كان جوزيف مدمنا على القراءة و مشاهدة أفلام الأكشن، و كان قليل الأصدقاء، غزير الثقافة، و صموتا، و خجولا، و متهربا من مواجهة مشاكل الحياة. و كان في لحظات الهامه (التي لا تدوم طويلا بحكم عمله الشاق في التجارة) ينظم الشعر. لعل جوزيف، و هذا ليس اسمه الحقيقي لأن أصحابه على قلتهم لا يحلو لهم مناداته (يوسف)، و لكن جوزيف و أحيانا جو... لعل جوزيف الشخص الوحيد على وجه هذا الكوكب الذي يمكن أن تلجأ إليه قاصا عليه همومك و أحزانك، و لعله أنموذج لرجل منقرض و موجود خارج الواقع. إنه يستمع لك، و لا يقاطعك، و لكنه يحتفظ دائما بدمه البارد و سلبيته الأشد برودة من الثلج و هو ينصت إليك، و كن واثقا أنه في نهاية قصتك سوف يجود عليك بجملة واحدة : " ما تحكيه مهم بالنسبة لك، لكنه في مجرى الحياة الفياض بالمشاكل، لا قيمة له !". إن شخصية جوزيف الفريدة تجعله نقطة بداية فريدة و عجيبة لهذه القصة.. أراد جوزيف أن يكون أستاذ لغة اسبانية، لكن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن. سجل في الجامعة و بدأ يدرس بشغف منقطع النظير، لكن بمجرد حصوله على الماجستير في الأدب الاسباني، توفي والده بسكتة قلبية مفاجئة و وجد نفسه مسؤولا عن أم أرملة و عن نصف دزينة من الأيتام كلهم دون سن الثامنة عشرة، كما كان مرغما على أن يحمل على عاتقه تجارة المرحوم و أن لا يترك أموال والده الفقيد في مهب الريح. كان عمل جوزيف في التجارة مضنيا مليئا بالأخطاء. كان المقربون منه يقولون له : (لا تثق في أولاد الحرام المحيطين بك في التجارة. العالم غابة لا ترحم. أنت طيب و متسامح، لكن أداءك في العمل في غاية السوء، ليس لأنك سيء بل أنت في منتهى الطيبوبة، و لكن لأن العمل الجاد معناه المزيد من الحزم و مراقبة الصغيرة و الكبيرة و عدم الثقة فيمن تتعامل معه). و مع تراكم هذه الملاحظات التي كان جوزيف يأخذها على محمل شخصي و لا يذوق منها سوى طعم المرارة.. مع كثرة هذا الكلام الذي طالما اعتبره سلبيا، بدأ يكره التجارة، بل "أب التجارة". و في غيابة هذا الجب المظلم الذي يغذي حلكة سواده رهافة إحساس جوزيف، أصبح هذا الأخير يحس يوما بعد يوم بمرارة الفشل الذي كان دائما يدفعه الى هاوية الجحيم. و كان هذا الجحيم بكل بساطة هو الكآبة الثقيلة التي باتت تسربل روحه و قلبه و كل كيانه، و ظل هذا الاكتئاب لصيقا به لسنوات طويلة. كان لدى جوزيف متجر ضخم للمواد الغذائية، و كان يعمل تحت نفوذه أحد عشر عاملا، و كان يجني قدرا لا بأس به من الأرباح، لكن الكثير من المال كان يذهب سدى بحكم الخلل في التسيير و غالبا بفعل التساهل مع أخطاء الأجراء. و كان جوزيف يعود كل ليلة إلى البيت، و يحاول أن ينسى أيامه المفعمة بالشقاء و الضياع، فكان يشاهد الأفلام على الانترنت الفيلم تلو الآخر، مستعينا في سهراته الليلية بفواصل من موسيقى البلوز الحزينة، و التي كانت تترجم نوتاتها الكئيبة في كل مرة مشاعره الغارقة في البؤس و الغم. و كثيرا ما كان يستيقظ كل صباح قبيل الذهاب إلى العمل على الساعة السادسة، فيجد نفسه نائما على الأرض، ناهيك عن النور الذي يغمر غرفة النوم و الذي نسي إطفاءه في الليلة السابقة. يستيقظ و يجد أيضا آهات البلوز تملأ الغرفة، فيردد في قرارة نفسه : ( أنا أتعس انسان على وجه الارض. لكن تعاستي لا قيمة لها في مجرى الوجود الفياض بحكايات الألم. لا يهم." مضت خمس سنوات على هذا المنوال، خمس سنوات كان الجزء الأعظم منها ضبابا كثيفا من الشكوك و الشقاء اللامجدي في العمل و البكاء على ما ضاع من الأحلام. و في نهاية العام الخامس، أي بعد مئات الأيام من الفشل الذريع و الضجر و جلد الذات، اتخذ جوزيف أخطر قرار في حياته. سلم مفاتيح التجارة لأخيه الأصغر، و سجل في دورة تدريبية مكثفة في السياحة و الفندقة، على أمل الهروب مسافرا إلى بلد آخر و نسيان الماضي. جر عليه هذا القرار المجنون مزيدا من النقد و الكلام اللاذع، لكنه ختم أذنيه بالشمع الأحمر و قرر أن يتجاهل الجميع و يخرج من دائرة ما كان يسميه "الأوهام". و بعد انتهاء مدة دورته التدريبية، استجمع همته و كل نشاطه و بدأ يبحث عن عمل في السياحة. كان جوزيف يشجع نفسه قائلا : (يمكن أن أبقى في مربع الأمان الذي تمثله تجارتي الحالية، كما يمكن لي أن أمثل دور المسافر الباحث عن فرصة عمل و الذي يزج بنفسه في المجهول. لا يهم ! سأركب أمواج المجهول. سأفعل، مهما كان الثمن ! ). و بعد ثلاثة أسابيع، وجد جوزيف نفسه في مدريد يشتغل بالسياحة. و قبل سفره إلى إسبانيا، اشترى نسخة جديدة من رواية الخيميائي (التي قرأها خمس مرات)، و أهداها لصديقه الوحيد و الحميم محمد، كاتبا على صفحتها الأولى هذه الكلمات : (من لا يغامر لا يعيش. من يخاف من التغيير فهو حي ميت ! ) و جرت الأقدار برياح طيبة هذه المرة، أكثر من ذي قبل، و قيض لجوزيف أن يعمل في مدريد بأجر متوسط، لكنه محترم يمكنه من الحياة الكريمة. و أصبح يحس صاحبنا لأول مرة بعد أزيد من خمس سنوات من العدمية القاتلة... أصبح يحس نفسه انسانا ناجحا. إنه يعمل بالسياحة، و برنامج عمله مغر و جذاب فهو قائم على الحركة و كثرة الأسفار و التعرف على أناس من كل أجناس و ثقافات العالم، و لعل حياته الجديدةبمدريد قد خالفت كل توقعات عائلته و محيطه الاجتماعي، بما فيها توقعاته هو على وجه الخصوص. إن قصص الشبان من أمثال جوزيف تمثل الأنموذج الحي و المتحرك للحلم الكلاسيكي : رجل يناضل بكل قواه من أجل ما يريده و لا يستسلم، ثم ينال في نهاية المطاف مبتغاه و يحقق أكثر أحلامه عمقا و قوة. إن قصة جوزيف تشبه أفلام جيمس بوند و روايات رجل المستحيل، لأن بطلها يؤمن في نهاية الأمر بنفسه، و يتمكن (على رأي باولو كويليو) من صناعة مجده الشخصي. و لكن، لنعد الآن إلى قصة "نجاح" جوزيف و التي تمثل ظاهريا قمة سعادته و رضاه عن نفسه. دعونا نلق نظرة خاطفة على مشهد فريد من حياة جوزيف في مدريد : حتى بعد أن صار دائم التغيير و كثير الانفتاح في عمله السياحي، لم يكن ليثمن تحولات حياته الجديدة. بقي يحن الى أسرته و وطنه و يغرق كل ليلة في مستنقعات من الكآبة و هو يشاهد دون توقف أفلام الأكشن و يستمع لبلوزه الحزين. لعل جو، في العمق، لم يتذوق الطعم الأصلي للنجاح لأنه لم يكن راضيا و متقبلا لواقعه. تسلط ثقافتنا المعاصرة الكثير من الأضواء على الانجازات المادية و على الآمال العظيمة : كن غنيا، كن موهوبا، كن سريعا، كن وافر الانتاج، كن مدهشا، كن ناجحا، و إياك أن تفشل ! قم من نومك سعيدا و كرر عشر تأكيدات إيجابية بعد الألف و قل لنفسك دائما أن العالم ليس سلبيا البتة و لا يمكن أن يتغير من أجلك، بل إدراكك له هو الذي يفترض أن يتغير! بمعنى آخر، أن تكون محظوظا أو شقيا كلها مسألة إدراك للعالم، يعني كلها مسألة زاوية نظر ! توقف لحظة. فكر مليا في كل ما قيل... إن كل خبراء و أشباه خبراء علم النفس و التنمية الذاتية.. إن أغلبهم، إن لم يكن كلهم، يحصرون النجاح و الحصول على السعادة في المزيد، و المزيد، و المزيد. يعني ذلك المزيد من الأموال، و من العقارات، و من السيارات، و من الدولارات، و من الشركات، و من المشاريع، و من الأرباح، و من الأسهم في البورصة، و من الاستثمارات. المزيد، و المزيد، و لا شيء غير المزيد. إن نصائح هؤلاء "الخبراء" تنحو في اتجاه واحد: التركيز على ما تفتقر إليه عوض لفت الانتباه إلى ما كسبته و تقبله، بل تقديره و تعظيمه. ربما تجد صعوبة بالغة في تقبل نفسك وحياتك وربما الواقع الذي تعيشه. ربما لا تستحسن توقعاتك عن نفسك في المستقبل، أو لا يروق لك جانب من جوانب شخصيتك، أو لا يعجبك شكلك أو هندامك أو دخلك أو محيطك في بعض الأيام. من الشائع للناس أن يكونوا ناقدين لأنفسهم، ولكن هناك خمس طرق لتتعلم تقبل نفسك وحياتك. 1) حدد نقاط قوتك. من السهل جدا أن تنظر الى نفسك في المرآة وتستشعر انعدام الأمان. ولكن، بدلا من الاعتماد فقط على هذا التمرين الساذج ، جرب جرد و احصاء كل الأشياء التي تمثل حقيقتك. أرسم قائمة من نقاط القوة الخاصة بك، مثل الأشياء التي تجيدها والقيم التي تثبت عليها أنت وأصدقاؤك. إذا كنت تواجه مشكلة في تجميع الأفكار عن نقاط قوتك، اسأل صديقا لك أو أحد أفراد عائلتك عن أهم ما تتحلى به من خصال و صفات إيجابية. 2) كن صادقا مع نفسك. هذا واحد من أصعب الأمور التي يجب على معظمنا القيام به، ولكنها خطوة أساسية لإحداث التحول الحقيقي في حياتك. في العديد من المجتمعات المعاصرة التي تركز على نجاح الفرد، والتي تشجع على السعي للتميز، غالبا ما نبحث عن الاعتراف بالنجاح و نخجل من سماع النقد الذي نأخذه غالبا على محمل شخصي. حاول أن تكون صادقا مع نفسك، و تخيل أنك تراقب نفسك من خلال عيون شخص غريب. اسأل نفسك ماذا يعتقد هذا الشخص عنك. كُن موضوعياً قدر الإمكان و اسع الى رؤية ذاتك من الخارج. 3) اعترف بجميع أخطائك. تذكر شيئا في منتهى الأهمية و هو أنه لا يمكنك إصلاح مشكلة حتى تتمكن من الاعتراف بها أولا. يمكنك استعراض الأخطاء التي ارتكبتها على أساس أنها فرص ثمينة للتعلم، وطرق آمنة و سريعة للوصول الى أهدافك في الحياة. أنت قوة مذهلة شريطة أن تؤمن بنفسك. أدرك أنه يمكنك تغيير ذاتك. أنت فقط من يمكنه التحكم في مصيرك بعد الارادة العليا للخالق الكريم. حدد ما هو مهم بالنسبة لك وسخر عقلك و قلبك و روحك لهذا الهدف. اطرد الشكوك و الأوهام من حياتك و آمن بنفسك. عندما تدرك ادراكا عميقا لا يتزعزع أن الأخطاء فرص للتعلم و أن الفشل جميل لأنه بناء وأن واقعك ليس دائم الثبات، سوف تتسلح بالمزيد من التحدي، والمثابرة، و الرغبة في المغامرة و تجربة كل ما هو جديد. 4) التمس المساعدة المتخصصة. في بعض الأحيان يكون من الأسهل أو الأكثر كفاءة أن تطلب مساعدة خارجية من مهني متخصص. الطبيب المختص يمكن أن يساعدك على تعلم كيفية تقبل نفسك وتقبل واقعك. هذا الشخص يمكن أن يكون أيضا رجلا حكيما أو مستشارا مرخصا له أو أي مختص بعلم النفس. 5) مارس التأمل. يجب أن يُمارس التأمل في مكان هادئ وخالٍ من الضوضاء. تساعدك البيئة الهادئة في معظم الأحيان على التركيز التام على عملية التأمل وتجنب المشتتات المحيطة أو محفزات أنماط التفكير المزعجة. ابحث عن مكان هادئ تضمن فيه جلسة تأمل دون مقاطعة أو تدخل خارجي. سواء استمرت جلسة تأملك 5 دقائق أو نصف ساعة كاملة فالمهم هو ايجاد حالة من الهدوء العميق و السكون التام. لا يُشترط أن يكون مكان التأمل واسعًا، فغرفة نومك أو غرفة مطالعتك الصغيرة تفي بالغرض طالما أنها تحقق لك الخصوصية اللازمة للاندماج في التمرين. بالنسبة للمبتدئين في تمارين التأمل، من المهم تجنب أي مشتتات خارجية خلال المحاولات التأملية الأولى؛ باغلاق التلفزيون والهاتف المحمول وغيره من الأجهزة الالكترونية المشتتة للانتباه. إن فضّلت استخدام الموسيقى في عملية التأمل، فاختر نغمات هادئة متواترة لكي لا تكون سببًا في كسر تدفق تركيزك واندماجك في تمرين التأمل. يمكنك كذلك استعمال أصوات الطبيعة، كهدير الماء أو أمواج البحار أو حفيف الأشجار. و أخيرا لا تتوقع تحقيق نتائج فورية من أول محاولة لممارسة التأمل. لماذا؟ لأن هذه التمارين على أهميتها فإنها ليست تلك العصا السحرية التي ستحولك بين عشية و ضحاها لعالم صوفي أو صاحب كرامات روحانية، ولكنها لن تؤدي غرضها المتمثل في مساعدتك على تقبل حياتك و واقعك إلا إذا حررت نفسك من أي توقعات مسبقة ومارست التأمل لمجرد الاستمتاع به في حد ذاته. *خبير التواصل و التنمية الذاتية