ولد "أرند يان فنسنك" في السابع من غشت سنة 1882، من أسرة كاثوليكية عاشت في جنوبهولندا؛ كان والده رجل دين، ما جعله يختار الدراسات اللاهوتية بعيد نيله شهادة الثانوية العامة، ونظرا لشغفه وحبه الكبيرين للغات الشعوب الأخرى، تمكن من التبحر في اللغات الشرقية، أذكر على سبيل المثال لا الحصر العبرية والأرمنية والسيرية والعربية؛ وقد تعرف يوم كان طالبا على المستشرق الهولندي "م-ت- هوتسما" (1851-1943) وتتلمذ علي يديه، كما درس في كل من جامعة لايدن وبرلين وهايدلبرخ، وتوج دراسته الجامعية هاته بنيله شهادة الدكتوراه على يد أستاذه ومشرفه: ك-س- هونخرونية (1857-1936) برسالة تحت عنوان: "محمد واليهود في المدينة"، وذلك سنة 1908. بعد تخرج "فنسنك" من جامعة لايدن، اشتغل أستاذا بثانويات بمدينتي أترخت وأمسفورت، ثم مدرسا للغة العبرية والأرمنية والسيرية، وبعد ذلك سنة 1912 ولج الحقل الجامعي أستاذا لمادة اللغة العربية، وبعد ذلك بسنوات وبالتحديد في 1927 سيشغر منصب أستاذه "هونخرونية"، وسينصب لكرسي اللغة العربية بجامعة لايدن؛ هذا الكرسي الذي تقلده كبار العلماء والمستشرقين واللغويين منذ تأسيسه في القرن السادس عشر، وسيبقى طيلة حياته وفيا لأستاذه "هونخرونية" ولآرائه ومواقفه من القرآن والسنة النبوية، هذا فضلا عن اعتنائه الكبير بنشر عشرات من مقالاته، وذلك في ست مجلدات تحت عنوان: "دفاتر متفرقة" ما بين 1923 و1927. سنة 1916 أعلن "فنسنك" على صفحة إحدى المجلات العلمية المعروفة عزمه على وضع معجم مفهرس حسب الألفاظ للحديث النبوي، وذلك اعتمادا على الترتيب الهجائي؛ وقد سعى في ذلك إلى أن يجمع أكبر عدد ممكن من الأحاديث الواردة في كتب المسانيد، كمسند الإمام أحمد ومسند الدارقطني، وفي موطأ الإمام مالك، فاستعان في إنجازه لهذا العمل بفريق من الباحثين، ضم ما يزيد عن ثمانية وثلاثين باحثا من مختلف البلدان الأوروبية، ودعمته ماليا أكاديمية العلوم في أمستردام ومؤسسات هولندية أخرى، وعدد غير قليل من الأكاديميات العلمية في مختلف الدول الأوروبية، إلى أن صدر الجزء الأول سنة 1936 (من حرف الألف إلى حرف الحاء). وابتداء من 1932 صار هذا المشروع تحت رعاية الاتحاد الأكاديمي الدولي. إلى جانب ذلك وضع "فنسنك" متنا سهل التناول في الأحاديث النبوية الأولى مرتبة ترتيبا هجائيا سنة 1927، وذلك في أربعة عشر كتابا من كتب السنة والسيرة، وقد نقله إلى اللغة العربية الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي سنة 1934 تحت عنوان: "مفتاح كنوز السنة" وحققه كل من الدكتور أحمد شاكر والشيخ رشيد رضا. يبدو أن من حسن حظ "فنسنك" أنه عاش في فترة حاسمة من تاريخ الاستشراق في أوروبا، إذ عرفت هذه الفترة بالغليان والحماس منقطع النظير، فتوالت الندوات والمؤتمرات، إذ عقد المؤتمر الأول للاستشراق بباريس سنة 1873، فحضره جمع غفير من كبار المستشرقين على الصعيد الأوروبي، هذا فضلا عن بعض العلماء العرب والمسلمين. وتوالت الندوات في الموضوع نفسه، كندوة لندن، وسنت تلبرخ وفلورنس سنة 1878، والمؤتمر السادس لسنة 1883 بلايدن. وكان لهذه المؤتمرات والندوات دور مهم في تطوير آليات الاشتغال والتفكير الجماعي والمشترك بين المستشرقين المهتمين بدراسة الإسلام من جهة، وبين المشتغلين على اللغويات من مستعربين من جهة ثانية. وتمخض عن هذا الجهد الجماعي والعمل المشترك تأسيس مؤسسات علمية كبرى اهتمت بتطوير مجالات البحث والمعرفة في موضوع دراسة الشرق، لاسيما الاشتغال على العمل الموسوعي الضخم، الذي ولا شك يحتاج إلى مجموعات كبيرة من الباحثين والمهتمين، وإلى تمويل ضخم وإرادة سياسية جادة، تقف إلى جانبه وتدفع به إلى الأمام. كان "م-د-خويا" منذ البدايات الأولى لهذا النوع من العمل العمود الفقري والداعم والحاضن الأساس لهذه الفكرة، فلم يكتف بالإشراف المباشر على مؤتمر المستشرقين بلايدن، بل عمل أيضا ما بوسعه للإبقاء على هذا العمل مستمرا وفعالا، إلى أن تمخضت عنه في الفترة نفسها فكرة إيجاد موسوعة شاملة، تضم بين دفتيها مختلف أضرب الفنون والعلوم التي هي في علاقة مع الإسلام والعالم الإسلامي.. هذه الموسوعة التي أخذت اسم: "موسوعة دائرة المعارف الإسلامية". وشملت الموسوعة مختلف المعارف حول الإسلام والعالم الإسلامي، وكان أول من سهر على وضع خطة طريق لها المستشرق الألماني " ف-ر-شميث" (1894-1846) وذلك سنة 1894، لكنه سرعان ما خفت حماس الفريق وتسلل الفتور داخله، فكاد المشروع أن يتوقف، غير أن من محاسن الصدف أن تحولت مهمة الإشراف على المشروع إلى المستشرق المجري المعروف "إجناتس كولدتسيهر" (1850-1921)، إلا أن كثرة التزامات ومشاغل هذا الأخير العلمية والسياسية حالت دون أن يستكمل هذا المسار، فظل مشرفا رمزيا لفترة طويلة، رغم أن الإشراف الفعلي على أرض الواقع كان للمستشرق الهولندي المعروف دي خويا، الذي كان من أعظم أعماله كما هو معروف إشرافه ومشاركته في تحقيق كتاب "تاريخ الطبري" المتوفى سنة 310 هجرية الموافق ل923 ميلادية، فقد وضع الخطة لتحقيق هذا المصدر العظيم في التاريخ الإسلامي، ووزع العمل بين مجموعة من المستشرقين، وتولى هو بنفسه قسما كبيرا من العمل؛ وراجع تحقيقات زملائه هؤلاء، وقام بإجراء تصحيحات عديدة فيها، وتوج هذا كله بمجلدين يشتملان على المقدمة ومعجم وتصحيحات عديدة وفهارس. وصدر العمل كله في 13 مجلدا أصليا، ومجلدين ملحقين، وذلك في لايدن من سنة 1879 حتى سنة 1901. وحاولت مجموعة من الدول سحب البساط من تحت أرجل الهولنديين، والاستئثار بالموسوعة وبسط نفوذها على المشروع ككل، إلا أن إعلان مطبعة بريل الهولندية التكفل بطباعة كل أجزاء موسوعة دائرة المعارف الإسلامية أربك خطة كثير من المؤسسات والأكاديميات الدولية. وواصل جهود "دي خويا" مستشرق هولندي آخر يدعى "ت-هوتسما" (1851-1943)، فأصدر سنة 1899 العدد التجريبي الأول من الموسوعة، التي امتدت من سنة 1901 إلى غاية سنة 1939. وكانت الطبعة الأولى من الموسوعة، التي صدرت باللغات الفرنسية والإنجليزية ثم الألمانية، والطبعة الثانية التي صدرت باللغة الفرنسية والإنجليزية سنة 2009، والتي صدرت بدورها عن دار بريل بلايدن في إثني عشر مجلدا. وظل "هوتسما" مشرفا على الموسوعة إلى حدود سنة 1924.. بعدها بقليل عين "فنسنك" مشرفا عاما عليها، بعد أن اشتغل لفترة طويلة مساعدا لرئيس تحرير الموسوعة، وظل في منصبه هذا إلى أن وافته المنية سنة 1939. دون "فنسنك" جملة هذه المواقف في مساهماته الشخصية مقالاته العلمية التي ساهم بها في موسوعة دائرة المعارف الإسلامية، وفي هذه الآراء حذا آراء أستاذه "هونخرونية" حذو النعل بالنعل. ومن جملة هذه الآراء قوله إن "نبي الله إبراهيم لم يرد ذكر اسمه في القرآن الكريم، إلا بعد معاداة اليهود للرسول صلى الله عليه وسلم وشن النبي الحرب عليهم"، ما أثار حفيظة كثير من الشيوخ والعلماء إلى درجة اعتباره من الكثير منهم نيلا من قدسية الثوابت الدينية وتشكيكا في ربانية الرسالة، وتدخلا في تحديد مسار الوحي، ومحاولة لترسيخ أفكار الإمبريالية والاستعمار. وتجدر الإشارة إلى أن هذا الرأي الذي تقمصته جريدة الأهرام ونشرته على صفحاتها خلف ردات فعل عنيفة في الشارع المصري يومئذن، فكان سببا كافيا لحرمان "فنسنك" من عضويته في الأكاديمية الملكية للغة العربية التي أسسها الملك فؤاد سنة 1932، والتي استوعبت قامات كبيرة في العلم والمعرفة، سواء من العرب والمسلمين أو من المستشرقين، نذكر على سبيل المثال لا على سبيل الحصر كلا من: "س-ه- جب" و"ل – ماسينيون" و"ك – نالينو" و"فنسنك" الذي عين فيها عضوا نائبا عن الأكاديمية الملكية الهولندية وموسوعة دائرة المعارف الإسلامية، لكنه طرد منها بعد ذلك بقليل (Enzyklopaedie van de Islam). ودار بريل للنشر هي مؤسسة نشر عريقة من أقدم المطابع الأوروبية، تأسست في مدينة لايدن الهولندية سنة 1683م، ولها مكاتب في لايدن وبوسطن بالولايات المتحدةالأمريكية وفي طوكيو باليابان. وتساهم دار بريل سنويا إلى حدود اللحظة في إصدار 100 مجلة علمية محكمة، وأزيد من 500 كتاب. وكان أول ما طبعت دار بريل، وذلك يعود إلى أزيد من 300 سنة، كتب تعود للمستشرق الهولندي سكاليخر، الذي ثبت أنه زار الشرق الأوسط والمغرب، ثم استطاع خلال رحلاته هاته أن يشتري مجموعة من الكتب والمخطوطات الثمينة، فترجم بعضا منها وعلق عليها ثم نشرها عند دار بريل. واستطاعت دار بريل على مدار القرون الثلاثة الماضية أن تطبع عشرات من أمهات الكتب العربية والإسلامية، ومازالت وفية لهذا التراث العربي العريق حتى يومنا هذا، رغم بعض المشاكل المالية التي تتخبط فيها، التي تعود إلى ضعف وندرة المهتمين بمثل هذه العلوم الكتب، وإلى تراجع ومحدودية شراء الكتب المطعوبة. لكن الدار تحاول أن تتدارك الأمر عن طريق الانفتاح على العالم الرقمي، ووضع المجلات والكتب الإلكترونية ثم بيعها على الشبكة العنكبوتية، هذا الأمر الذي يدر عليها أرباحا معتبرة يجعلها تتمكن من المضي في طريقها الذي رسمته منذ قرون. *باحث مغربي مقيم بهولندا