عبد الحميد صبحي ناصف منذ منتصف القرن ال 19 الذي كان ميداناً لفرسان الاستشراق الألمان وأشهرهم فرايتاغ الدارس على يد سلفستر دي ساسي ويليه كوسغارتن ووبكى وسليمان منك وغوستاف فلوغل وفلايشر، الذي كان يكاتب أدباء من سورية ومصر وينشر لهم في المجلة الشرقية الألمانية، كما كان هناك كل من ديتريش وغوستاف فايل وفون كريم وفرديناند وستنفيلد وغلازر. وبين منتصف القرن ال 18 ومنتصف القرن ال 19 ظهر الاستشراق الألماني والأوروبي بعامة مستنداً إلى مبادئ «التاريخانية» ومواريثها لينصرف إلى نشر المصادر العربية والإسلامية، وليعرض من خلالها معارف جديدة عن عوالم الشرق والإسلام والعرب، كما أن ادوارد سعيد لم يهاجم الاستشراق الألماني، والطريف أن السبب الذي من أجله أعرض سعيد عن محاولة نقض الاستشراق الألماني تاريخي وليس منهجيا، فقد ذهب إلى أن الألمان المستشرقين ما كانوا فاعلين أقوياء في «المؤسسة»، فضلاً عن أن المؤسسة ما كانت رئيسة في الحركة الاستعمارية في العالمين العربي والإسلامي... وعلى غير المتعارف عليه يفاجئنا الدكتور رضوان السيد برأي مغاير فيه «إن كلا الأمرين غير صحيحين وغير دقيقين، فالألمان كانوا يملكون «رغبات» استعمارية شرقية ومعلنة، لكنها ما صارت فاعلة إلا بعد الوحدة الألمانية عام 1870. ففي الوقت الذي اندفعوا فيه لإيجاد مجال حيوي في أوروبا اتجهوا صوب إفريقيا لانتزاع بعض الأقاليم، ثم صوب آسيا العثمانية لإقامة علاقة «استراتيجية» مع «الرجل المريض» في مواجهة الروس والبريطانيين والفرنسيين على حد سواء. ومنذ السنوات الأولى لاستراتيجيتهم العثمانية استعانوا بالمستشرقين وعلماء الدراسات العربية والإسلامية (راجع: رضوان السيد في «المستشرقون الألمان»، ص7). تميزت المدرسة الاستشراقية الألمانية التي بدأت في القرن الثامن عشر بيوهان جاكوب رايسكة (1716- 1774)، بخصائص منها: إنها لم تكن نتيجة لأهداف سياسية واستعمارية. ولم تكن وثيقة الصلة بالأهداف الدينية التبشيرية كدول أخرى مثل فرنسا وإنكلترا وإيطاليا. وغلبة الروح العلمية وتقصي الحقائق على الدراسات الشرقية في ألمانيا، فهي تمتاز بالعمق والشمولية. ما يبرزها عن غيرها من المدارس الاستشراقية الأخرى هو الاهتمام بالقديم والتركيز على دراسة التراث العربي وخدمة التراث. بدأ الاهتمام باللغات الشرقية مرتبطاً بعلم اللاهوت. وكانت اللغة العبرية هي أساس هذه الدراسات ثم ما لبثت اللغة العربية والإسلام أن لقيا الاهتمام في أعقاب القرون الوسطى والدخول في عصور النهضة. ولعل أبرز ما قام به المستشرقون الألمان في مجال اللغة والتاريخ العربيين والدراسات الإسلامية هو أنهم جمعوا ونشروا وفهرسوا المخطوطات العربية والنصوص القديمة (رضوان السيد، «المستشرقون الألمان»، ص6، 11- 17). ومن هنا ندلف إلى شخصية دراستنا الذي فاقت شهرته مجال نشر فهارس الكتب والمخطوطات والنصوص العربية. صاحب الكتاب الموسوعي «تاريخ الأدب العربي»، هو كارل بروكلمان الذي كان عضو شرف في جمعية المستشرقين الألمان والجمعية الآسيوية الملكية والجمعية الآسيوية والجمعية الشرقيةالأمريكية والجمعية اللغوية الأمريكية، كما كان عضواً نظامياً في أكاديمية العلوم السكسونية وعضواً مراسلاً لسلسلة من الأكاديميات والجمعيات العلمية، ومنح عام 1951 الجائزة الوطنية من المرتبة الأولى. وكان بروكلمان قد دوّن سيرته الذاتية بخط يده، ونشرت مجلة «أوريانس» (التي تصدرها الجمعية الدولية للدراسات الشرقية – تصدر الآن عن دار النشر بريل في هولندا) في 1981 «ذكريات وملاحظات» كان سجلها بروكلمان عام 1947 وبقيت محفوظة لدى أسرته حتى حصل عليها رودولف زلهايم من جامعة فرانكفورت. وقال زلهايم إن «الذكريات والملاحظات» لم يكتبها بروكلمان بغرض النشر، بل أراد حفظها لولده الذي يحمل أيضا اسم كارل الذي أُسر عند استسلام الجيش النازي في ستالينغراد عام 1943. وكان بروكلمان أُحيل عام 1945 إلى التقاعد من كرسي أستاذية اللغات الشرقية في جامعة برسلاو ثم نزح عنها بعد أن ضمت إلى بولونيا بعد دخول السوفيات إليها في يوليوز 1945، ففقد كل ما يملك وانقطع راتبه التقاعدي. وعند وصوله إلى هالّه توسط له رئيس جامعتها المستشرق آيسفيلد لتولي أمور مكتبة الجمعية الألمانية للمستشرقين، وإليه يرجع الفضل في المحافظة على تلك المكتبة وإعداد فهرس كتب للجمعية. وفي خريف 1947 تحرر من أعمال المكتبة عندما عهدت إليه جامعة مارتن لوثر في هالّه كرسي أستاذ اللغة التركية وتهافت عليه الطلاب ومنهم تلميذه زلهايم الذي أرسله كارل إلى ألمانيا وكلفه بالإشراف على طبع الأجزاء الملحقة من كتاب «تاريخ الأدب العربي». وفي 14 سبتمبر 1947 بعد أن بلغ ال 79 كتب سيرته الذاتية التي انتهى منها بعد ساعات عدة معتمداً على ذاكرته فقط. وظلت هذه السيرة محفوظة لدى زوجته الثانية، واطلع زلهايم عام 1958 عليها، وتنازلت له الزوجة عنها، وعندها قرر تلميذه أن ينشر تلك المذكرات (ترجمها بتصرف كامل عياد ونشرها في مجلة مجمع دمشق 1985). ولد بروكلمان في 17 سبتمبر 1868 في مدينة روستوك لعائلة ميسورة من طبقة التجار وظهرت موهبته للغات بسرعة في مراحل التعليم مما آثار حماسته لدراسة الألمانية السفلى، ومع مقدار حبه لوطنه كان يتمتع بحب غريب للأقطار البعيدة، وتعرف في المدرسة أيضا على لغة الكتاب المقدس الآرامية والسريانية، وحين التحق بجامعة روستوك عام 1886 قرر أن يدرس التركية التي كان تدريسها لا يزال نادراً في ألمانيا. في عام 1888 مضى نحو ستراسبورغ، وراح يدرس السنسكريتية والأرمينية وجذبته كذلك دراسة الحضارة المصرية القديمة. في شتاء 1889 وضع نولدكة مسابقة لدراسة العلاقة بين كتابي «الكامل» لابن الأثير و«أخبار الرسل والملوك» للطبري، واستطاع أن يحل هذه المسألة وينال في التاسع من أبريل عام 1890 درجة الدكتوراه في الفلسفة... وإلى جانب ذلك واصل دراساته العربية ونشر عام 1891 الترجمة الألمانية للجزء الأول من ديوان ليبيد ثم أصدر الجزء الثاني من الديوان بالمتن والترجمة، وفي نهاية 1892 ذهب إلى بريسلاو ومنها حصل على درجة الكفاءة للتدريس الجامعي في 1893 بدراسة عن مؤلف ابن الجوزي التاريخي. وفي هذه الأثناء كان بروكلمان قد جمع مادة لأول مؤلف كبير له وهو المعجم السرياني، وقبل أن يطبع هذا المعجم في فبراير 1895 طلب إدوارد زخاو من بروكلمان أن يساهم في العمل على مؤلف ابن سعد الضخم المعنون ب «الطبقات الكبرى»، على أن يسافر إلى لندن وإسطنبول لدراسة المخطوطات المتعلقة بذلك، فسافر في غشت إلى لندن ومنها انتقل إلى باريس ومرسيليا وأثينا وأزمير فإسطنبول، ولم يقف عند تنفيذ ما كلف به فحسب وإنما نقل نسخة من «عيون الأخبار» لإبن قتيبة وأخذها معه، واهتمت أكاديمية برلين بطباعة مؤلف ابن سعد وظهر المجلد ال 8 الذي اشتغل عليه بروكلمان. ومن أهم أعماله الأخرى «تاريخ الأدب العربي» الذي جاءت قصته عندما كان في صدد إصدار نسخه «عيون الأخبار». وفي عام 1897 اصدر النصف الأول من المجلد الأول. وفي عام 1898 تلاه النصف الثاني وفي 1901 أصدر المجلد الثاني. وفي الحقيقة، فإن ما مكن بروكلمان من القيام بهذا المشروع وتنفيذه هو ذاكرته الممتازة، تضاف إلى ذلك قدرته على التنظيم والتنسيق، كذلك براعته وموهبته في التعبير عن أفكاره بعبارات سلسة من دون عناء، بحيث كانت المسودة التي يخطها تصلح في الغالب للطبع مباشرة. وفي رأي السيد، كان كارل بروكلمان بدأ مشروعاً كبيراً قبل الحرب العظمى الثانية لكتابة «تاريخ الادب العربي»، هو في الحقيقة تاريخ للثقافة العربية الإسلامية من خلال مخطوطاتها العربية الباقية. صدر الكتاب خلال 40 عاماً انتهت مع مطلع الخمسينيات من القرن الماضي وتضمن ثلاثة مجلدات، تلتها ثلاثة مجلدات ضخمة أخرى في صورة ملاحق وتصحيحات. وفي الحقيقة كان بروكلمان كأستاذيه فيشر ونولدكة مصراً على تمثيل الدراسات السامية والعربية، ولذلك ألف في نحو اللغات السامية وفقهها، كما ألف في النحو العربي وترجمه إلى العربية رمضان عبد التواب. أما كتاب «تاريخ الشعوب الإسلامية» لبروكلمان وهو كتاب مدرسي متواضع، فقد ترجمه منير بعلبكي عن الانكليزية في الخمسينيات وطبع في بيروت. يذكر أن هذا الكتاب طبع للمرة الأولى عام 1939. هذا وقد طبع «تاريخ الأدب العربي» بصيغة مختصرة عام 1909، وقد أوحى اليه بإصدار «تاريخ الآداب المسيحية في الشرق» في المجلد السابع من سلسلة «آداب الشرق»، وسعى بعد ذلك إلى وصف مجموعة المخطوطات الشرقية في مكتبة مدينة «برسلاو» في فهرس خاص عام 1903. وفعل الشيء نفسه في الأعوام المقبلة بالنسبة إلى مجموعة المخطوطات الشرقية في مكتبة هامبورغ، وفي عام 1903 استُدعي ليحتل مقعد الأستاذية فى كونيسبرغ، وهناك ألف أكثر أعماله أصالة وأحبها إلى نفسه «موجز قواعد اللغات السامية المقارنة». وفي خريف 1935 أحيل بروكلمان على التقاعد وانتقل في ربيع 1937 إلى هالّه ثانية لمواصلة العمل على كتابة تاريخ الأدب العربي، وفي 1942 استطاع بروكلمان إصدار ملحق ثالث عالج فيه تاريخ الأدب العربي الحديث من عام 1882 (عام الاحتلال البريطاني لمصر) وكما فعل في المؤلف الأصلي والملحقين فقد احتفظ في الملحق الثالث أيضا بعرض لسير المؤلفين وزاد بأن قدم معلومات تفصيلية، وسر قبل وفاته حين علم أن القسم الثقافي لجامعة الدول العربية قرر نشر الترجمة العربية لتاريخ الأدب العربي. للتعرف على الخلفية السياسية الثقافية للأدب العربي الحديث لم يهتم بروكلمان بدراسة الإسلام بتعمق فحسب، بل راح يدرس تاريخه بالتعمق ذاته أيضا. ويعود اهتمامه بالأبحاث الإسلامية إلى سنوات دراسته في ستراسبورغ. فمن عام 1895 حتى عام 1914 كان يكتب عن احدث المؤلفات في التاريخ الإسلامي في التقارير السنوية لعلوم التاريخ، وفي عام 1910 قدم المجلد الثالث لتاريخ العالم الذي أصدره يوليوس فون بفلوك – هارتونغ، عرضاً لتاريخ الإسلام منذ بدايته حتى زمن بروكلمان، وهذا العمل ظهر في صورته الحالية في ما يسمّى بكتاب تاريخ الشعوب والدول الإسلامية عام 1939، وقبل ذلك في عام 1936 كانت له تصحيحات على كتاب «عيون الأخبار لإبن قتيبة الدينوري» المطبوع في دار الكتب المصرية.