ولأنها خيالية، فأحداث هذه القصة، أو جزء منها، خليقة أن تحدث في أي زمان وأي مكان... باختصار مُخلّ: الخيط الثالث في مجال الكهرباء هو ذلك الخيط الذي غالبا ما يكون لونه أخضر أو أخضر مخطط بالأصفر، والذي يُسمى في لغة الإفرنج تجاوزا ب la masse أو la terre .وظيفته الأساسية هي وقاية المستعمل للآلات الكهربائية وذلك بتصريف الشحنة الكهربائية نحو الأرض بدل أن تصعق المستعمل. من النظرة الأولى، لن تصدِّق أن هذا الشخص هو سِّي بنموسى... أكيد أنك سمعت بهذا الاسم أكثر من مرّة... إن لم يكن الأمر كذلك فما عليك إلاّ أن تتأكد من سمْعك أو تتحقَّق من انتمائك للمدينة... لباس عاد، أو بالأحرى يبدو كذلك، لأنه في الحقيقة ليست كذلك. وجسم رشيق لا يتدلّى من جنباته فائض الدهنيات، ويدان خالية من أي حُليّ عدا ساعة يدوية قد توَسوُس لك تِلكم الأمّارة بالسوء أن باستطاعتك اقتناء واحدة مثلها... ببساطة إذا أردتَ أن تصف لأحد ما شكلَ سِّي بنموسى فقل له إنه من النوع "السهل الممتنع"، فإن ألِفتَ فيه نوعاً من الغباء وتكلُّسا في الدماغ فقل له: إن لباس سي بنموسى عاد، أو بالأحرى يبدو كذلك، لأنه في الحقيقة ليست كذلك.... (انظر أعلاه) ... وكما لباسه، فجلسة سِّي بنموسى أيضا تبدو متواضعة، لكن يُشتَم منها ثقة في النفس. ثقة ستتبرَّجُ في النبرة ''الراديوفونية" التي تُذكِّرني بالرئيس التشادي السابق حسن هبري. على أن أخطر ما يتميَّز به سّي بنموسى هي تلك النظرة الباردة التي يُسدِّدها مباشرة إلى عين من يخاطبه. نظرة يضاهي بها فْلادمير بوتين، وغالباً ما يشفعها بملامح جلمودية لا يرْشح منها أي تعبير. في الواقع كلما رأيت سي بنموسى، على قلة ما أراه، إلا وأتذكر كتاب "مذكرات ثورة الصبّار" لعبد الرحمان يوسف الذي وصف وجه المرحوم عمر سليمان بكونه "يشبه بوابة مصفحة مضادة للرصاص عازلة للصوت". البعض يقول إن سِّي بنموسى له "ملامح الداخلية"، أي تعابير وجه أُطر وزارة الداخلية. أما أنا فأربأ بنفسي عن هذا الوصف على الأقل لسببين، أوَّلا فمنذُ طفولتنا وأبي يحذِّرنا من الثلاثي الذي لا يقبل المزاح: البحر والنار و"الداخلية"، وحَسْبي ما أقترفه من غيبة ونميمة في حق سي بنموسى، ولا رغبة لي في مشاكل أُخرى. أمّا السبب الثاني فهي لَمياء، رئيسة قسم الحفلات والأنشطة الترفيهية التابع لولاية المدينة. صحيح أنها شابة لا تجربة لها في مجال الإدارة، وصحيح أن تعيينها جاء بتوصيات من الأعلى، لكن أن تقارن ملامح سِّي بنموسى بِوجه لمياء الطفولي المليح فذاك هو عيْن البهتان وأنْفه. والحق أحقُّ أن يقال رغم إعجابي بالكاريزما التي يتمتع بها سي بنموسى. كل ما أستطيع قوله هو اعتقادي، والله أعلم، أن الصرامة أو القناع التي يعلقها سّي بنموسى على وجهه ليست سوى ملامح "وظيفيَّة " يستخدمها أثناء المعارك الشبه يومية التي يخوضها مع المستخدمين والوسطاء والمنافسين. وكأنك تفكر في الخوذة التي كان فرسان أوروبا يلبسونها في القرون الوسطى، نعم يمكن اعتبار الأمر كذلك. والدليل على صدق ما أسْررتُه لك هي بعض الوداعة التي تبدو الآن على مُحيّا الرجل. ألم أقل إنك لن تصدِّق بِكوْنّ هذا الشخص هو المقاول الشرس سِّي بنموسى؟ أفهم من كلامك أنك تنفي تهمة القتل غير العمد الموجهة إليك؟ قهقه سِّي بنموسى، تهمة القتل مرة واحدة...؟ سيدي الوكيل، المرأة أصيبت بصدمة كهربائية لأن الثلاجة قديمة... هذا كل ما في الأمر. لكن ابنها المشتكي، يؤكد أنه لا يوجد خيط ثالت في مأخذ الكهرباء. هذا المراهق، لقد تَخرّج حديثاً من معهد التكوين المهني، شعبة الكهرباء، ويحاول أن يطبق فينا نظريات السلامة البئيسة التي درسها... دعْه لي، سأتولّى أمره. ولعلّك تعرف أن من حرَّضه على رفع هذه الدعوى هي إحدى الجمعيات المسماة بالحقوقية... وأصدُقُك القول أنِّي أغبط هؤلاء الأوباش على فائض الوقت الذي يمتلكونه كي يهتموا بالتفاهات. لكن ذلك لا يرفع عنك المسؤولية. -مسؤولية قيام عزرائيل بواجبه ...؟ -بل مسؤولية التسبب في موت المرأة. تغيرت قليلا تعابير وجه سّي بن موسى، دون أن تُنبئ عن غضب أو خوف... حذق في الفراغ، أخذ يحرك رأسه بهدوء، بدأ يردد بصوت خافت يشبه الهذيان: -المسؤلية.. المسؤلية... ثم نقل عينيه إلى الوكيل وقال له: صَدقتَ... يجب أن تُلقى مسؤولية وفاة المرأة على أحد ما... أو ربما آحاد... بدا أن الوكيل لم يكن ينتظر هذا الجواب، وطبعاً شعر سِّي بنموسى بارتباكه فبادره بعد أن استرجع صوته الحيويّة: - سيدي الوكيل، هل يمكنني أن أحكي لك القصة باختصار؟ نعم تفضل... هل تذكر كريان الصومال الذي كان موجودا في مدخل المدينة؟ في الواقع أنا حديث العهد بالمدينة ... جميل، إذن سأقول لك ما شئت دون خوف من أن تكتشف كذبي.. قهقه الرجلان. ثم أتم السي بنموسى كلامه " كما العديد من "البؤر البشرية" المتناثرة في البلاد، كان الكريان "خارج التغطية"، اللهم أثناء الحملات الانتخابية. ولم تبرز أهمية المنطقة إلا بعد التفكير في مشروع الطريق السيّار. وكما فعل مع مشرع سد التنمية، أرسل الوزير سي عبد الحي كوهن الأندلسي سماسرته لشراء الأراضي من الفلاحين مستبقاً خروج المشروع للعلن. ورغم أن الكريان بَعيد نسبيًا عن المسار المبدئي للطريق السيار، ورغم سوابقه المُرّة مع كرْيانات أُخرى، إلا أنّ سي عبد الحي جرَّب حظه مع كريان الصومال. ومن حسن حظِّه اكتشف سعادة الوزير، وبعد إمعان في البحث والتنقيب، أن الكريان مقام على أرض مجهول صاحبها. ولك أن تتخيل باقي السيناريو. باتت الأرض باسم حرم السيد الوزير، وتغيَّر مسار الطريق السيار. وأمسى سي الأندلسي يُسيطر عمليا على جلِّ الأراضي التي سَيمرُّ عبرها الطريق السيار. ولأن سي عبد الحي رجل حقّاني ولا يحب الظلم، فقد أعطى تعليماته بِأنْ تتم إجراءات نزع الملكية بشكل "توافقي يأخذ بعين الاعتبار مصلحة جميع الأطراف"، هكذا جاء في المذكرة التي أرسلها إلى "المصالح المعنية". ورغم أن المصطلح الوارد في المذكرة كان هو "ثمن معقول "، لكن في الواقع كان معقولا جداً إلى درجة اللاّمعقول... وكما في مشروع السّد، باعت اليمنى لليسرى... ولِيَحْيَا الوطن. وحين أزفت الآزفة، أو كادت، ثم إبلاغ "أهل الصومال" أن عليهم مغادرة الدّوار. طبعاً لن أسرد عليك تفاصيل المواجهات والمفاوضات. أقصى ما عُرض على السكان كان هو نقلهم إلى مساكن جديدة على أن يؤدوا مبلغاً وُصف بكونه نصف ثمن الشقة. ورغم أن بعض "الميسورين" من سكان الكريان استحسنوا العرض، لكن الغالبية رفضتْه. في الأخير جاء الفرج بعد أن تدخّل "إسكوبار" والْتزم بأداء مستحقات السكان". لا أظن أن سي بنموسى استغرب من عدم استغراب الوكيل عند سماعه اسم إسكوبار ف"خاي عبد القادر" معروف بمعروفه وبأياديه البيضاء.. ولولا أن المرصد الأوروبي لمكافحة المخدرات يضعه في مقدمة لائحته لكان له مستقبل سياسي واعد. ربَّاه ماذا دهاني؟... لماذا أريد لَخاي عبد القادر أن يُمسخَ إلى كائن سياسوي . ربَّاه، قد علمتَ أنّه قد حلَّ بنا زمان نُخيّر فيه بين سياسيّ معتوه وكريم مشبوه... غفرانك ربِّي، ما عهدنا إسكوبار إلّا شهمًا مِعطاءً ً، حتى أن بعض الظرفاء يلقِّبونه بسفير النوايا الحسنة، وليس لي إلا أن أُزكِّي ذلك. ولن أتجاوز الحقيقة إن قلت إن "الجناح الخيري" لِأنشطة إسكوبار يتداخل على الأقل مع ثلاث وزارات؛ التضامن الاجتماعي، الأوقاف والشباب. وكأني أنظر إلى وجوه البعض وقد بدا عليها الامتعاض لأني لم أتطرق إلى وزارة الصحة... لم ولن أفعل ذلك لأن وزير الصحة كان قد نفى أي علاقة له ولِوزارته بإسكوبار. ولأني كما أخبرتكم آنفاً (ٱنظر أعلاه)، لا رغبة لي بأي مشاكل إضافية، فلن أحاول تكذيب الوزير... ولنعدْ إلى الحوار المملّ الذي كنّا بصدده... قلت لكم أن سّي بنموسى أخبر الوكيل بأن إسكوبار تدخل في آخر المطاف لِحلحلة الوضع... - لكن لماذا لم يتدخل سِّي الغَرباوي من البداية؟ سأل الوكيل... حتْماً، لم تفوِّتّ "ثُعلبانية" سِّي بنموسى إصرار الوكيل على النطق بالاسم العائلي لِخاي عبد القادر، وقِلَّة هم من يعرفونه. لكنّه لم يتوقف كثيرا للتحليل وقراءة الرسالة إن كان هناك أصلا رسالة. - فِعْلا لا علم لي.. ولا يهمني كثيرًا أن أعلم... كل ما في الأمر هو أن المناقصة المشؤومة لمشروع "حي النّزاهة"، حيث رحِّل سكان الكريان، رست علينا كما كان متوقّعاً. أستاذ بنموسى، شكرا على هذه النبذة، كما أنّي أعترف لك أني لم أطّلع على دفتر التحملات، لكن حسب علمي فالخيط الثالث أصبح تحصيل حاصل في الكهرباء المنزلية. -أُثمن "اعترافك" سيدي الوكيل، ولن أستخدمه ضدك... ضحك الرجلان.. ثم أردف سي بنموس: لكن دعني أنا أيضا أعترف لك ببعض الأمور... - تفضل ... -مشروع "حي النَّزاهة" في حد ذاته كان إحراجاً لي ليس أكثر، أو لِنقل أنه كان ثمن مسبق للحصول على مشاريع مستقبلية. -بمعنى...؟ -بمعنى أنّ سي الأندلسي طلب مني أن أدخل المناقصة بأقل سعر ممكن، لأن التعويضات التي دفعتها الوزارة كان مبالغا فيها، ولم يكن السيد الوزير يَودّ للمشروع بِرمّته أن يتجاوز الغلاف المالي المرصود له، خاصة وأن الجزء الأكبر كان هبة من إحدى الدول والباقي قرض من برنامج الأممالمتحدة للتنمية. -وما ذا استفذت من هذا المشروع إذن ... -قلت لك إنه الثمن أو جزء من الثمن للحصول على مشاريع أُخرى. هناك مثلا "مدينة الرحمة الاستشفائية"، المركب السياحي "بلادي"، مجموعة المدارس الحرّة "الأخلاق الحميدة"... - لكن هذه المشاريع لا تدخل في مجال اختصاص وزارة كوهن الأندلسي... -سيدي الوكيل، الكعك لا يوزع في الوزارات... جُلّ المشاريع الكبرى، خاصة أو عمومية، تُدرس في نادي الغولف "الأخوّة"، أو في مقر حزب "الشفافية والدمقراطية"... حرَّك الوكيل رأسه بدون أي انفعال وكأنه يقول: صدقت... ثم استطرد سي بنموسي: -ولكن ما عكّر مزاجنا هو اللعنة التي أصابت مشروع "حي النَّزاهة". - ماذا وقع... -تبيّن أن الأرض المخصصة للعمارات كانتْ موْقِعا أثرياً قبل أن يطمره أحدهم. - غريب ... لماذا فعل ذلك... - إنها آثار اكتُشِفت في فترة الانتداب ثم تعرضت للإهمال وأمثالها كُثّر... ولست أدري أي شيطان أوحى إلى واحد من "ورثة " مجلس المدينة بِأنْْ يطمر ما تبقى من تلكم الأحجار... قيل لي إنه كان يتحيّن الفرصة للانقضاض على الأرض. -ولمن تعود هذه الآثار؟ -يقال والله أعلم أنها تعود للبونيقيين ... - من أين أتى هؤلاء البونيقيين... - حقيقة لست أهتم كثيراً لا من أين أتوا ولا إلى أي جهنم ذهبوا... ما يهمني هو أن مهندساً غبيّاً أبلغ مندوبية وزارة الثقافة بالمدينة، ليصل الخبر في نهاية المطاف إلى الوزير سِّي سلاّم الودغيري وما أدراك ما سّي سلاّم... -مسلسل مكسيكي... - لِنقُلْ تركي... ولكن أقصر قليلا من "سامحيني"... -وكيف انتهت الأمور.. - المعروف عن سلاّم الودغيري أنه ديناصور سياسي مزاجي لأقصى حد. والذين تعاملوا معه يقولون إنه من هواة سياسة "حافة الهاوية". - نتفاهم وإلّا فالكارثة... - أحسنت... ويبدو أنه اتصل بأسامة أنور عكاشة كي يحصل على السيناريو... - كيف ذلك...؟ - عقلية مثخنة بالمؤامرات والدسائس ماذا تتنظر منها؟... المهم، هدد سيادة وزير الثقافة بالتواصل مع اليونيسكو لإعلان الموقع الأثري ثراثا إنسانيّا. - لا أظن أن له الحق في اتخاذ هذا القرار بشكل انفرادي... - سيدي الوكيل، علمتني الحياة ألاّ أبالي كثيرا بمن عنده الحق بلْ بمن عنده القدرة على الفِعل. وحسب علمي فالوزير سلاّم الودغيري قُدرته على خلق المشاكل أكبر بكثير من قدرته على تسيير وزارة. - وما هو الثمن المطلوب... - لم يكن يعرف ماذا يريد... أنبأته حاسته أن ثمة غنائم وُزِّعتْ من وراء ظهره ولا بد له من "سهم ". ثُم...؟ - ثُمّ... ثمّ قمنا بتعديل التصميم الأولي، حيث أُلغيتْ المساحة الخضراء المخصصة لِلْحَيّ وأبدلناها بعمارة مكونة من عشرين شقة خُصصتْ لإخماد نار الغيرة على أطلال البونيقيين... -لكن بالله عليك، هل تظن فعلا أنك بتوفير بضع مئات من أمتار الخيط الكهربائي ستمتص النفقات الإضافية... - قلت لك أننا منذ البداية لم ندخل هذا المشروع اللعين من أجل الربح، لقد دخلنا للتغطية على سي الأندلسي...... ثم إن بضع مئات من الخيط وبضع أطنان من الإسمنت، وأحجام أأصغر من الحديد، وسُمك أقل من الأسفلت، واقتطاعات من هنا هناك، كل ذلك ساعدنا على تغطية جزء من تكاليف عمارة البونيقيين.... ولكي أكون أكثر وضوحاً نحن في النهاية لم نخسر، لكن الربح كان شبه رمزي. وها أنت ترى العاقبة، امرأة توفيت إثر صعقة كهربائية. لو كنتم احترمتم شروط السلامة لما وقعت الحادثة. سيدي الوكيل، الأعمار بيد الله. ما العمل إذن...؟ نحن رهن إشارة القانون، وفي خدمة رجال القانون. ابتسم الرجلان. في الأخير، أؤكد لكم أنّي استنفذتُ كل جهدي في التركيز كي أنقل لكم الحوار كما أظنني سمعته. لكن، ولكي أبرّئ ذمتي، أعترف أن "سند" الرواية مهترئ ومعلول. "سنَد" يبتدئ بشخص مثلي كثير السرحان عن لمياء ذات الوجه المليح الطفولي والتي تتولى منصباً يتجاوز إمكانياتها بأشواط، عن أمّها الثرثارة، عن جارتهم الجديدة، نعيمة زوجة الوكيل والتي لا تحب زوجها، عن الوكيل الذي سمعتُ أن انتقاله إلى مدينتنا كان قرارا تأديبيا. ورغم كل العاهات التي تعاني منها حلقات هذه السلسة فإن الأمر لا يقلقني كثيرا. ما يخيفني بِحق هي الأجيال القادمة التي ستروي عنا هذه الحكاية. سيكون فيهم متعاطفون مع الوكيل ومستفيدون من أريحية إسكوبار، وأشياع سلام الودغيري وأتباع عبد الحي كوهن الأندلسي وربما أيضاً "جمعية حماية تراث المدينة"، التي ينتمي إليها المهندس "الغبي" وطبعا ورثة سي بنموسى... كل هؤلاء ومن سينشق عنهم سيزيدون وينقصون في القصة التي رويتها لكم الآن... سيختلفون في التأويل ومن بعد ذلك سيكون التكذيب، فالتخوين فالتقتيل... سحقاً للجهالة... لذلك ولأسباب أخرى، وحتّى لا أبوء بإثم أحد، قررت الانسحاب من هذه السلسة وسأقنع لمياء ذات الوجه المليح الطفولي وأمها الثرثارة أن تَقتديا بي... ولكي أُثبت أني لست باللؤم الذي تعتقدونه فسأربطكم مباشرة بنعيمة زوجة الوكيل التي لا تحبه. وستتكفل هي ببقية القصة. خاصة وأنها تدّعي أنها عاشتها شخصياً، والعهدة عليها... - تفضلي لَلّا نعيمة... - شكراً الأخ يوسف... - العفو أستاذتي الفاضلة... - في الأسبوع الماضي كنت أعد العشاء، وكان كريم ابني ذو الثلاث سنوات يلعب على أرضية المطبخ. فجأة سمعتُ فرقعة صغيرة، انطفأ المصباح على إثرها وشرع كريم في الصراخ، فرقعة، صراخ وظلام، ثلاثي لعين أحدث تسونامي من الأدريالين في جسمي... مدفوعة بغريزة الأمومة كان أول ردة فعل لي هو الانقضاض على كريم واحتضانه... تنبَّهت إلى أن باقي المنزل ما زال مُضاءً. وضعتُ كريم فوق أحد الكراسي وكان قد بدأ يهدأ، تم توجهت إلى حيث قاطعات الدارات الكهربائية disjoncteurs. وبالفعل وجدت إحداها في وضعية مغايرة، أعدت رفعها فعاد النور إلى المطبخ. التفتت إلى حيث كان كريم يلعب فرأيت مفتاح براغي (tournvis) دقيقا مرمي عل الأرض. خمَّنْتُ بأن كريم أثناء لعبه أدخل المفتاح في مأخذ الكهرباء، ومن لطف الله أن قاطع الدرة اشتغل... كان شريف جالساً يدخن في الشُّرفة المُطلّة على الكازينو، ومن عادته إغلاق الباب كي يجنبنا رائحة ذاك السم الذي يستنشقه، لذلك لم ينتبه إلى صراخ ابننا كريم. وبالإضافة إلى عادة التدخين اكتسب شريف عادة أخرى منذ أن انتقلنا إلى هذا المنزل وهي مراقبة روّاد الكازينو من الشّرفة والتدقيق في ماركات سياراتهم ولباسهم ومُرافِقاتهم. وأكاد أجزم أنه يعرف متى سيصل بعضهم... بعد الانتهاء مِن إعداد العشاء، وضعت الصحون في عربة صغيرة ودفعتها نحو الشرفة. وأنا أوظِّب المائدة، أخبرت شريف بفِعلة كريم وكيف انتفض قلبي بين ضلوعي. ابتسم زوجي وقال بهدوء: لقد أكد لي سِّي بنموسى أن كل معايير السلامة محترمة في عمارته هاته. كان شريف يأكل ومن حين لآخر يلقي نظرة على مربض السيارات التابع للكازينو، فجأة ابتسم وأشار إلى سيارة سوداء ثم قال: انظري من هناك... خمس سنوات من الزواج وما زال شريف لا يريد أن يفهم أني أمقت هذا الطلب بالذات، النظر إلى البعد... التقطتُ نظَّارته الموضوعة أمامه ووضعتها على عيني... كانت سيارة سوداء من نوع أودي تحمل أرقام خاصة تبتدئ بالحرفين: م.ص (وتعني مصلحة عمومية) مكتوبة باللون الأخضر وطبعا تعرفت على سائقها الأنيق دائماً : - سامي، جارنا القديم ... - نعم ... المسخوط، كل سبت يقطع أكثر من 300 كلم يلعب في الكازينو ثم يعود في نفس الليلة... عدت إلى عشائي وعاد شريف إلى نقل عينيه بين الصحن والكازينو. ثم سرعان ما أشار لي إلى سيارة من نوع ميني فان، بدت وكأنها تابعة لشركة ما... دققت النظر فرأيتُ شيئاً يشبه شعار شركة بنموسى للإنعاش العقاري. خرج من السيارة شاب رأسه يلمع، يبدو أنه أثخنه بجيل أشعر... -هل هو ابن سي بن موسى؟ سألتُ شريف... -هذا هو سببنا المباشر في امتلاك هذه الشقة، إنه جعفر ابن "مِّي فاطمة"، المرأة التي ماتت بصعقة كهربائية في حي النزاهة والتي أطلقت عليها بعض الصحف يومها لقب شهيدة الخيط الثالث. عدت إلى صِحني، وعاد شريف إلى إحصاء وتمحيص رُوّاد الكازينو وبين الفينة والأخرى كنت أرمق كريم وهو يلعب داخل البيت. أصْدُقكم القول، ليست المرّة الأولى التي أسمع فيها عن حادثة الخيط الثالث. حتى لمياء ذات الوجه الطفولي المليح بنت جارتي الثرثارة كانت تُكلمني أحياناً عن بعض الإشاعات التي ينقلها خطيبها المجنون، الذي يحب أن يُنادى ب "سي يوسف"... ولم تكن تلك القصة تعني لي الكثير.. لقد حكى لي شريف عن الكثير من القضايا التي تمرّ بين يديه، وكنت أتعامل معها كأحداث بعيدة قد تستحق أحيانا بعض التعاطف، وكفى. ولعل ما زاد من عدم اكتراثي بهذه القصص هو البعد السحيق الموجود بيني وبين القاصّ نفسه وذاك موضوع آخر. لكن بعدما رأيت جعفر يخرج برأسه اللامع من سيارة "شركة بنموسى للإنعاش العقاري"، متوجهًا إلى الباب الرئيسي للكازينو، تفطّنْتُ إلى أنني قريبة جدا ليس فقط من شريف ولكن أيضا من جعفر وبنموسى والأندلسي والودغيري وأشباح أخرى لا يهمني معرفتهم. رأيتنا مجتمعين كلنا كما الضباع ننهش في جثة مي فاطمة، ومن حين لآخر نمسح أفواهنا بأكِمّتنا... ولِكيْ لا يصعقنا احتقار الذات ولا تقتلنا شحنة تأنيب الضمير عمد كل واحد منا وبطريقته الخاصة إلى البحث عن خيط ثالث.