بحثا في الإرث الذي تركه الأكاديميّ عبد الكبير الخطيبي، الأنثروبولوجي والناقد والأديب، يجمع مؤلَّف جديد أبحاث أكاديميّين في منجَزه من المغارِب، والعالم العربيّ، وأوروبا، وآسيا. وأصدرت هذا المؤلَّف أكاديميّة المملكة المغربية بعنوان "عبد الكبير الخطيبي: أيّ إرث ترك لنا؟"، ويضمّ أعمال النّدوة الدّولية المنعقدة بأكاديمية المملكة بالرّباط أيّام 20 و21 و22 مارس 2019 في الذّكرى العاشرة لرحيله. وكتب عبد الجليل لحجمري، أمين السّرّ الدّائم لأكاديميّة المملكة المغربيّة، أنّ عبد الكبير الخطيبي قد ترك لنا "إرثا فكريّا غنيّا وخصبا وعميقا"، وعبّر عمّا يراه، مثل كثير ممّن عرفوه وعاشروه ودرسوا مؤلّفاته، من أنّ الخطيبي كاتب استثنائيّ، تمتاز حاجتنا إليه بالرّاهنيّة، لأنّها "تُغني وجداننا، وتُجدِّد توقنا الدّائم للإبداع الأدبيّ الأخّاذ، والتّحليل الثّقافيّ المتّقِد والمُختلِف". وأضاف لحجمري أن "الاختلاف كما تصوّرَه وفهِمَه عبد الكبير الخطيبي، إقرارٌ بتعدّد فكريّ لا يجعل الهوية مجمّدَة في مركز أو أصل"؛ ولهذا "يعرف عصرنا الرّاهن مراجعات عدّة في الاقتصاد والاجتماع والثّقافة والعلوم والتّكنولوجيا". واسترسل لحجمري قائلا: "ثمّة حركة فكرية مركّبة ومعقّدة تفرضها لحظة حضاريّة جديدة تؤسِّس لتأويلا عقلانيّ للمعرفة، ونموذج لإنسان متحرِّر من كلّ تطرّف وانغلاق فكريّ بمكوِّناته العرقيّة والعقديّة، وفي مرحلة تسيطِر فيها توجّهات العولمة المتوحِّشة"، وهنا زاد متسائلا: "هل ما زالت الإقامة ممكنة فيما كان عبد الكبير الخطيبي يسمّيه التّباين السّاذج، الذي هو في الأصل انفصام وهميّ بين الأنا والآخر؟". ورأى أمين السّرّ الدّائم لأكاديميّة المملكة المغربيّة أنّ قدرة عبد الكبير الخطيبي كانت ملحوظة بإسهامِه الدّائم في ابتكار مساحات للإبداع الأدبيّ والخيال المتفرّد، شعرا ورواية ومسرَحا، فيها استدعاءات للحياة والرّمزيات الثّقافيّة والاجتماعيّة، وسيرة الذّات والكينونة، من أجل ابتكار المعنى المختلِف والعبارة الدّالَّة. وقال لحجمري إنّ النّص الأدبيّ عند الخطيبي "مساءلة واختبار لذكاءَات وحساسيّات عصره"، موردا: "ولأنّه مبنيّ على الاستعارة الحاذِقة والمبتكرَة، فإنّه يتميّز بإحكام في الشّكل وقدرة في المضمون تستدعي التّفكيك والاختلاف، ونقدا مزدوجا للجسد، والحُلم، والمركزيّ، والهامشيّ، واللاشعور، والأنا، والآخر في آن معا". وكتب الخطيبي "بحرية وصرامة وتجدّد"، وفق عبد الجليل لحجمري، وكتب التّحليل والنّقدَ بحدس ونظرة ثاقبة، بشغف بالعميق والعظيم والنّبيل، مستعينا بغنى العديد من المناهِج والمعارف من النفسانيات والاجتماعيّات والأنثروبولوجيّات، إلى السّياسات والتّاريخيّات والسّيميائيّات؛ لذا "ظلّت كتاباته أثرا حين نستحضر موقِفَه من التّراث، ومن سوسيولوجيا المجتمَع والعقلانيّة، والتّسامح واحترام الآخر، ودفاعه عن الهوية والمواطنَة، ومعنى الانتساب إلى روح العّصر". وأكد لحجمري الحاجة إلى فكر الخطيبي اليوم، قائلا: "في ذخيرته الثّقافيّة والإبداعية ما يؤكِّد أهمية هذه الحاجة؛ لأنّ ما كان ينتظِمُها هو النّظرة المنهجيّة المتجدِّدَة والمتطوِّرَة باستمرار، والمحتفِلة بنقد المقاربات وتحليل العلاقات وفهم التّأثيرات، من أجل تبرير علاقة النّصوص بوجودِها التّاريخيّ، وبما يؤسّسها ويمنحها هويّتَها؛ كلّ ذلك بمنهج العِلم المراعي للتّنوّع الثّقافيّ". كما سجّل الكاتب أنّ مؤلَّفات الفقيد "شاهدة على تميُّز فكره وعمق تحليلاته التي بناها على قوّة الملاحظَة والمقارنَة، باعتباره باحثا سوسيولوجيّا، وأديبا أضاف لمشهدنا الأدبيّ تجربة في الكتابة تحتفِل بالجمال قدرَ احتفائها بالمعرفة المتجدِّدَة والمستنيرة". وفي شهادة شخصيّة، اختتم عبد الجليل لحجمري كلمته مخاطِبا الفقيد عبد الكبير الخطيبي بالقول: "أذكر أنّني كنتُ من بين الأوائل الذين احتفَوا بك إثر عودتك من فرنسا منتصف الستّينات حاملا شهادة الدكتوراه حول الرواية المغاربيّة التي أشرف عليها عالِم الاجتماع جاك بيرك، كانت لحظة مشِعَّة بالاجتهاد والعطاء، وأذكر أيضا أنّني التقيتك قبل رحيلك الأبديّ وكنتَ في غاية الانشراح بصدور أعمالِك الكاملة في ثلاثة أجزاء". وأضاف لحجمري: "حدّثتَني عن أعمالك الكاملة بزهو، تركتُكَ فرحا، فيما انتابني حزنٌ غامض؛ لأني لم أفهم فرحَك بأعمالِك مكتمِلة، وكنتُ أظنُّ أنّها لا تصدر إلا بعد وفاة أصحابها، كنتَ فرحا بها مستعجِلا الرّحيل، بعدما وهبتَ حياتك للكتابة والبحث، ومنحت اسمَك خلودا لأنّ آثارَك تظَلُّ باقية، وأخلاقك حفز لنا من أجل أن نكون في نضاليّة الثّقافة والإبداع الجميل، ومن أجل أن نواصِل قراءة وتطوير مشروعك الفكريّ". وتذكّر أدونيس، شاعر وناقد ومترجم، الحوار الدّائم الذي جمعه بعبد الكبير الخطيبي حول قضايا العرب، خاصّة ما يرتبط منها بالدين والهوية والآخر المختلِف، واختار أن يكون نصُّهُ متابعة لهذا الحوار، واستأنفه بسؤال: "هل يدخل المسلمون العرب في القرن الحادي والعشرين بقوّة الواقِع الموضوعيّ مرحلة ما بعد الإسلام والعروبة سياسيّا وثقافيا؟". من جهته، تساءل عبد السلام بنعبد العالي، أكاديميّ مترجِم، "ما إذا كان من حقّنا أن نتحدّث أيضا عن إرث فلسفي للخطيبي؟ إلى جانب ما يناقَش حول إرثه في مجال السوسيولوجيا والسيميولوجيا والكتابة الأدبية"، ثم يسترسل مجيبا: "لم يخض الخطيبي غمار القضايا الفلسفيّة بالمعنى المعهود، وهو يظَلُّ أبعد ما يكون عن الفلسفة بالمعنى الذي نطلق به على محمد عزيز الحبابي، على سبيل المثال، اسم فيلسوف". وتتبّع بنعبد العالي هذا البُعدَ عن الفلسفة في كيفية تعامل الخطيبي في أعمالِه مع تاريخ الفلسفة، وعرضه قلّة من أعلام الفلسفة، دون أن يستبِدّ به هوس مؤرّخي الفلسفة من تدقيق للنّصوص، وانشغال بانتقالها وتحوُّلِها، ومقارنة بين لُوَيناتِها؛ ف"معظم الأفكار الفلسفيّة في كتابات الخطيبي لا تأتي نتيجة تحليل، بل يوظِّف المفهوم دون انشغال بأصولِه"، ثم استدرك قائلا: "رغم ذلك، ليس في استطاعتنا أن نُنكِر أن الروح الفلسفيّة تظَلُّ ماثلة في كتابات صاحب (النّقد المزدوج) لا كعناية بتاريخ الفلسفة هذه المرّة، ولكن كسلوك على مستوى النظرية كاستراتيجية." هذه الروح الفلسفية الحاضرة كسلوك عند الخطيبي تتجلّى، وفق عبد السلام بنعبد العالي، في "تشكّكِه السّقراطيّ اليقِظ، وحذَرِه الشّديد من أن ينجرَّ إلى الخطابات الإيديولوجية والتّحليلات التاريخية المبسّطة، كما يتّضح في معاملته الحذرة مع المذاهب الفلسفية، حتى أكثرها ثوريّة، وفي نهجه استراتيجيّة تعتمِد أساسا اقتراح قراءات مفتوحة أكثر ميلا إلى إثارة الأسئلة وفحص القناعات". وذكر الكاتب أنّ لدى عبد الكبير الخطيبي دعوة إلى الفلسفة كاستراتيجية وبرنامج، يسمّيها في كتاب "المغرب المتعدّد": "فكرا مغايِرا". كما وضّح أنّ مهمّة النّقد المزدوج عنده مقاومة للتّطابُقِ الموهوم، من أجل "الكشف عن الهوية المتعدّدة"، دون أن يكون هذا نقدا إيديولوجيا، بل حتى مفهوم النّقد ذاته، عند الخطيبي، ليس معارَضة موقِف بآخر، وليس موقِفا مضادّا، بقدر ما هو القيام "داخل" الموقف لتفجيره، وتقويضِه، وخلخلتِه. وكتب عبد السلام بنعبد العالي قائلا: "حاول الخطيبي أن يفتح الحقل الثّقافيّ المغربيّ على الخصوص، والعربيّ بصفة أعمّ، على تصوّرات نظريّة مجدّدة، وينهل من معين الإبستمولوجيا والسيميائيات وفكر الاختلاف، ليصهَر كلّ هذه المباحث في مقاربة خاصّة تتّسم بالتّعدّد النّظريّ ضدّا على أحاديّة المنهج التي كانت تطبع الفكر العربيّ وقتئذ، تحرُّرا مِن كلّ دوغمائيّة، بما فيها تلك التي كانت تطبع بعض النّزعات الماركسيّة الغربيّة والعربيّة"، ثم أجمل بالقول: "أو ليس هذا وحدَه كافيا لتأكيد تلك الرّوح الفلسفيّة التي تحدَّثنا عنها!". وفي كتاب "عبد الكبير الخطيبي، أيّ إرث ترك لنا؟"، تبحث رجاء بن سلامة، أستاذة الأدب والحضارة العربية بتونس، في الوزن البيبليوغرافيّ للمُحتفى به، باسطة ملاحظات كمّيّة دالّة، من بينها أنه "لا يبدو أنّ الخطيبي قد نال الحظوة التي يستحِقُّها مبدع ومجدّد مثله. لقد كتَب بالفرنسيّة، لكن لم تترجَم من مؤلَّفاته إلا 12 من أصل 38، وآخر ترجمة له تعود إلى سنة 2003 (...) رغم أنّ بعض كتبه تُرجِم في أمريكا واليابان (...) مجالُه البيبليوغرافيّ يظلّ المغرب وفرنسا أوّلا وقبل كلّ شيء". ويتضمّن هذا المؤلّف الصّادر حديثا مجموعة من النّصوص التي تتناول وتشرّح ملامح من منجَز عبد الكبير الخطيبي، خطّها أكاديميون من داخل المغرب وخارجه، هم: محمد الشيخ، جليل بناني، أحمد بوكوس، فتحي بن سلامة، مصطفى بن شيخ، آسية بلحبيب، فرانسيس كلودون، مارتين ماثيو-جوب، غيثة خياط، ناو سوادة، ومينول كولين كوباياشي.