الوجود الإنساني حديث الولادة مقارنة مع باقي الحيوات على الأرض. لقد فرض سيطرته على مسار العيش المشترك على الأرض أكثر ما حدثته سيطرة الحيوانات الضخمة والقوية. فالتميز البشري جعله يتفوق على باقي أنواع وأصناف الحياة الأخرى. التميز خلق له إمكانية السيطرة والتفوق. بيد أنه لم يستطع أن يحقق التعايش المشترك العادل ليس فقط مع أصناف أخرى من الحيوات، بل أيضا مع بني جنسه. هذا التميز جعله أيضا ينتج المعرفة والعلوم. عرفت العلوم عملية تراكمية جد معقدة، ساهم فيها كل فرد بغض النظر عن عرقه وجنسه ولونه ودينه وثقافته. يزعم البعض أنه تفوق على الآخرين، بحيث يعتبر ذاته هي أصل الحضارة الإنسانية، أي معتقدا نفسه أنه أصل التطور والتراكم المعرفي ومصدر تقدم العلوم والثقافات والمعتقدات. بيد أن أصل الإنتاج المعرفي والعلمي هو إنتاج بشري ساهم فيه الجميع. بصيغة أخرى، لا يمكن اعتبار هذا الإنتاج هو فقط إنتاج من صميم عملية التطور والتراكم والتلاقح لوحدها، بل إنه إنتاج نابع من لهيب الصراعات والأزمات والحروب. فمن داخل الأضداد تولد الحاجة المُلحة لإيجاد التوازن والعدالة والإنصاف؛ ومن داخل الصراع والحروب والأزمات تولد الرغبة الملحة للاكتشاف والاختراع والابتكار؛ ومن رحم الاختلاف بين المجموعات والقبائل والعشائر تولد الرغبة الملحة لخلق شروط التنظيم والتعايش المشترك. إن الإنتاج المعرفي والعلمي هو عملية تراكمية معقدة يطورها ويتحكم فيها منطق الصراع والتناقض. كما يعتقد البعض أن منطق التراكم يحكم كل شيء. بمعنى آخر، يسود الاعتقاد أن منحنى التطور هو منحنى تصاعدي بطبيعته، وأن الإنسان لا يهزم، وأنه قادر على خلق وإبداع شروط جديدة لإنتاج المعرفة والتطور في كل مرحلة من مراحل الأزمات والصراعات والتنافس. إلاّ أن هذا الاعتقاد مغلوط أو، بشكل أدق، يخلط الأوراق ويخفي في ثناياه تضخيم الأنا والنظرة الشمولية لمعالجة مختلف القضايا (المجتمعية والبيئية والسياسية وغيرها). لا يمكن أن نتجاهل بأن هناك، من جهة، علوم تعرف منطق التراكم كالطب والصيدلة والفيزياء والكيمياء والرياضيات والتكنولوجيا وغيرها من العلوم الحقة (les sciences exactes). وهو يعتبر منطق علمي سليم، لأن عملية التراكم في هذه الحالة تصاعدية، ولو أحيانا، تكون بوثيرة بطيئة، و حتى إن كانت مُوجهة أحيانا لخدمة البنية السياسية والاقتصادية المسيطرة. ومن جهة أخرى، هناك "علوم" لا تعرف منطق التراكم. لذا يجب إسقاط مفهوم العلوم عنها وتركها في منحاها اللولبي، لأن منطق صراع المصالح هو المتحكم بدل منطق التراكم. يمكن اعتبار الاقتصاد إحدى هذه المجالات التي تبتعد عن منطق التراكم لأنه مجال يخضع لمنطق التوازنات والصراعات، وفيه (أي الاقتصاد) يبرز منطق القوة. القوة المسيطرة في حقبة زمنية معينة تتحكم في منطق تطور مفهوم الاقتصاد. منذ بداية القرن الماضي، تم الانتقال من مفهوم الاقتصاد السياسي إلى مفهوم العلوم الاقتصادية، وذلك بغية جعل المجال المعرفي الاقتصادي مجالا يتحكم فيه المنطق والحيادية والمعادلات الرياضية، بيد أنه في واقعه يسيطر عليه منطق الديمومة والمثالية للنظام الرأسمالي؛ وليصور لنا –بالتالي- أن الاختلالات والأزمات التي تحل به ما هي إلاّ عملية اللاتوازن في توازنات الأسواق. ليندثر الرفاه المجتمعي والفردي من اهتمامات "العلوم" الاقتصادية ، ويتحول التوازن برمته إلى علاقة توازن بين العرض والطلب. لكن، إذا غيرنا من طريقة تحليلنا، وذلك من مفهوم العلوم الاقتصادية إلى مفهوم السياسة الاقتصادية، فإننا سنكتشف بأن الاقتصاد لا يمكن أن يكون إلا مجالا معرفيا يحركه ويطوره منطق الصراع والسيطرة. وبالتالي فالعملية التراكمية هي شبه مستحيلة فيه، إن لم أَقُل أنها شبه منعدمة. ليس هناك نظام اقتصادي مثالي. فالموجه السياسي والعقائدي والثقافي المسيطر هو المتحكم في كل نظام. ليصبح الاقتصاد تابعا لهذه البنية المليئة بالتناقضات والصراعات. ويبقى سؤال أي نموذج يمكن أن يحقق العيش المشترك الكريم لكل فرد داخل المجتمعات سؤال له علاقة بمتغيرات وعوامل متعددة ومعقدة يحكمها منطق القوة والصراع. لذا يمكن إعادة طرح نفس الأسئلة مهما اختلفت الأزمنة، من قبيل –مثلا- هل يمكن تحقيق العدالة والمساواة في الاقتصاد دونَ نظام سياسي ديموقراطي ونظام اجتماعي عادل ومتعدد؟ كيف يمكن تحقيق العدالة الاجتماعية والديموقراطية في نظام اقتصادي إقطاعي أو تنافسي وريعي أو تفضيلي (حسب الطبيعة البنيوية للاقتصاد)؟ تظل هذه الأسئلة مرتبطة بمفاهيم كالعدالة والعيش المشترك والتطور والنمو والرفاه والمِلكية الفردية والجماعية، وهي في عمقها مفاهيم لا تقبل منطق التراكم. كما تشكل في حد ذاتها جوهر تطور مجالات عديدة من البحث والمعرفة في الاقتصاد والاجتماع والفلسفة. وهذا يتضح من خلال تعدد التعريفات والمفاهيم المرتبطة بالسياسات الاجتماعية والاقتصادية. فالفرضيات القَبْلية (a priori) لكل نظام اقتصادي تُحدد طبيعته البنيوية ونتائجه المستقبلية. لذا نطرح سؤالا قديما بصياغة تتماشى مع الفرضيات الأساسية للنظام الاقتصادي الحالي، كيف يمكن لنظام اقتصادي يرتكز على الفردانية والتنافسية أن لا ينتج التفاوتات الاجتماعية واللاعدالة الاجتماعية؟ إن كانت "العلوم" الاقتصادية، لا تعرف التراكم العلمي، فنتائجها، على العكس، تعرف التراكم. يعتبر الفقر والتمييز والحروب والتفاوتات الاجتماعية والتطرف (على سبيل المثال) إحدى النتائج التراكمية السلبية للنظام الاقتصادي الرأسمالي. وبالمقابل، الثورة الصناعية والرقمية والتكنولوجية إحدى نتائجه التراكمية الإيجابية. تجد تفسيرات هذه التراكمات في المرتكزات والفرضيات الأساسية للنظام الرأسمالي، من قبيل منطق النفعية والبحث السريع عن أعلى الأرباح. هل يمكن عكس النتائج التراكمية السلبية ؟ أكيد نعم، يكفي تغيير التوجهات الكبرى وتبديل متغيرات ومؤشرات معادلات التوازن. أي البحث عن مرتكزات وفرضيات نقيضة ومغايرة تأطر لنظام اقتصادي بديل. يصعب، إذن، اعتبار المنطق الاقتصادي بأنه منطق تراكمي ذو منحنى تصاعدي. بل لا يمكننا سوى اعتباره يَتحرك بمنطق الصراع، يُحاول القوي من خلاله فرض تحقيق مصالحه الاستراتيجية. بالمقابل، أنتج هذا المنطق تعبيرات تلعب دوراً مهما من أجل إنصاف والدفاع والتعبير عن الطرف الضعيف أو المضطهد، أي كوسيلة لكبح زِمام المُسيطر أو القضاء عليه. من بين هذه التعبيرات هناك الأحزاب السياسية والنقابات والجمعيات التي تلعب دورا مُهمّا لإعادة توجيه الاقتصاد ليخلق توازنا اجتماعيا وسياسيا وبيئيا بعيدا عن منطق السوق، وأحيانا لتقويض بنية النظام الاقتصادي. حققت هذه التعبيرات عدة مكاسب اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية تراكمت بشكل إيجابي في العديد من الدول فقلصت من آثار التراكمات السلبية ومن قوة نفوذ الطرف المسيطر. لقد ظل حضورها قويا وعَامل مهم في المعادلات الاقتصادية، إلاّ أن الطرف المسيطر تمكن من فرض منطقه وقلص من "جديد" التراكمات الإيجابية للطرف الضعيف لأنه لا يعترف بمنطق الإنصاف والعدل. في السنوات الأخيرة، تعرف الأحزاب السياسية والنقابات والجمعيات انتكاسة خطيرة، وهي، في اعتقادي، نتيجة تراكمية لمنطق الصراع، حيث استطاع الطرف المُسيطر في النظام الاقتصادي أن ينجح من تقزيم أدوارها وتمييع تواجدها في خلق شروط العيش الكريم وتكريس الديموقراطية. النتيجة الحتمية لسيطرة النظام الرأسمالي هو دخول الديموقراطية المحلية والديموقراطيات العالمية مرحلة انتكاسة وشعبوية. وبالتالي، تحولت الديموقراطية إلى اللاديموقراطية رغم وجود آليات ديموقراطية. فالوجود الإجرائي والمعياري للديموقراطية لا يعني بالضرورة الوجود الفعلي لها. من هذا المنطلق، لا يمكن تفسير انتكاسة المجتمع المدني بكونها فقط أزمة داخلية له، بل إنها أيضا نتيجة صراع طويل، استطاع خلالها النظام الرأسمالي أن يحول أهدافه ومشروعه المجتمعي إلى مجرد فضاءات/أسواق لبيع الخدمات والبحث عن الريع. بالموازاة، تحول الصراع إلى داخل قَلب النظام الرأسمالي العالمي، حيث يعيش اليوم إيقاع حرب باردة بين أطرافه المُتحكمة فيه. الهدف الاستراتيجي العام لهذه الحرب هو السيطرة على مصادر ومناطق الحفاظ على الريع والتحكم في الأسواق المالية والاقتصاد الرقمي. هذا الأخير يعتبر كإحدى المجالات الجديدة لصراع الشركات المحتكرة العالمية. كما حَوَّل الطرف المسيطر مراكز إنتاج الصناعات التقليدية والفلاحية إلى الطرف الغير المسيطر، لأن هوامش ربحها ضعيفة ومتقلبة؛ كما أنها، في الغالب، تعرف منحنى ربحي مستقر-ضعيف أو تناقصي. إنه نوع "جديد" من التقسيم الدولي للعمل وللإنتاج ولتوزيع الثروات بين الدول. إضافة إلى أن النزعة الشمولية المتحكمة في هذا النظام جعلت بعض الأطراف الجدد يستعملون شتى الأساليب لفرض وجودهم بين الأطراف المسيطرة. المثال على ذلك، التهديد بالعودة إلى أمجاد الأجداد تحت دريعة عودة الرفاه الجماعي الماضي وردّ الاعتبار لفئات تعرف الاضطهاد. لماذا العودة إلى الماضي، هل كان فعلا هذا الماضي خال من العنف والدمار والاستغلال؟ وحتى إن كان عظيما ومنصفا للجميع، هل يستطيع هذا الماضي إعادة نفسه؟ هل ما يقارب 8 مليار شخص الذين يعيشون على كوكب الأرض باختلاف ألسنتهم ومعتقداتهم، هم نفس الأشخاص الذين حكمهم الأجداد؟ ألا يعتبر هذا تمويها سياسيا يخفي في ثناياه الهدف الحقيقي لهذا الخطاب، ألاَ وهو السيطرة الاقتصادية وخلق أتباع سياسيين واقتصاديين في العالم ممن يتقاسمون نفس الفرضيات /الشعارات، ألا يعتبر هذا أيضا استراتيجية مكشوفة لبناء نظام اقتصادي بديل أكثر استنزافا للثروات وأكثر احتكارية لتمركز الأرباح، والذي سينتج عنه بالتأكيد تراكمات سلبية أكثر خطورة، أي مزيد من التطرف والعنف والتمييز واللاعدالة. التغيير لا يكون دائما نحو الأفضل لأنه مرتبط بالطرف (الأطراف) المنتصر(المنتصرة) في الصراع. ماذا نريد، نحن كمواطني ومواطنات العالم؟ الجواب على هذا السؤال يحدد مسارنا جميعا. هل نريد عالما يتسع لنا جميعا، نتقاسم فيه خيراته بكل أمان واطمئنان، أم عالما يستمر فيه أقل من 1% بتقاسم 90% من خيراته، بينما الباقي يظل يعيش في التقشف والعوز الاقتصادي والإقصاء الاجتماعي؟ أكيد أن الاستمرار في النظام الرأسمالي دون توازن إجباري تتحقق فيه كافة الحقوق سيؤدي بِناَ حتما إلى مزيد من الأزمات والصراعات، والتي ستكون أكثر خطورة ودموية مماَّ هي عليه اليوم. وهذا لا يمكن تحقيقه دون أطراف معبرة للفئة المضطهدة، تكون قوية ومتعاقدة بأهداف استراتيجية واضحة، وتكون بعيدة عن التعبيرات السياسية المتطرفة. لغة تحقير وتهميش المجتمع المدني وتمييع وجوده في الحياة المشتركة والمؤسسات المحلية والدولية ما هي إلاّ لغة استطاعت من خلالها الفئة المسيطرة على الاقتصاد تمرير سياساتها ومشاريعها للمزيد من السيطرة على خيرات وثروات الشعوب/الأرض. تعيش أمريكا وحلفاؤها أزمات مستمرة، لكن استمرارية قوتهم تستمد من استمرارية سيطرتهم العالمية وتحويل المؤسسات والمنظمات العالمية إلى أبواق لتنفيذ مخططاتهم. كما أن حل أزماتهم التي تظهر كل حين يكون على حساب الدول الفقيرة أو تلك السائرة نحو النمو التي ستظل على حالها ما دامت فئة 1% المسيطرة لا تريد لأرباحها وريعها منافسين جدد في أسواقها ومناطقها. يزيد من تعقيد الصراع ومن وضعية الدول الفقيرة والنامية، بروز الصين وتحولها إلى اقتصاد السوق، وبالتالي إلى منافس في السيطرة على خيرات وثروات الشعوب والدول. إنها حرب باردة تلتهب كل مرة مع كل أزمة؛ وما التسابق العنيف لإيجاد لقاح لكوفيد19 إلا خير مثال على ذلك. منح الثقة، من جديد، في المجتمع المدني وتفعيل أدواره، شروط أساسية لإنجاح التوازن الاجتماعي والاقتصادي، وكذا شرط أساسي لفرض الديموقراطية وحقوق الإنسان. فالتغيير لا يمكن أن يتحقق إلا بحضور فعلي وقوي للمجتمع المدني ... *أستاذة جامعية باحثة في الاقتصاد وفاعلة مدنية