ترجع بنا البدايات الأولى للتواجد الإسلامي بهولندا إلى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية (1)، لكن كما يبدو للمتصفح لتاريخ العلاقات الإسلامية الهولندية، يدرك أن هذه العلاقات تضرب في القدم، فبحكم العلاقات الاستعمارية التي كانت تربط هولندة بمستعمرتها الإسلامية إندونيسيا، شارك مجموعة من الموظفين و الجنود و التجار المسلمين عاداتهم وأعرافهم وتقاليدهم، كما أنهم تعرفوا عن كثب على منظومتهم القيمية و الإجتماعية والثقافية، تجدر الإشارة الى أن دراسة الإسلام في هذه الفترة كانت بالدرجة الأولى حكرا على خريجي جامعة ليدن الشهيرة، التي أسست سنة 1575، إبان فترة حرب الأعوام الثمانين، وكانت معظم الدراسات التي إشتغلت على موضوعات الإسلام، ترنو الى إنشاء و تطوير سياسات السلطات الإستعمارية تجاه مستعمراتها، وإلى كيفية إخضاع شعوب هذه المناطق لمطامعها ونزواتها ورغباتها (2). من هنا تأتي أهمية المستشرق وعالم الديانات الهولندي، كريستيان سنوك هونخرونية (1857 -1936)، الذي عمل مستشارا لدى الحكومة الاستعمارية الهولندية في الشؤون المتعلقة بالإسلام والمسلمين في إندونيسيا، والذي تخرج بدوره من جامعة ليدن برسالة بعنوان: "موسم الحج في مكة" تحت إشراف أستاذه المستشرق الكبير ميخائيل يان دوخويه (1838 -1909 )، وفيها بين أهمية الحج في الإسلام وما يصاحبه من مراسم وعادات، وانتهى به الزعم الى أن الحج الإسلامي هو بقية من بقايا الوثنية العربية(3). أياما قليلة قبل رحلته الشهيرة هاته الى مكةالمكرمة والتي كانت في 28 غشت 1884، كتب مقالة في جريدة إنديس خيدس، يتحدث فيها عن خطورة الدين الإسلامي، لكن على الرغم من ذلك، فبحسب ما خلص إليه المستعرب المعاصر فن كونينسفلد (4)، فإن له مواقف ايجابية كثيرة بخصوص الإسلام، إذ يرى هونخرونية أن الإسلام لا يختلف عن الأديان السماوية الأخرى، فهو ينطوي على إمكانية للتحول و التطور، تحت تأثير سياسة عقلانية، نحو الإنسجام مع القيم الإنسانية المعاصرة، هذا بالإضافة الى أنه أوكلت له مهمة نشر الثقافة الهولندية في الأوساط الإسلامية بالجزر الإندونيسية (5)، حيث عمل في خدمة المستعمرات الهولندية طوال عامين، مستشارا للحاكم العام الهولندي في أندونيسيا، و في الشؤون الإسلامية و التي كان مقرها في جاوه، فتمكن بطريقة ذكية جدا، من إخضاع شعوب هذه المنطقة لهولندة، هؤلاء الذين أظهروا مقاومة شرسة للإمبريالية الهولندية في السنوات الأولى، فعاش سنوك بين ظهرانيهم و تعرف على عاداتهم و تزوج من أشراف القوم فيهم و ترك ذرية من ذويهم، هاته الأخيرة التي تنكر لها بعد عودته في آخر حياته الى ليدن، حتى ألفه الناس و أحبوه، بل جعلوه في مرتبة أسياد القوم، يستفتى في قضايا الشريعة، و يرجع اليه في قضايا الدين و الدنيا، ، كما أنه ساهم في صياغة كثير من السياسات التي بنيت عليها قوانين تنظم شؤون الأقليات المسلمة داخل و خارج هولندا،كما لا يفوتني في هذا المقام، أن أشير الى أن له يرجع الفضل في صياغة قانون الزواج الخاص بجزر الهند الشرقية (6). في مطلع الثمانينات من القرن الماضي، عندما عينت أول لجنة في تاريخ هولندا، تحت إشراف أستاذ الإسلاميات و فيلولوجيا الدين بجامعة أترخت فاردن برخ (7)، والتي أوكلت لها مهمة صياغة أول مسودة سياسة عامة منظمة لشؤون الأقليات المسلمة، من القضايا التي أثارها التقرير الذي أنجزته هذه اللجنة، بشأن و ضعية الإمام او "الخودجا"* داخل القانون المنظم للوظائف و المهن بهولندا، موقفها القاضي بحرمان الإمام من الوظيفة العمومية،إذ أعتمد في هذا الرأي على إستشارة كان قد تقدم بها سنوك هونخرونية، مفادها أن الإسلام لم يعرف قط شكلا من الأشكال المتعارف عليها في المسيحية، فيما يتعلق بنظام الخطابة لدى القساوسة و مزاولتهم لأعمالهم الأخرى داخل الكنائس و الأديرة، هذا طبعا سيتغير في مراحل لاحقة، لكن بعد صراعات قانونية و حقوقية مريرة (8). وهذا ما يجعلنا نخلص الى القول أنه ، حتى في مراحل لاحقة عندما لبس الوجود الاسلامي لباسا آخر و تلون بالوان المهاجرين الجدد من شمال إفريقيا و تركيا، لم تسلم هذه السياسات من هيمنة و سلطة إنشاءات سنوك هونخرونية الإستشراقية، فظل حاضرا في كل ما ينشر و يكتب عن المسلمين الى يومنا هذا. أما فيما يتعلق بالدراسات و البحوث الهولندية حول الأقليات المسلمة، فترجع كثير من الكتابات الحديثة إرهاصاتها الأولى الى القرن السابع عشر (9)، إذ عمد هيخو دخراوت ( 1583 – 1645 ) في كتابه الذي أصدره في ستة مجلدات سنة 1622 و عنونه ب"دليل حقيقة الديانة المسيحية"، الى التنقيص من قيمة النبي صلى الله عليه و سلم و القول بأنه لم يأتي بمعجزات تذكر مقارنة مع المسيح عليه السلام، و قد إستند في ذلك على كتابات اللاهوتي الإسباني فيفس، و هو بدوره إعتمد مراجع من القرن 12 أثناء فترة الحروب الصليبية (10). لم تكن هولندة نشازا داخل أوربا بشأن موقفها تجاه الإسلام، إذ تجدر الإشارة الى أن معظم أوربا سادتها أفكار تشي بأن الإسلام هرطقة و عقيدة فاسدة و أن النبي إنسان مخادع، و أن الدين الإسلامي يحاكي المسيحية محاكات قردية، وقد عرف البروتستانيون من مصلحي القرن السادس عشر الإسلام وفقا للمسيح الدجال. و دعموا هذا الزعم بالإستناد إلى الكتب المقدسة، بما فيها سفر دانيال و سفر الرؤيا، اللذان ظهرا لمخاطبة مخاوف دينية و سياسية، و بتفسير مبتكر، إذ يمكن تعريف المسيح الدجال بحسب هؤلاء على أنه نبي الإسلام ، أو سلطان الدولة العثمانية، ثم القوة العسكرية الإسلامية الأقوى في آسياو أوربا (11). إن هيمنة هذا الصنف من الكتابات في الأدبيات الهولندية الكلاسيكية، لايلغي حضور بعض الإستثناءات التي عرفتها دائرة المعارف الهولندية، و أضرب هنا مثالا باللاهوتي أدريان رايلاند (1676 – 1718) من مدينة أوترخت، الذي نشر كتابا حول الإسلام باللغة اللاتينية و ترجم الى الهولندية سنة وفاته 1718، بعنوان: "العقيدة المحمدية" (12)،تطرق هذا المستشرق و اللاهوتي في الجزء الأول من كتابه هذا الى العقيدة الإسلامية و العبادات، في حين خصص الجزء الثاني للرد على أربعين هفوة تتخلل التعامل السيء للمسيحيين مع الإسلام و المسلمين ( 13)، و هنا من اللازم اللازب أن نسجل ملاحظة، تكمن في كون أن الإسلام عرف في هولندا، كما عرف أيضا في باقي الدول الأوربية بإسم "المحمدية"، وفي هذا تحريف مستبطن، قائم على قياس عقيم جرى على المسيحية، و مصدر ما فيه من العقم، ربطهم لقضايا التعبد عند المسلمين بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، بدلا من ربطهم بالله عزوجل و إخلاصهم له وحده جل ذكره بالعبادة والتنزيه، و لا يزال أثر هذا الخلط و اضحا حتى عند بعض المعاصرين، ممن يشتغلون في حقل اللاهوت، لكن كما يبدو من خلال كتابه هذا، يكون قد سعى من في هذا التاريخ المبكر من تاريخ العلاقات الهولندية الإسلامية، الى تحليل بعض الصور النمطية و التمثلات الكامنة في ذهنية الشعوب الهولندية تجاه الإسلام، و دعا الى صياغة رؤية موضوعية ومنصفة حول هذا الدين، عن طريق الرجوع و إعتماد المصادر الأساسية و أمهات الكتب بدلا من الإكتفاء بالواسطات، كما دعا الى ضرورة الإهتمام بدراسة و تدريس اللغة العربية كأداة للتمكن من ولوج هذه المصادر و الوقوف عل حقيقتها. أعود و أكرر القول، أنه الى حدود الحرب العالمية الثانية، لم تعرف المجتمعات الهولندية إحتكاكا مباشرا بالمسلمين، و هذا ما تم بالفعل مع نهايات الأربعينات و بداية الخمسينات من القرن الماضي، إذ عرفت هولندة إستقبال مجموعات قليلة من المسلمين القادمين من بعض الجزرالأندونيسية و الجزر القريبة منها، هذه المجموعات التي ضمت مجموعات طلابية، أو جنودا حاربوا الى جانب القوات الهولندية أو من الذين كانوا مجندين ضمن و حدات الجيش الملكي الهولندي الهندي(14). خلال سنوات السبعينات من نفس القرن ستعرف نزوح فئات كبيرة من المهاجرين و خاصة بعد إستقلال دولة السورينام 1959، إذ هاجر أزيد من 30.000 مسلم من أصول يافانية أو هندية الى هولندة (15)، و جلهم كانوا يدا عاملة رخيصة، و في نفس المرحلة سنعرف هجرة اليد العاملة القادمة من شمال إفريقيا و تركيا، و هذا ما جعل الهولنديين يحتكون بشكل مباشر بهذه الأقليات المسلمة، و يتعرفون تباعا على عاداتهم و تقاليدهم الجديدة، التي ستتحول الى مصدر خوف و فزع في مراحل لاحقة،و مكمن هذا الخوف ربطه بعمليات الأسلمة التي تعرفها المجتمعات الهولندية، أو بتغير أشكال المدن و القرى القديمة، التي كانت تأخذ طابعا هولنديا صرفا، و تعرف اليوم بحكم تغير تركيبة المجتمع و بروز أشكال إجتماعية أو إقتصادية جديدة، تعددية و تنوعا على مستوى حضور الثقافات المختلفة، و هذا مايرى فيه الكثيرون، مصدر تهديد للهوية الأصلانية، لكن هذا الأمر كله لم يكن مدعاة إهتمام و نظر من طرف السلطات الرسمية إلا مع بداية الثمانينات، لعدة إعتبارات، أسوق بعضا منها: الثورة الإسلامية في إيران 1979 و الحرب الأهلية اللبنانية، مسرح الأحداث لكثير من قوى المعارضة في الدول العربية، و صدور تقرير المرصد العلمي للسياسات الحكومية حول الأقليات سنة (.1979) و غيرها. (16) نشأ لدى السلطات الرسمية وبعض القوى الإجتماعية و السياسية في مراحل لاحقة، الوعي بأهمية ومركزية هذا الموضوع، فشرع الباحثون و المهتمون و صناع السياسات والقرار في الأراضي المنخفضة، بتوليد ترسانة من المصطلحات و الأسامي و النعوت لهذه الفئات الإجتماعية الجديدة، فنعتوهم بالعمال الضيوف أحيانا، وبالعمال الأجانب أحيانا أخرى، أو بالأقليات الإثنية تارة، و بالجماعات الإثنية تارة ثانية، و مع بداية الثمانينات من القرن الماضي، أدركت مراكز القرار في البلاد أن إستقرار هؤلاء العمال الأجانب أضحى أمرا واقعا و مؤكدا، فكان لابد من تجديد هذه الترسانة المصطلحية، و البحث عن نعوت جديدة لوصف البنيات المجتمعية المستحدثة، و إنسجاما مع هذه المرحلة من تاريخ هولندة الحديث، نحتت مصطلحات من قبيل المجتع المتعدد الثقافات، الذي يحيل على التعدد و التنوع و على المساواة بين الثقافات الأصلانية و الثقافات الوافدة، بيدأن الواقع ظل على خلاف ذلك، إذ أن المساواة لم تتحقق قط، و على الرغم من كل هذه الجهود التي بذلت، لم تساعد هذه الأخيرة على تحسين الصور النمطية الراسخة عند الشعوب الهولندية الأصلانية تجاه المسلمين و ظلت كما كانت عليه من قبل أو أخذت طابعا جديدا. أما في السنوات الأخيرة، فتكتسي هذه الصور و التمثلات خطورة بالغة، و تتحول الى كابوس يقض مضجع الأقليات المسلمة، و خاصة عندما تتحول هذه الأقليات الى مادة دسمة للأحزاب اليمينية و المتطرفة، إّذ تؤسس هذه الأخيرة لخطاباتها الإيديولوجية و لبرامجها السياسية على مبدإ العداء الأنطلوجي تجاه هذه الأقليات، فما فتئت هذه الأحزاب تستدعي الإرث التاريخي، للكره و العداء المستميت تجاه الإسلام و المسلمين، الممتد من الحروب الصليبية مرورا بتراجع نفوذهم على أسوار بواتييه (732) و أفول نجم حضارة المسلمين في الأندلس التي دامت لقرون عديدة، و فتح قسطنطينية (1453) (17) وغيرها من المحطات التاريخية التي لازالت راسخة في الذهنية التاريخية للإنسان الهولندي، وترمو هذه الأحزاب من خلال هذا التوظيف الإيديولوجي المقيت لأحداث تاريخية معينة و منتقاة بإحكام، الى كسب تعاطف الناخبين وجني أكبر عدد ممكن من الأصوات خلال الإنتخابات، وفي الوقت نفسه تكرص مبدأ إقصاء المسلمين من المساهمة الفعالة في الفضاء العام والتحجيم من دورهم كمواطنين أحرار ومستقلين في هذه البلاد، طبعا هذا لايلغي مسؤولية المسلمين تجاه أزمتهم العملية والسعي للبحث على إيجاد حلول لمعضلاتهم و أدوائهم الحضارية، وخاصة في مجتمع قائم على أساس الفعل الفردي الحر، وعلى تحمل المسؤولية الفردية. وموازاة مع هذه المرحلة الجديدة، من تاريخ الحضور الإسلامي داخل البيئة الهولندية، برزت أنواع جديدة من البحوث والدراسات، تصدرتها مراكز بحث داخل الجامعات العريقة، كجامعة ليدن (1575)، وجامعة أمستردام (1632) وجامعة أترخت (1634)، هاته الجامعات الشهيرة بحرص أكاديمييها على الاهتمام بموضوعات الإسلام وبخصائص ومميزات المسلمين، وهذا ليس وليد الساعة، إنما هو نتيجة تراكمات معرفية وعلمية لمدة قرون عديدة وامتدادا طبيعيا لجهود الآباء المؤسسين الأوائل للإستشراق الهولندي والفلاماني، كنيكولاس كلناردوس الذي درس العربية في جامعة لوفن ببلجيكا، وهي الجامعة الوحيدة التي كانت يومئذن بهولندا، التي كانت تعنى بموضوع تدريس اللغة العربية. هذا الأخير الذي التقى بالعالم العربي التونسي محمد ابن أبي الفهد، و هو بدوره كان قد أخذ رهينة و باعوه بسوق نخاسة بإسبانيا سنة (1550)، أو كتوماس أربينيوس (1584-1624) الذي شغل أول منصب أستاذ للغة العربية بجامعة ليدن في 8 ماي (1613)، و الذي ذهب سنة (1611) في رحلة علمية الى باريس، و إستقر به المقام في إحدى القرى المجاورة، و شاءت الأقدار أن يلتقي بشخصية عربية و إسلامية مهمة جدا، و الذي سيقوم بلعب أدوار مهمة على المستوى العلمي و الديبلوماسي بين المسلمين من جهة و الهولنديين من جهة ثانية، ألا وهو الفقيه المالكي والديبلوماسي الموريسكي المسلم، شهاب الدين أحمد بن القاسم الحجري، الملقب بأفوقاي، مصنف كتاب " رحلة الشهاب الى بلاد الأحباب"، والذي غادر إسبانيا سنة (1599) هاربا و قفل راجعا الى المغرب، و عين بعد ذلك مستشارا و مترجما لدى السلطان، وإثر مهمة ديبلوماسية للحجري في باريس بشأن الموريسكيين المسلمين الذين ظلوا تحت إمرة الملك فيليب الثالث سنة (1609). أثناء هذه الجولة الديبلوماسية جمعت الحجري بتوماس أبرينيوس محادثات ونقاشات مستفيضة في قضايا دينية و عقدية، كما أن الحجري أعان أبرينيوس على تعلم اللغة العربية، و تأثير الحجري كان جليا في أعمال إيبرينيوس، كما أشار الى ذلك بنفسه. (18) يحسن بنا أن نقسمم الأبحاث والدراسات، التي إهتمت بموضوع الأقليات المسلمة في العقود الأخيرة، و التي إشتغلت على موضوع الوجود الإسلامي في هولندة، الى قسمين: قسم إهتم بالدرجة الأولى بالإشتغال على الجانب النظري الصرف، من معالجة و تحليل للمتون والنصوص، و يقوم بهذه المهمة في الغالب لاهوتيون أو علماء لغة أو إثنيون، فيتراءى لهؤلاء على أن الإسلام عقيدة صرفة، يضعونه بجانب الديانات الأخرى من مسيحية و يهودية، أو على أنه فلسفة أو نمط حياة، تتعارض في معظم الأحيان و الحياة الغربية الحديثة القائمة على قيم العلمنة و فصل الدين عن الحياة، بالشكل المتعارف عليه في هولندة، الذي يقبل بعض المرونة و التفاوض و التوافق، عكس النموذج العلماني اليعقوبي الفرنسي المتصلب، فهو بهذا يكون أقرب الى النموذج الأمريكي من النماذج الأوربية الحديثة. من خصائص هذا النمط من الأبحاث، أنها لا تحيد عن السياق العام الذي يؤطر الدراسات والأبحاث اللاهوتية في الجامعات الهولندية، إذ ما فتئت المرجعيات المسيحية تحضر بشكل ملحوظ في مقاربة الموضوعات الإسلامية، و ويسعى كثير من الباحثين الى إخضاع هذه الموضوعات لنفس القوانين و المناهج و المسلمات المستنتجة من خلال تعاملهم و مباشرتهم للأبحاث المسيحية، هذا فضلا على أن كثيرا من هذه الدراسات، تنطلق من منطلقات تحديثية أو تنويرية، تهدف الى عقلنة موضوع متخلف و لا حداثي و لم يعرف العقلنة و التنويريوما م ألا وهو الدين الإسلامي، و لا تربطه صلة بثقافة الحريات و حقوق الإنسان. في هذا السياق تأتي دعوات الإصلاح و التجديد الديني لدى كثيرين من المهتمين و الباحثين الهولنديين، الذين غالبا ما يوسمون بالموضوعية و الحياد. أما الصنف الثاني من المثقفين يرون في هذه المحاولات الإصلاحية، محاولات لاجدوى منها و لاطائل وراءها، و يرجعون سبب هذا الإخفاق التجديدي الى كون، أن البنيات العميقة للدين الإسلامي، و المنظومات القيمية للمسلمين، لا تنسجم مطلقا وروح العصر، ولا تساعد بشكل أو بآخرعلى القيام بهذه المهمة المستعصية. يكاد يجمع كثير من الباحثين والمستعربين من جيل مابعد المرحلة الكولونيالية،(19) على ضعف وهشاشة تكوين هؤلاء الباحثين المعاصرين في هذا المجال، مجال الإسلاميات الحديثة، وعدم تمكنهم من الآليات و الأدوات المعرفية لمقاربة النصوص التراثية الأصلية والمتون العربية الكلاسيكية المعروفة بقوة نسقها و متانة بنائها اللغوي، فيكتفون بالإعتماد على الواسطات، أو على كتب لا تفي بالغرض المقصود، و لا تفي بالشروط المعرفية والعلمية التي يشترطها، البحث العلمي المعاصر، هذا ما يجعلهم يسقطون في مطبات وأخطاء مهولة. اما القسم الثاني، فهي الدراسات التي غالبا ما تذهب مذهب البحوث الميدانية، والتي يقوم بها باحثون مختصون في العلوم الإنسانية والإجتماعية(20)، تعالج موضوعات شتى، أضرب مثلا هنا، بموضوع التدين عند المسلمين بشتى أشكاله و أوصافه و سماته وخصائصه، وتلتلقي في كثير من الأحيان، عند هذه الدراسات حقول معرفية متباينة ومختلفة، وغالبا ما تصرف هذه البحوث والتقارير الى صياغة سياسات عامة للبلاد في موضوعات الهجرة والإندماج، أوالبحث عن طرائق جديدة لتأطير وتأهيل ومصاحبة الأقليات المسلمة في مجتمعاتهم الجديدة، أو صياغة سياسات وقائية كما هو الحال اليوم في موضوعات التطرف الديني الذي يوضع على رأس أولويات السلطات في معظم الدول الأوربية، أو شرعنة قوانين تنظم الحياة العامة و الخاصة لهذه الفئات، و ما يتصل بها من مؤسسات او وظائف و مهن أو من خدمات في قطاعات عمومية. الثابت أن كثيرا من هذه الدراسات لا تستطيع أن تميز بين الدين كمنظومة عقدية و قيمية والتدين كممارسة شخصية وفردية تختلف من فرد لآخر ومن بيئة لأخرى، بعبارة أخرى، تجد صعوبة كبيرة في التمييز بين الأفكار القبلية و الرؤى والنظريات العامة وبين منظومة القيم السائدة عند المسلمين في سلوكياتهم و حياتهم اليومية، وفي هذا الخضم يغيب بعد دور الثقافة عند هؤلاء الباحثين في إدراك وفهم الخلفيات المؤسسة لهذه الممارسات، لدى كثير من المتدينين أو غير المتدينين ، لذا تجدهم يتحدثون عن الإسلام ككل موحد و منسجم ومتناسق، مع إغفال حجم التنوع والتعدد والاختلاف الذي شهده، ولا يزال يشهده الإسلام في هولندة وفي غيرها من الدول الأوربية. نخلص بعد هذا الجرد العام إلى القول إن صورة الإسلام لدى الهولنديين، لا تزال تستمد حيويتها وشحوناتها المعرفية والنفسية من مواقف الكنيسة الكاثوليكية تجاه هذا الدين، ومن لحظات التقاء واحتكاك هذه الأخيرة بالمسلمين في شكل حملات تبشيرية لحثهم على قطع الصلة بدينهم، إذ كان الدافع الأساس لظهور أول ترجمة للقرآن الكريم سنة (1143) من طرف روبرت كريتون، ضمن هذا السياق عينه، والتي كانت بطلب من القسيس بتروس فنارابيليس، والهدف من هذه الترجمة لم يكن هدفا علميا بحتا (21)، إنما بهدف صد المسلمين عن دينهم كما أشرت الى ذلك آنفا، و تبيان أن الدين الإسلامي أو بتعبرهم الشهير المحمدية دين هرطقة و الحاد، لكن ببروز الحركات الإصلاحية البروتستانتية خفت حدة هذا الحقد الدفين والكره تجاه الإسلام، الذي بلغ ذروته في فترة الحروب الحروب الصليبية، وهذا ما كان له الأثر البالغ في الكتابات التي ظهرت بعد هذه الفترة، في هولندة التي كانت تابعة و تحت نفوذ الإسبان، وببروز الحركات الدينية الإصلاحية مع كبار مصلحيها كمارتن لوثر و كالفن و إرسموس، خفت نسبيا نسبة هذا الحقد و الكره تجاه المسلمين، لكنه ظل سائدا و حافظ على وجوده و إستمراريته في كتابات بعض من هؤلاء الإصلاحيين(22)، فحمل التاريخ الحديث لنا نماذج متعددة، أشرت الى بعض منها في هذه المقالة،و كثير منها لم يسعفني الحظ للإتيان عليها، لكن الثابت أن الأفكار و الرؤى التي ترسخت عند الهولنديين حول الإسلام و الوجود الإسلامي، أخذت أشكالا و صورا و تمثلات مختلفة، ولا تزال الأقليات المسلمة في هذا البلد الأوربي الصغير، تعاني من بقايا هذه الصور والتمثلات، التي عادت لتأخذ حضورا ملفتا للانتباه خلال السنوات الأخيرة، وخاصة بعد أحداث الحادي عشر من أيلول، ومقتل الفنان الهولندي تيو فن خوخ، على يد أحد أفراد هاته الأقلية المسلمة في الثاني من نونبر سنة 2004 . هذه الأحداث وغيرها تجعل الأقليات المسلمة في هولندا، أمام معضلة الدفاع عن نفسها بإستمرار، وأن تعمل بكد على درء الشبهات عنها، وتكرير مواقف الشجب والرفض لكل ماهو عنف أو إرهاب، محاولة منها إرضاء الغالبية العظمى من فئات المجتمع الهولندي، هذا الإرضاء الذي يصعب نيله، ويستحيل بلوغ مرامه، فتظل تدفع عن نفسها عرائض التهم المنجزة مسبقا والمحبوكة بإتقان، من طرف وسائل إعلام أو نخب ثقافية أوسياسيين أو صناع قرار. *المراجع المعتمدة: 1-P.S Van Koningsveld, De islam Een eerste kennismaking met geloofsleer wet en geschiedenis, uitgeverij De Ploeg, 1996, P 10 2- Ibid, P 6 7 P.S.Van Koningsveld, Snouk Hurgronje en de Islam Acht artikelen over leven en werk van een oriëntalist uit het koloniale tijdperk, uitgave van het Documentatiebureau Islam – Christendom -297, P 218 8- Ibid,P 219 9- Ibid,P 222 10- Ibid,P 222 15-W.A.R Shadid, P.S. Van Koningsveld, Moslims in Nederland,minderheden en religie in een multiculturele samenleving, Samson Stafleu, 1990, P 18 16- Ibid, P 39 17-Marcel Poorthuis en Theo Salemnik, Van Harem tot fitna, beeldvorming van de islam in Nederland 1848 – 2010, Valkhof Pers, 2011, P 58 18-Arnoud Vrolijk en Richrad van Leeuwen, Voortreffelijk en Waardig, 400 jaar Arabische studies in Nederland, Rijksmuseum van Oudheden, leiden, 2013, P 30-31 19- W.A.R Shadid, P.S.Van koningsveld, Ibid, P 39 - 40 20- Ibid, 39 - 40 3- عبد الرحمن بدوي، موسوعة المستشرقين، دار العلم للملايين بيروت، الطبعة الأولى، 1989 ، ص 245 4- التيجاني بولعوالي،سنوك المستشرق الجاسوس مهندس السياسة الخارجية الهولندية، مجلة الرابطة، عدد 597، بتاريخ يوليوز 2016، ص 43 - 44 5- المرجع نفسه، ص 43- 44 6- عبد الرحمن بدوي، مرجع سابق ، ص 245 11-دينيس. أ. سبيلبيرغ، جيفرسون و القرآن، ترجمة فؤاد عبد المطلب، مؤمنون بلاجدود و جداول، الطبعة الأولى ص 50 – 146 ، 2015 13- التيجاني بوالعوالي، صورة الإسلام في المقاربة الأكاديمية الأوربية: المقاربة الأكاديمية الهولندية نموذجا، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية،العدد 183، الطبعة الأولى 2013، ص47 14- عبد الرحمن بدوي، مرجع سابق، ص 246 21- دينيس.أ. يبيلبيرغ، مرجع سابق ص 136 22- دينيس.أ. سبيلبيرغ، مرجع سابق ص136