمي، ليظل كل شيء مجرد تخمينات وفرضيات وقراءات شعبية عالقة، وليبقى كل هذا وذلك جزءا من ذاكرةِ مغارةٍ بحمولات ثقافية اجتماعية، لها موقعها في الإثارة والزيارة، ولها وقعها في التأمل والسؤال والترفيه والترويح والانفتاح على الطبيعة والخلق الطبيعي. وتعريفاً بتحفة "كهف الغار" التراثية الطبيعية ومن خلالها بمنطقة جبلية ساحرة المشاهد وتنويراً للمهتمين بالتراث الطبيعي الوطني، لتنظيم جولة إلى "كهف الغار" المغارة والقرية معاً هناك حاجة إلى يوم كامل تقريباً. ولعل الوجهة هي تازةالمدينة، ليكون الاتجاه منها إلى تايناست شمالا، إلى غاية بلدة "أحد امسيلة" بحوالي عشرين كلم قبل تجاوز وادي لحضر وأخذ طريق مركز "كهف الغار"، حيث مرتفعات مقدمة الريف ومغارتنا "كهف الغار"، التي على الرغم من محدودية طولها فهي بمجرى مائي باطني وتنوع بيئي تتقاسمه حياة برية نادرة وفضاءات داخلية كما فضاء "الجامع" بحسب ذاكرة الأهالي، فضاء بتكوين جيولوجي وجمال متفرد يجمع صواعد بنوازل عدة وبعلو يصل الثلاثين متراً. مع أهمية الإشارة إلى ما توجد عليه فتحة نهاية المغارة من مناظر ومشاهد بيئية قروية روعة، حيث بساتين أشجار مثمرة متنوعة وعيون مياه جارية وإطلالة على أسافل. زيارة يمكن أن تتخذ من ختامها طريقاً غير طريق القدوم الأول، عبر بلاد بني بيعلى ثم مركز أحد امسيلة، ومنه بعد قطع وادي لحمر يمكن بلوغ مركز واد أمليل حيث طريق فاستازة. ومنطقة "كهف الغار" وجهة برهان سياحي جبلي واعد إن هي تبلورت رؤى تنمية قروية تشاركية، تجمع معنيين من مجتمع مدني وشأن محلي وإطار جهة ومصالح وصية ومؤسسات بحث علمي وظيفي، ومراكز داعمة لرهانات إنمائية تستثمر ما هو طبيعي تراثي مادي ولامادي، من مركز سينمائي ومؤسسات إعلام ولقاءات علمية محلية وطنية ودولية، من شأنها قراءة الإمكانات وتدارس سبل وآليات تهيئةٍ وإعدادٍ ضمن ما هو جهوي جديد وتشاركي. ولعل مجال تازة بالنسبة إلى جهة "فاسمكناس" مخزون سياحي بعرض نوعي متنوع خام ومتفرد، بقدر ما يجمع بين ما هو طبيعي ثقافي وتاريخي بقدر ما هو رافع لقطاع سياحي جهوي واسع، إن هي توفرت إرادة تدبير من أجل مدارات سياحية جهوية أكثر تكاملا وجاذبية وفائدة على البلاد والعباد، مع ما يمكن أن يسهم به إعادة تشغيل مندوبية إقليمية للسياحة أو على الأقل إحداث مكتب سياحي بعدما تم إغلاقها قبل حوالي ثلاثة عقود، في أفق تنشيط سياحي إنمائي مع معنيين محلياً وجهوياً، وفي أفق خدمات إدارية وتنظيمية وتواصلية ومعها تسطير أولويات. *باحث في المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين – فاس مكناس