إذا كان الفصل الخامس من الدستور قد نص على إدماج اللغة الأمازيغية في مجالات الحياة العامة ذات الأولوية باعتبارها لغة رسمية الى جانب اللغة العربية، فإن مجال العدل يدخل بطبيعته ضمن هذه المجالات، باعتبار ارتباطه الوثيق بحقوق المواطنين وبحرياتهم من جهة، وكذا بمبدأ السيادة الوطنية الذي يفرض استعمال هاتين اللغتين في محاكم المملكة من جهة اخرى. وأنه لهذه الأسباب قام القانون التنظيمي رقم: 16.26 المتعلق بتفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، المنصوص عليه في الفصل السالف الذكر بإدراج هذا القطاع ضمن المجالات العمومية المعنية بإدماج الأمازيغية فيها، محددا مدة خمسة عشرة سنة كحد أقصى لإنجاز هذا الإدماج. والجدير بالذكر أنه لا ينبغي الاعتقاد بأن مهمة الدولة في إدماج الأمازيغية في مجال التقاضي محصورة فقط في ما نصت عليه المادة 30 من هذا القانون التنظيمي، التي تجعل هذه المهمة مقتصرة على عمل وحيد ويتيم، يتمثل في تأهيل القضاة وموظفي المحاكم المعنيين باستعمال الأمازيغية، سعيا لكفالة حق التواصل بهذه اللغة للمتقاضين وللشهود الراغبين في استعمالها في إجراءات التقاضي. أقول لا ينبغي اعتقاد ذلك لأن المشرع إن كان في هذه المادة قد خاطب قطاع العدل بصفة خاصة ومباشرة، فإنه في مواد أخرى خاطبه بشكل غير مباشر عن طريق صيغ عامة مختلفة من مثل: (تعمل الإدارة)، أو (تعمل المؤسسات العمومية) أو (تعمل المرافق العمومية) أو غير ذلك الشيء الذي يجعل هذا القطاع - باعتباره مرفقا عموميا - معنيا بتطبيق احكام المواد: 6 – 11 – 21 – 24 – 25 – 26 – 27 – 28 – 29 – 30 – 32 - من القانون التنظيمي. وهكذا فإنه من جميع كل هذه المواد القانونية يمكن أن نستخلص ما هو مطلوب من هذا القطاع وكذا من الدولة القيام به من الأعمال تحقيقا لغاية إدماج الأمازيغية في ميدان التقاضي، كما يمكن أيضا أن نستخلص منها ما هي المرحلة التي حددها القانون لإنجاز مختلف هذه الأعمال. وأنه انطلاقا من احتساب المدة التي حددتها تلك المواد لكل عمل على حدة، يمكن تصنيف مختلف الأعمال المأمور بها في مجال العدل في ثلاثة أصناف هي: الصنف القصير المدى المتميز بمدته المحددة في خمس سنوات، والصنف المتوسط المدى المحدد في عشر سنوات، ثم الصنف الطويل المدى المحدد في خمسة عشر سنة. بالنسبة للصنف الأول القصير المدى: إعماله منصوص عليها في المواد 24 – 27 – 28 – 29 – من القانون التنظيمي وتتمثل في ما يلي: 1 - توفير بنيات الاستقبال والإرشاد في وزارة العدل وفي المحاكم التابعة لها باللغة الأمازيغية إلى جانب اللغة العربية، عملا بما نصت عليه المادة 24. 2- إدراج اللغة الأمازيغية بحرفها تيفيناغ إلى جانب اللغة العربية في اللوحات وعلامات التشوير المثبتة على الواجهات وداخل هذه المرافق العمومية طبقا لأحكام المادة 27. 3- كتابتها في مختلف وسائل النقل التابعة لهذه المرافق، تنفيذا للمادة 28. 4- توفير الخدمات الصوتية بهذه اللغة الى جانب اللغة العربية، واستعمالها في الحملات التحسيسية والتواصلية عبر مختلف الوسائل والدعائم خاصة منها السمعية البصرية كما تقضي بذلك المادة 29. وبخصوص هذا العمل الأخير المتمثل في الخدمات الصوتية يمكن القول إن كل ما تقوم به المحاكم من خدمات في هذا المضمار يقتصر فقط على أمرين اثنين: أ- الأمر الأول يتمثل في الإعلان عن عقد الجلسات بلفظة (محكمة) التي ينطق بها بصوت عال أحد الأعوان، إيذانا بدخول الهيئة الحاكمة إلى مجلس القضاء. ب- أما الأمر الثاني فيتجلى في افتتاح الجلسة من طرف القاضي أو رئيس الجلسة، بالعبارة المعلومة التالية: (بسم جلالة الملك نعلن عن افتتاح الجلسة). لذا فالمطلوب من وزارة العدل أن تعمل على تقديم هذه الخدمات الصوتية في المحاكم باللغة الأمازيغية إلى جانب اللغة العربية. وأعتقد أن القيام بذلك ممكن الشروع فيه في الحال لسهولته من جهة، وعدم الحاجة في إنجازه الى أية امكانيات بشرية أو مادية او مالية من جهة اخرى، على اعتبار أنه لا يتطلب سوى ترجمة لفظة "محكمة" وكذا عبارة (بسم جلالة الملك نعلن عن افتتاح الجلسة) بالأمازيغية، مع تكليف المأمورين بالنطق بها بحفظها، أو السماح لهم مؤقتا بقراءتها، في انتظار تمكنهم من هذا الحفظ. ومن المحقق أن القيام بهذا الإجراء إن كان في مظهره بسيطا وضئيلا فإنه يحمل في طياته رمزية معنوية عظيمة وكبيرة، تتمثل في تجسيده جزئيا لمبدأ السيادة الوطنية، التي تفرض ضرورة استعمال اللغتين الرسميتين العربية والأمازيغية في محاكم المملكة وذلك في انتظار استكمال الحضور الكلي للأمازيغية في مجال العدل، بعد تمام كل مراحل إدماجها فيه. وبالنسبة للصنف الثاني المتوسط المدى: فإن إعماله منصوص عليها في المواد 6 – 21 – 26 – 30 – وتتجلى في ما يلي: 1- تحرير مختلف الشواهد والمطبوعات المسلمة من قبل الوزارة ومن المحاكم باللغة الأمازيغية، تطبيقا لأحكام الفقرة الأخيرة من المادة 21. وبخصوص هذا العمل أيضا تجدر الإشارة إلى أنه إن كان إنجازه يتطلب بالفعل كل تلك المرحلة الطويلة نسبيا، أي عشر سنوات، لما يفرضه من توفير الإمكانيات البشرية والمادية والمالية اللازمة، فإنه نظرا لضرورة حضور الأمازيغية في هذه الشواهد والمطبوعات تجسيدا للسيادة الوطنية، يمكن مؤقتا الاكتفاء بتسجيل هذا الحضور بصفة رمزية، في انتظار اكتماله بعد تمام مرحلة الإدماج الكلي. ويتم تكريس هذا الحضور الرمزي في شيئين هما: أ– كتابة الأمازيغية بحرفها تيفيناغ في رأسية: les entètes هذه الشواهد والمطبوعات. ب- طبع صيغة ((باسم جلالة الملك)) بالأمازيغية إلى جانب العربية في نسخ الأحكام. وأنه بالنظر كذلك لما يتسم به تحقيق هذا الحضور الرمزي للأمازيغية في تلك الوثائق من سهولة ويسر، وكذا من قلة الإمكانيات البشرية والمادية وحتى المالية فيمكن الشروع فيه في الحين، لما له من الارتباط بالسيادة الوطنية التي هي فوق كل اعتبار. 2 - إدراج الأمازيغية إلى جانب اللغة العربية في المواقع الإلكترونية الإخبارية للوزارة وللمحاكم، عملا بالمادة 26. 3- تأهيل القضاة وموظفي المحاكم المعنيين باستعمال الأمازيغية لكفالة حق التواصل بها للمتقاضين وللشهود الراغبين في ذلك، سواء خلال الجلسات، أو خلال إجراءات البحث والتحري، وكذا الاستنطاق أمام النيابة العامة، وأمام قاضي التحقيق ثم خلال إجراءات التبليغ والطعون والتنفيذ، كما تقضي بذلك المادة 30. 4- العمل على اعتماد اللغة الأمازيغية في المعهد القضائي، وكذا في سائر مؤسسات تكوين الموارد البشرية، التي لها صلة مباشرة بمجال التقاضي تطبيقا للمادة السادسة. 5- العمل على خلق امتيازات ومكافآت مالية ومعنوية، لموظفي العدل قصد تشجيعهم وتحفيزهم على تعلم اللغة الأمازيغية. 6 - العمل وفقا لنفس هذه المادة بالتنسيق مع الوزارة المكلفة بالتعليم العالي على إحداث مسالك تكوينية ووحدات للبحث المتخصص في اللغة الأمازيغية في كل من كلية الحقوق والعلوم القانونية والمدرسة الإدارية ومدرسة تكوين الأطر على اعتبار ما تشكله هذه المؤسسات من بؤر تكوينية أولى للمتخرجين منها، الراغبين منهم في الالتحاق بالمهن القضائية كالمحاماة والتوثيق والأمن ورجال السلطة في إطار استكمال تأهيلهم بهذه اللغة في المعهد القضائي أو في معاهد خاصة أخرى. ومما لا شك فيه أن قيام المصالح العمومية الأخرى كوزارة كالصحة والفلاحة والأوقاف والاقتصاد وغير ذلك، باعتمادها كذلك للأمازيغية في المعاهد التابعة لها تنفيذا لمقتضيات هذه المادة سيؤدي لا محالة بأصحاب المهن القضائية الأخرى كالتراجمة والخبراء والمحاسبين والعدول إلى اكتسابهم اللغة الأمازيغية التي تساعدهم في التقاضي. أما بالنسبة للصنف الثالث الأخير الطويل المدى: فقد حدد المشرع إعماله في المادتين 11 – 23 - وهي على الشكل التالي: 1- نشر النصوص التشريعية والتنظيمية ذات الصبغة العامة في الجريدة الرسمية باللغة الامازيغية. 2- توفير المطبوعات الرسمية الموجهة للعموم باللغة الامازيغية الى جانب العربية. ومما يلاحظ أن القانون التنظيمي إن لم يكن قد ذكر هذين العملين في الباب الخاص بمجال التقاضي فإنه قد ذكرهما في البابين المتعلقين ب "إدماج الأمازيغية في مجال التشريع والتنظيم والعمل البرلماني" وكذا "باب استعمال الأمازيغية بالإدارات وسائر المرافق العمومية "الذي وجه المشرع فيهما خطابه إلى الإدارة بصفة عامة ما يجعل وزارة العدل معنية بإنجازهما باعتبارها إدارة عمومية. وبالفعل فإن إدماج هذه اللغة في قطاع العدل سيصبح بالتأكيد إجراء عبثيا فارغ المحتوى، إن لم يصحبه توفير القوانين والنصوص التشريعية بالأمازيغية اللازمة للتقاضي بهذه اللغة. غير أن الأدهى من هذا هو أن عدم نشر القوانين بالأمازيغية في الجريدة الرسمية لا يجعل عملية هذا الإدماج فاقدة للروح والمعنى فحسب، بل يطعن ككل في مشروعية القوانين برمتها لثبوت حرمان المواطنين الناطقين بالأمازيغية من التمتع بحقهم الطبيعي في العلم بالقانون وفي معرفته هذا الحق، الذي يعتبر في عرف علم القانون وفي علم السياسة من الحقوق الجوهرية الأولى للمواطن الواجب ضمانه باعتباره شرطا أساسيا في نفاذ أي قانون. وفضلا عن ذلك فإن انتفاء هذا النشر يمس في الصميم بحق مساواة المواطنين أمام القانون هذا الحق المضمون بالفصل السادس من الدستور، كما أنه يكرس كذلك عيب الميز العنصري بسبب اللغة لثبوت نشر القوانين بالعربية وبالفرنسية في الجريدة الرسمية دون الأمازيغية. إذن لكل هذه الاعتبارات يكتسي نشر القوانين بالأمازيغية أهمية قصوى بالغة الشيء الذي يستدعي إعطاءه طابع الأولوية. وإنه لأجل بلوغ هذه الغاية فإنه مطلوب بداية التعجيل بإحداث لجنة خاصة للترجمة، يعهد إليها بترجمة النصوص التشريعية ذات الصبغة العامة إلى الأمازيغية مع تكليفها بإنجازها في غضون كل سنة لأحد القوانين التالية: - الدستور. - القانون الجنائي. - المسطرة الجنائية. - القانون المدني. - المسطرة المدنية. - مدونة القانون التجاري. - مدونة الأسرة. - مدونة الشغل. - مدونة الحقوق العينية. - مدونة السير. ولكي يتسنى لهذه اللجنة القيام بمهمتها في الآجال المحددة لها دون ضغط أو تسرع أو ارتجال، ينبغي أن تتألف من العدد الكافي من الأعضاء الذين يتوفر فيهم شرط العلم بالقانون من جهة وكذا شرط معرفة اللغة الأمازيغية، كما ينبغي كذلك تطعيمها بخبراء في اللغة الأمازيغية المعيارية لمساعدة اللجنة على صياغة النص القانوني النهائي المترجم بلغة معيارية سليمة في معناها وكذا في مبناها.