مع نهاية القرن الثامن عشر، ستلج الدراسات العربية بهولندا مرحلة جديدة سميت بفترة التنوير، تميزت هذه الفترة ببروز مستشرقين عمالقة كبار، كان لهم الأثر البالغ في تطوير الدراسات العربية وبروز نوع آخر من الدراسات المرتبطة بالعربية، ألا وهي الدراسات الدينية الإسلامية، وخاصة بجامعات ليدن وأترخت وأمستردام، وسنقف عند ثلاث شخصيات رئيسة في هذا المجال كان لها الوقع البالغ وما يزال في الدراسات الأكاديمية الشرقية، أو ما عرف لاحقا بالاستشراق، وهذه الشخصيات هي كل من: راينهارت دوزي وميخائيل يان دوخويا وكريستيان سنوك هونخرونية. ولد دوزي في مدينة ليدن سنة 1820، من أب إشتغل طبيبا، ولج كلية الآداب في جامعة ليدن سنة 1834، ينحدر من أسرة أصلها من فالنسيين في فرنسا وتصاهرت مع أسرة اسخولتنس التي أتينا على ذكرها في المقالة الأولى المنشورة على موقع هسبريس. أولع منذ صباه وتفنن في إتقان اللغات، فأتقن الفرنسية والإنجليزية والألمانية والإيطالية. وأخذ في دراسة اللغة العربية على يدي ناظر إحدى المدارس الثانوية، ولما ولج الجامعة واصل دراسته للغة العربية على يدي الأستاذ فايرز 1805–1844، ودرس كذلك عليه العبرية والكلدانية والسريالية، وكان هو بدوره في الوقت نفسه مديرا لقسم المخطوطات العربية في مكتبة ليدن. إنصبت اهتماماته العلمية على التاريخ الوسيط وعلى الدراسات المعجمية، حيث نال أفضل جائزة من طرف الأكاديمية الملكية سنة 1843 في موضوع يتعلق بأسماء الألبسة باللغة العربية، هذا العمل نشر سنة 1845 بعنوان: "معجم مفصل بأسماء الملابس عند العرب"، وقد كتبه باللغة الفرنسية التي سيتخذها لغة للكتابة والبحث الأكاديمي. في الوقت نفسه أشار عليه أستاذه فايزر بموضوع كتابه: "أخبار بني عباد عند العرب"، وكان موضوع رسالته لأطروحة الدكتوراه في الآداب، فحصل على الدكتوراه سنة 1844، وبعد ذلك عمل على ترجمة كتاب تاريخ بني زيان في تلمسان وكان مخطوطا، وزوده بتعليقات، ونشر الترجمة مع تعليقاتها في عدد من المجلة الأسيوية، مايو ويونيو 1844. وفي صيف 1844 قام برحلة، بصحبة زوجته، إلى ألمانيا، فوصل إلى مدينة جوتا وفيها مكتبة حافلة بنفائس المخطوطات العربية. فأقام في جوتا ثمانية أيام، وتردد على هذه المكتبة فاكتشف فيها وجود الجزء الثالث من كتاب "الذخيرة في أخبار الجزيرة" لابن بسام الشنتريني، وكان فهرس المكتبة قد ذكره على أنه مجلد ممزق من "نفخ الطيب" للمقري. وقد وجد دوزي في هذا الكتاب معلومات نفيسة وجديدة عن السيد القمبيطور في الروايات العربية. وزار أيضا ليبتسك حيث تعرف على المستشرق اللغوي الكبير فليشر. وفي سنة 1846 صدر الجزء الأول من كتابه: "أخبار بني عباد عند الكتاب العرب" عن دار بريل بليدن، وبعد ذلك تلاه كل من الجزء الثاني والثالث، وبحسب عبد الرحمن بدوي ما يزال هذا الكتاب، بأجزائه الثلاثة، أوسع بحث عن بني عباد، ملوك إشبيلية. في ديسمبر 1845 أعلن عن مشروع تحقيق لنصوص عربية، ضمن هذا الإطار أصدر دوزي أول كتاب وهو "شرح تاريخي على قصيدة ابن عبدون، تأليف ابن بدرون"، وقد صدر بمقدمة إضافية ومعجم وفهرس. وقصيدة ابن عبدون هاته تتحدث عن سقوط دولة الحفصيين أمراء بطليوس. تلا ذلك كتاب عنوانه: "تعليقات على بعض المخطوطات العربية" سنة 1847-1851. في هذا الكتاب نشر دوزي فصولا مستخلصة من كتاب "الحلة السيراء" لابن البار، تتعلق بالتاريخ السياسي والأدبي للمسلمين في إسبانيا. وهذا الكتاب يحتوي على تراجم لأشخاص من القرن السادس للهجرة، يتخللها إيراد لأشعار. وتلاه كتاب "تاريخ الموحدين لعبد الواحد المراكشي"، ثم تلاه بإصداره لكتاب "البيان المغرب" لابن عذارى، محققا لأول مرة، مع مقدمة وتعليقات ومعجم، في جزأين. وتقع مقدمته في 119 صفحة، أما النص العربي فيقع في 649 صفحة. ثم كتاب "أبحاث في التاريخ السياسي والأدبي لإسبانيا خلال العصر الوسيط" سنة 1849، وأعاد طبعه مرة ثانية في نسخة معدلة في مجلدين سنة 1860. وفيه صحح كثيرا من الأخطاء التي وقع فيها الباحثون الأوروبيون الذين كتبوا عن تاريخ المسلمين في إسبانيا، فيه حاول أن يحل كل المشاكل، التاريخية والنقدية والأدبية، التي تتعلق بوجود هذه الشخصية الغريبة والمصادر التي امتاح منها المؤرخون السابقون عليه. بعد أن عين أستاذا لكرسي التاريخ العام بجامعة لايدن في مستهل سنة 1850، تفرغ طيلة العشر سنين لتأليف كتابه الأساسي "تاريخ المسلمين في إسبانيا"، ويمتد من فترة فتح الأندلس حتى مجيء المرابطين، ويقع في 4 مجلدات، وقد صدر سنة 1861 لدى الناشر بريل في ليدن. ويعد هذا الكتاب من أكبر الأعمال التاريخية التي كتبها المستشرقون، وقد قام ليفي بروفنصال بإعادة طبعه وتجديده. ولما أصدر سيمونت كتابه بعنوان: "وصف مملكة غرناطة تحت حكم بني نصر، استنادا إلى المؤلفين العرب، مع نشر نص لمحمد بن الخطيب"، كتب الدوزي مقالا مهما سنة 1862، قام بتصحيح نص رسالة ابن الخطيب، والاقتراحات التي افترضها دوزي لتصحيح مواضع من النص قد أيد معظمها مخطوطان آخران، راجعهما مولر. وتوجه أيضا إلى الناشر الهولندي كروسمان ليكتب الفصل الخاص بتاريخ الإسلام، في كتاب عن تاريخ الأديان الكبرى، بعنوان: "تاريخ الإسلام"، ويتناول تاريخ الإسلام من عهد النبي محمد (ص) حتى عام 1865، أي العام الذي نشر فيه هذا الفصل من الكتاب، وهو كتاب بسيط قصد به عامة القراء. وألهمه ذلك كتابة كتاب عن "اليهود في مكة" سنة 1864، وقوبل هذا الكتاب بتمجيد كبير في هولندا، وبحملة مريرة من جانب اليهود في ألمانيا. وقد نشر على حساب اللجنة الإنجليزية لنشر النصوص الشرقية، لايدن، 1847، عند الناشر ليختمانس. وقد نشر جملة مقالات نذكر بعضا منها: "رسائل عن بعض الكلمات العربية"، و"ثلاثة مقالات طويلة" عن الأدب الإسباني في العصر الوسيط، وقد نشر في مجلة خيدس لسنة 1848. ثم تحليل لمقالة كتبها دفرميري عن "أسراء الأمراء"، بالإضافة إلى مقالاته النقدية من قبيل: "نقد ترجمة ديسلان لمقدمة بن خلدون"، و"نقد كتاب: إسهامات في تاريخ العرب المغاربة"، ونقد لرسالتي أرنست رنان: "ابن رشد والرشدية" و"الفلسفة المشائية عند السريان"، ونقد لنشرة وترجمة "رحلة إبن بطوطة" التي قام بها كل من دفرمري وسنجنتي إلى الفرنسية، وأخيرا نشر وترجم دوزي بالتعاون مع دي خويه، "جغرافية، الإدريسي" و"نزهة المشتاق في اختراق الآفاق"، وقد توفي في ليدن سنة 1883 بعد رحلة طويلة من الإنجازات العلمية الباهرة. سيخلف دوزي مستشرق كبير، إنه ميخائيل يان دي خويه، الذي ولد سنة 1836 بقرية درورايب، بمقاطعة فريسلاند شمالي هولندا. دخل جامعة لايدن في 1854 حيث تخصص في الدراسات الشرقية على أيدي رينهرت دوزي ويونبول وحصل على الدكتوراه في 1860 برسالة بعنوان: "نموذج من الكتابات الشرقية في وصف المغرب مأخوذ من كتاب البلدان لليعقوبي". عين سنة 1859 مساعد أمين لمجموعة فارنر في مكتبة جامعة لايدن. ثم عين في 1866 أستاذا مساعدا، ورقي في 1869 إلى أستاذ كرسي في جامعة لايدن، ولما بلغ السبعين في 1906 أحيل إلى التقاعد، لكنه بقي أمينا لمجموعة فارنر. توفي في 17 مايو 1909 في مدينة لايدن. اتجهت اهتمامات دي خويه منذ البداية إلى الجغرافية العربية، فكانت رسالته آنفة الذكر عن وصف المغرب كما ورد في "البلدان" للمؤرخ والجغرافي الشيعي المشهور أحمد بن أبي يعقوب المشهور بلقب: اليعقوبي. وفي هذه الرسالة لم يكتف دو خويه بنشر النص العربي، بل أضاف إليه ترجمة لاتينية، قدم له بمقدمة جيدة وزوده بإيضاحات جغرافية وتاريخية عديدة ومفيدة. وطبعت هذه الرسالة عند الناشر بريل سنة 1860 بلايدن. بعد ذلك اشتغل دو خويا على كتاب "فتوح البلدان" للبلاذري، فحقق نصه العربي ونشره في ثلاثة أجزاء، وقدم له بمقدمة قصيرة، لكنه زوده بمعجم ثمين جدا وبفهارس مفيدة. وبهذا يكون قد قدم للباحثين في تاريخ صدر الإسلام أداة نافعة جدا. أما العمل الثالث الذي أنجزه دي خويه هو نشر قسم من كتاب "العيون والحدائق في أخبار الحقائق" لمؤلف مجهول، يغلب الظن بحسب عبد الرحمن بدوي أنه من القرن الخامس أو السادس الهجري. ومنه قطعة محفوظة في مكتبة لايدن تتناول بالتفصيل الواسع تاريخ الخلفاء ابتداء من الوليد بن عبد الملك حتى المعتصم، لكن أعظم أعمال دي خويه كما هو معروف هو إشرافه ومشاركته في تحقيق كتاب "تاريخ الطبري" المتوفى سنة 310 هجرية الموافق ل923 ميلادية، فقد وضع الخطة لتحقيق هذا المصدر العظيم في التاريخ الإسلامي، ووزع العمل بين مجموعة من المستشرقين، وتولى هو بنفسه قسما كبيرا من العمل، وراجع تحقيقات زملائه هؤلاء، وقام بإجراء تصحيحات عديدة فيها، وتوج هذا كله بمجلدين يشتملان على المقدمة، ومعجم، وتصحيحات عديدة، وفهارس. وصدر العمل كله في 13 مجلدا أصليا، ومجلدين ملحقين، وذلك في ليدن من سنة 1879 حتى سنة 1901. هذا فيما يتعلق بالتاريخ العربي، أما في ميدان الجغرافيا، فبعد رسالة الدكتوراه المذكورة أيضا آنفا، قام دي خويه بالإشتراك مع رينهرت دوزي في نشر القسم الخاص بالمغرب والأندلس في "كتاب روجار" للإدريسي، حققا النص العربي، وألحقا به ترجمة فرنسية مع تعليقات ومعجم، لكن إنجازه العظيم في ميدان الجغرافيا عند العرب هو تحقيقه ونشره لمجموعة فريدة من كتب الجغرافيا، سماها "مكتبة الجغرافيين العرب"، في ثمانية مجلدات في لايدن من 1870 إلى 1894، إلى جانب هذه التحقيقات الممتازة في الجغرافيا والتاريخ عند العرب، قام دي خويه بأبحاث جزئية ثمينة، نذكر منها: "الطبري والمؤرخون العرب الأوائل"، ظهر في "دائرة المعارف البريطانية"، في هذا الكتاب يستعرض دي خويه تطور كتابة التاريخ عند العرب منذ البداية حتى حاجي خليفة، (المتوفى 1067 هجرية-1657 ميلادية)، فيبدأ بمقدمة موجزة عن نشأة كتابة التاريخ عند العرب، ويقدم لمحة عن المؤرخين حتى الطبري، ويفصل القول في الطبري، ويتابع بإيجاز كتابة التاريخ عند العرب حتى حاجي خليفة في القرن السابع عشر الميلادي. نصل إلى ميدان آخر أنتج فيه دي خويه عملا عظيما، ونعني به فهرسة المخطوطات. فقد تولى فهرسة قسم كبير من مخطوطات مكتبة ليدن، ذلك أن رينهرت دوزي كان قد بدأ هذا الفهرس ثم ترك العمل فيه، فتولاه أبراهام كونن، فكتب 160 صفحة من المجلد الثالث. فجاء كل من دي يونج ودي خويه فأكملا المجلد الثالث، واشتركا في تصنيف المجلد الرابع. هذا فضلا عن أبحاث مفردة في مواضيع شتى، وقد جمعت أعمال دي خويه في ستة مجلدات وصدرت بعنوان: "كتابات متنوعة". وبموت دي خويه ومجيء سنوك هونخرونية 1857-1936، الذي سنخصص له دراسة مستقلة لأهميته الكبيرة، نكون قد ولجنا مرحلة ما بعد الدراسات اللغوية والفيلولوجية، وولجنا مرحلة الدراسات الدينية واللاهوتية، وهذا ما سنعالجه بحول الله وقوته في المقالة المقبلة (يتبع).