جائحة كورونا لم تترك دولة إلا وأربكتها، ولا حكومة إلا وبعثرت أوراقها ولخبطت سياساتها وأولوياتها، ولا إدارة أو مؤسسة إلا وفرضت عليها تغيير خططها واستراتيجياتها، ولا شخصا إلا وغيرت بشكل قسري إيقاعات حياته وفرضت عليه الامتثال لما فرض عليه من طقوس غير مألوفة، ولا مفهوما إلا وأخضعته لحتمية الاختبار وقدر السؤال، ولا فكرا إلا وأطلق العنان للخوض في مفاهيم برزت بقوة في هذه الظرفية الخاصة والاستثنائية، من قبيل العولمة والموت والحياة والوجود والأنا والآخر والشخصية والحرية والحقيقة والشك واليقين، والقوة والضعف والتقدم والتأخر والمؤامرة والدولة والقانون والمجتمع المدني وغيرها.. جائحة حركت في عوالمنا سيولا جارفة من الآراء والمواقف والتصورات، حاولنا تشكيل حروفها وترصيع سطورها عبر سلسلة من مقالات الرأي لقيت ما تستحق من نشر في عدد من الجرائد الورقية والإلكترونية، إسهاما منا في ترك بصمة على لوحة جائحة مرعبة ستنضاف إلى قائمة الجوائح والحروب والأزمات الكبرى التي بصمت تاريخ العالم، وفي هذا السياق، سنحاول عبر بوابة هذا المقال، العبور الآمن إلى واحة التاريخ والجغرافيا بالسلك الثانوي التأهيلي أساسا، محاولين قدر الإمكان إيجاد "توليفة" بين "جائحة كورونا" و"الدرس التاريخي والجغرافي'' لاعتبارات ثلاثة: أولها: أن ما حدث ويحدث من متغيرات كورونية يسائل بدرجات ومستويات مختلفة بعض الوحدات الدراسية المبرمجة في إطار برنامج التاريخ والجغرافيا، سواء تعلق الأمر بالبعد التاريخي للجائحة التي شكلت منعطفا تاريخيا بارزا في التاريخ الراهن، ستترتب عنه ودون شك متغيرات متعددة المستويات (سياسية، اقتصادية، مالية، اجتماعية، قانونية، فكرية، وتربوية...)، أو في بعدها الجغرافي اعتبارا لتداعياتها المباشرة على الإنسان والاقتصاد والمال والمجتمع والبيئة، ثانيها: للصعوبات التي تعتري تدبير الدخول المدرسي المرتقب بداية شتنبر، في ظل الارتفاع المقلق والمخيف لعدد الإصابات المؤكدة والوفيات، مما يفرض استعجال تنزيل حزمة من الإجراءات الخاصة والاستثنائية من ضمنها تخليص البرامج الدراسية من "الكم" وإعادة النظر في الأطر المرجعية للامتحانات الإشهادية، وثالثها: في ضوء ما أبانت عنه الجائحة من دروس وعبر ومن تأثيرات جانبية على عدد من القطاعات من ضمنها منظومة التربية والتكوين التي تعيش وطنيا وعالميا "حالة غير مسبوقة" من الارتباك، تستدعي تملك الجرأة في اتخاذ قرارات خلاقة ومبدعة متكيفة وطقوس الوباء العنيد، وهي "توليفة" سنحاول من خلالها رصد جملة من الملاحظات النقدية بخصوص برنامج التاريخ والجغرافيا خاصة بالمستويين الإشهاديين (الثانية بكالوريا آداب وعلوم إنسانية، الأولى بكالوريا علوم)، متوقفين عند عدد من الوحدات الدراسية (الدروس) التي تثير فضول السؤال المشروع، إما لتجاوزها من قبل المتغيرات الوطنية أو الدولية، أو لعدم نجاعة مضامينها أو لبروز مواضيع مستجدة فرضتها تحولات المشهد الوطني والإقليمي والدولي، وعند بعض مظاهر القصور والمحدودية التي تعتري ما يؤطر المادة من تقويم، حاملين هم "التخفيف" (العبرة في الكيف لا الكم) و"التجويد" (هندسة جديدة للبرنامج). - برنامج السنة الثانية بكالوريا آداب وعلوم إنسانية: - برنامج مادة التاريخ: يتوزع بين تقديم عام لموضوع البرنامج، ومجزوءتين، تتشكل الأولى (التحولات الكبرى في العالم الرأسمالي خلال فترة ما بين الحربين) من (08) وحدات دراسية، موزعة بين محور أول (أزمات العالم الرأسمالي والاتجاه نحو الحرب العالمية الثانية) ومحور ثان (العالم الإسلامي في مواجهة الهيمنة الاستعمارية) كل واحد منهما ينتهي بملف، ومجزوءة ثانية (التحولات الكبرى في العالم منذ الحرب العالمية الثانية إلى مطلع القرن 21) مكونة من (07) وحدات دراسية، تم تصريفها عبر محور أول (العلاقات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية: من القطبية الثنائية إلى القطبية الواحدة) ومحور ثان (كفاح المغرب الكبير والمشرق العربي من أجل الاستقلال وبناء الدولة الحديثة) كل واحد منهما ينتهي بملف، واستقراء لوحدات هذا البرنامج يمكن إبداء الملاحظات التالية على سبيل المثال لا الحصر: - درس "القضية الفلسطينية" (الوحدة 9/ المجزوءة1) ودرس "القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي" (الوحدة 7/ المجزوءة2)، هما درسان أملتهما في وقت من الأوقات ضرورة بيداغوجية تحكمت فيها الرغبة في وضع المتعلم(ة) في صلب القضية الفلسطينية وما ارتبط بها من صراع عربي إسرائيلي، في ظرفية جيوتاريخية كان المفهوم (الصراع العربي الإسرائيلي) له حمولة سياسية ومجتمعية وقومية وفكرية، لكن المفهوم خفت بريقه، ولم يعد له حضور حقيقي وفعلي في الأدبيات السياسية العربية، وفي الوعي الفردي والجماعي العربي، إلا من باب النوستالجيا التاريخية وما يرتبط بها من شعارات لم يعد لها أي تأثير يذكر على مستوى الواقع (القومية، الوحدة العربية، القضية الفلسطينية..)، لاعتبارات عديدة، مرتبطة بما شهدته منطقة الشرق الأوسط ككل من متغيرات متعددة الزوايا، كرست واقعا عربيا يعيش على وقع النزاع والحرب والضعف والتشتت والهوان، فمن الاحتلال الأمريكي للعراق بعد إسقاط نظام الرئيس صدام حسين إلى ثورات الربيع العربي التي اجتاحت المنطقة حاملة مشاهد الحرب والدمار (سوريا، اليمن)، ومن الاعتراف "الترامبي" بالقدس عاصمة لإسرائيل، والذي شكل نسفا لمسلسل السلام، إلى خطة ما وصف بالشرق الأوسط الكبير، ومن النزاع الليبي إلى النزاع الخليجي القطري، ومن انفجار مرأب بيروت إلى تصدع الصف الفلسطيني (فتح، حماس)، كلها مشاهد من ضمن أخرى عمقت جراح المحيط العربي الذي بات تحت رحمة اللاعبين الدوليين (أمريكا، روسيا، فرنسا، الصين..) والإقليميين (تركيا، إيران..)، في واقع جيوسياسي اختلت فيه موازين القوى كلية لفائدة "كيان إسرائيلي" بات اليوم أكثر قوة وأكثر جرأة، على حساب جوار عربي ذاب فيه جليد المواقف والبطولات والشعارات الرنانة، لتتشكل قيم جديدة لا صوت يعلو فيها على صوت "البيزنيس" بكل امتداداته، وعليه، واعتبارا لهذه المتغيرات، نرى أن الدرسين لم يعد لهما أي تأثير يذكر على المستوى البيداغوجي وربما لن يقدما أية إضافة بالنسبة للمدرسين والمتعلمين على حد سواء، عدا هدر الزمن وإثقال الكاهل بزخم من المعلومات، باتت متجاوزة بحكم الواقع، ونحن ندلي بهذا الحكم الذي قد ينظر إليه البعض بنوع من الرفض أو القلق أو التحفظ، نحن على وعي وإدرك، أن الدرسين معا يرتبطان بمعارف تاريخية لا يمكن فهمها إلا في إطارها الزمني والمجالي على غرار باقي الدروس التاريخية، لكن في الآن ذاته، نرى أن القضية الفلسطينية لها امتداد في الحاضر والمستقبل ما لم يتم التوصل إلى تسوية حقيقية بين طرفي النزاع (فلسطين، إسرائيل)، كما نرى أن المفاهيم المهيكلة للدرسين (القضية الفلسطينية، الصراع العربي الإسرائيلي..) باتت في حكم الماضي ولم يعد لها حضور فعلي في الحاضر لما تراكم على العالم العربي من خيبات خلال العقود الثلاثة الأخيرة، ومن تغيير رسمي في المواقف، كما حدث بالنسبة للإعلان (يوم الخميس 13 غشت الجاري) عن اتفاقية السلام المرتقب توقيعها في قادم الأيام بين الإمارات العربية وإسرائيل برعاية أمريكية، والتي وصفها الرئيس الأمريكي "ترامب" بالاتفاق التاريخي، وهي الاتفاقية التي من المرتقب أن تطلق العنان لتوقيع اتفاقيات أخرى مماثلة بين دول عربية (خليجية بالأساس) وإسرائيل، وكلها معطيات من ضمن أخرى، تسائل الجدوى من حضور الدرسين، ومدى نجاعة ما يحملانه من مضامين قد تدخل في خانة "البيريمي"، وعليه، فهي دعوة لإعادة النظر في هذا "الخيار البيداغوجي" إما بتجويد مضامينه، أو بتعويضه بخيار آخر. - درس "نظام القطبية الثنائية والحرب الباردة" (الوحدة1/المجزوءة2) ودرس "النظام العالمي الجديد ونظام الأحادية القطبية" (الوحدة3/المجزوءة2)، درسان يتقاسمان وحدة الموضوع، ويتعلق الأمر بالعلاقات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، وتحقيقا لغاية التخفيف من وطأة الكم، يمكن دمج الدرسين في درس واحد من مقطعين تعلميين، يلقي الأول منهما الضوء على مفهوم "الثنائية القطبية" والثاني يؤطر مفهوم "الأحادية القطبية"، علما أن هذا المفهوم بات موضوع نقاش في ظل ما شهده العالم من متغيرات جيواستراتيجية خاصة في منطقة الشرق الأوسط، واعتبارا لما أفرزته أو ستفرزه كورونا من تحولات قد تسهم في تشكيل ملامح نظام عالمي جديد. - دروس "تصفية الاستعمار وبروز العالم الثالث" (الوحدة2/المجزوءة2) و"الحركات الاستقلالية بالجزائر وتونس وليبيا" (الدرس5/ المجزوءة2) و"الحركات الاستقلالية بالمشرق العربي" (الوحدة6/المجزوءة2)، هي دروس تتقاسم بدورها نفس وحدة الموضوع، ويتعلق الأمر بالحركات الاستقلالية، ونرى أن هذا التعدد المجالي، قد يحدث في ذهن المتعلم(ة) نوعا من التيهان المعرفي والارتباك المنهجي، وكان يفترض أن يتم الاقتصار على وضع المتعلم في صلب الحركات الاستقلالية في منطقة المشرق العربي، موازاة مع الدرس الذي يلقي الضوء على المقاومة المغربية (المغرب: الكفاح من أجل من أجل الاستقلال واستكمال الوحدة الترابية)، في إطار رؤية معرفية ومنهجية تتيح فرصة المقارنة بين ما جرى في الداخل (المغرب) وما حدث في الخارج (المشرق العربي). - برنامج مادة الجغرافيا: بالنسبة لبرنامج الجغرافيا فهو مؤطر عبر ما مجموعه (13) درسا موزعة عبر مجزوءتين، الأولى (المجال العالمي والتكتلات الاقتصادية الكبرى) من (07) وحدات دراسية، تتوزع عبر محور أول (تدبير المجال العالمي) ومحور ثان (التكتلات الاقتصادية الكبرى) كل منهما ينتهي بملف، والثانية (اقتصاديات متفاوتة النمو) من (06) وحدات دراسية، تم تصريفها وفق محور أول (نماذج من القوى الاقتصادية الكبرى في العالم) ومحور ثان (نماذج من اقتصاديات البلدان النامية) كل منهما ينتهي بملف، وهي دروس بعضها بات متجاوزا وبعضها الآخر قد يكون في حاجة إلى رؤية بيداغوجية جديدة تستحضر المتغيرات القائمة، وبعضها الثالث آن الأوان للتخلي عنه وتعويضه بدروس أخرى باتت تفرض نفسها بحكم الواقع، وفي هذا الصدد ندلي بالملاحظات التالية على سبيل المثال لا الحصر: - الدروس التي تعالج قضية العولمة وما يرتبط بها من إشكاليات ("العولمة: المفهوم، الآليات والفاعلون" (الوحدة1/المجزوءة1)، "تنظيم المجال العالمي في إطار العولمة" (الوحدة2/المجزوءة1)، باتت موضوع نقاش ومساءلة لما أفرزته جائحة كورونا من متغيرات عالمية، أحدثت زحزحة كبيرة في منظومة العديد من القيم والمفاهيم، وعلى رأسها مفهوم العولمة الذي انكشفت سوءته في ظل إقبال الدول على إغلاق حدودها الوطنية، في محاولة للتصدي للخطر القادم من الخارج واللجوء الاضطراري إلى الخيارات الذاتية والسبل الممكنة وغير الممكنة، لحماية صحتها العامة كما حدث في حرب الكمامات والمستلزمات الطبية، فحلت مفاهيم معارضة تماما لقيم العولمة، من قبيل الوطنية والقومية والإغلاق والأنانية على حساب قيم التضامن والتعاون والقيم الإنسانية المشتركة، وبرز بقوة مفهوم الدولة الوطنية التي تحملت مسؤولية الدفاع عن صحة مواطنيها وتدبير ما أحدثته الأزمة الصحية من تداعيات اقتصادية واجتماعية وأمنية، وتنامت الاتجاهات اليمينية والشعبوية المُعادية للعولمة، في مشهد عالمي ميزته التجاذبات والاتهامات المتبادلة حول مصدر الفيروس التاجي خاصة بين قطبي الاقتصاد العالمي (الولايات المتحدة الأمريكية والصين) والتهديدات الأمريكية لمنظمة الصحة العالمية بإيقاف المساعدات بمبرر ميلها للجانب الصيني، دون إغفال ما يجري حاليا من سباق محموم بين الدول الكبرى حول اللقاحات، وبما قوبل به اللقاح الروسي من جدل وتشكيك، بشكل يجعلنا أمام سباق غير سليم، تتحكم فيه هواجس الأرباح والمكاسب بما يضمن النهوض والارتقاء على أنقاض الجائحة العالمية، أكثر من سباق نزيه، تتحكم فيه الرغبة الجامحة من تخليص الإنسانية من شر الوباء المرعب، وكلها مشاهد من ضمن أخرى، تضع مفهوم العولمة تحت المجهر، وإذا كان من الصعب الحكم على مصير المفهوم في ظل سريان الجائحة الكورونية التي ما زالت تفتك بالعالم، فما هو باد للعيان، أن "كورونا" أحدثت تصدعات في منظومة العولمة، ساهمت في بروز رؤى ووجهات نظر، تباينت بين من يرى أن الجائحة أنهت العولمة، ومن يرى أن عولمة جديدة آخذة في التبلور والتشكل، وبين من يرى فيها فرصة لإعادة رسم خارطة طريق جديدة للعالم، لا بد أن تبنى على قيم حقيقية للتضامن والتعاون والتماسك والتعاضد لمواجهة التحديات الجديدة التي لا تفرق بين الكبار وبين الصغار ولا بين البشر، بعيدا عن مفردات الجشع والقهر والتجويع والتشريد واللاعدالة، وعليه، فبقدر ما نرى أنه من السابق لأوانه التنبؤ بمستقبل العولمة، بقدر ما نوجه البوصلة نحو دروس العولمة بالسنة الثانية بكالوريا آداب وعلوم إنسانية، بما يضمن تحيين مضامينها، بشكل يستوعب ما أفرزته الجائحة من سلوك سياسي واقتصادي وإنساني عالمي. - البرنامج أولى عناية خاصة للتكتلات الاقتصادية الكبرى كما هو الشأن بالنسبة لدروس "الاتحاد الأوروبي: نحو اندماج شامل" (الوحدة5/المجزوءة1) و"مجموعة أمريكا الشمالية "ألينا" (الوحدة6/المجزوءة1) و"دول جنوب شرق آسيا: قطب اقتصادي في تطور متصاعد" (الوحدة7/المجزوءة1)، ويمكن التساؤل عن مدى نجاعة هذا الاختيار الثلاثي، وهل هي ضرورة بيداغوجية لا محيد عنها من أجل وضع المتعلم(ة) في صلب ثلاثة نماذج من التكتلات الاقتصادية الكبرى في نفس البرنامج الدراسي، قد يرى البعض في ذلك هدرا لزمن التعلم وإرهاقا للمدرسين والمتعلمين، وقد يرى فيه البعض الآخر، تكريسا لنوع من التيهان المعرفي والارتباك المنهجي بالنسبة للمتعلمين، ومن باب تخفيف الأعباء، يمكن الاقتصار على درس الاتحاد الأوربي (نموذجا) باعتباره من أكثر التكتلات الاقتصادية تأثيرا وحضورا في المجال العالمي، مع إمكانية إدراج تكتل مماثل في إطار الملفات إن اقتضى الحال ذلك، كما أن البعد الإفريقي للسياسة الخارجية للمملكة، يفرض إدراج درس حول "الاتحاد الإفريقي" أو حول بعض التكتلات الإفريقية الجهوية (المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا "سيداو" نموذجا). - الانسحاب البريطاني من البيت الأوروبي لم يشكل فقط ضربة في الصميم لمفهوم "الاندماج الشامل" الذي يهيكل درس "الاتحاد الأوروبي: نحو اندماج شامل" في ظل خروج قوة اقتصادية من حجم بريطانيا، بل وأبان بما لا يدع مجالا للشك مدى هشاشة حلم "الاندماج الأوربي الشامل" ومدى نجاعة ما يتبناه الاتحاد الأوربي من قيم ومبادئ، وما يعتريه من مشكلات، برزت نحو السطح بقوة في زمن جائحة كورونا التي وضعت التكتل الأوروبي على المحك، بالرهان على إغلاق الحدود الوطنية واللجوء إلى الخيارات الداخلية للتصدي للجائحة وتداعياتها، دون استحضار القيم والمبادئ الأوروبية المشتركة، ولنا في إيطاليا خير مثال، حيث أثقلت الجائحة كاهلها دون أن تلقى الدعم المفترض من الجانب الأوروبي، في وقت لقيت فيه الدعم والمساندة من طرف دول أخرى خارج الاتحاد الأوروبي وعلى رأسها الصين. - الخروج البريطاني من البيت الأوروبي هو أكثر من خروج دولة من تكتل، هو تداعيات وانعكاسات مباشرة على منظومة الاتحاد الأوروبي من حيث تقلص المجال والتدفقات المالية وتنقل الأشخاص والبضائع والبنيات القانونية والمؤسساتية والاقتصادية، وكذا من حيث مستقبل العلاقات بين بريطانيا وجوارها الأوروبي، وعلى الرغم من هذه المتغيرات، ما زال المتعلم(ة) وحتى المدرس(ة) وجها لوجه أمام دعامات ديدكتيكية، حاملة لمعارف وأرقام ومعطيات إحصائية (بشرية، مجالية، اقتصادية..) باتت متجاوزة وفي حكم "البريمي" بحكم الواقع، وتوضيحا للرؤية، فالخروج البريطاني معناه، تغير كل الأرقام والمعطيات سواء كانت معرفية أو إحصائية ذات الصلة بالاتحاد الأوروبي، مما قد يؤثر على مكانته الاقتصادية والمالية وعلى مستوى تأثيره في المجال الاقتصادي العالمي قياسا للعملاقين الاقتصاديين الأمريكي والصيني، مما يفرض استعجال "تحيين مضامين" هذا الدرس، بشكل يستوعب آثار خروج دولة لها مكانة اقتصادية في أوروبا من حجم "بريطانيا". - ما قيل عن التكتلات الاقتصادية الكبرى، يقال أيضا عما ورد في المجزوءة الثانية (المحور الأول) من وحدات دراسية ترصد الاقتصاديات المتفاوتة النمو، ويتعلق الأمر ب"الولايات المتحدة الأمريكية: قوة اقتصادية عظمى" (الوحدة8/المجزوءة2) و "فرنسا: قوة فلاحية وصناعية كبرى في الاتحاد الأوربي" (الوحدة9/المجزوءة2) و"اليابان: قوة تجارية كبرى" (الوحدة10/المجزوءة2)، ويمكن أن نتساءل أيضا عن مدى نجاعة وفاعلية هذا الاختيار البيداغوجي، لاعتبارات عدة، منها أن المتعلمين سبق لهم أن توقفوا عند درس اليابان ضمن برنامج السنة الثالثة إعدادي شأنه في ذلك شأن درس الولايات المتحدة الأمريكية، ثانيها، كون هذه الدروس في مجملها تتقاسم نفس الرؤية المنهجية (مظاهر قوة، عوامل مفسرة (طبيعية، بشرية، تنظيمية)، مشاكل وتحديات) مما قد يدخل المتعلم(ة) في خانة من اللبس والارتباك المعرفي والمنهجي خاصة في الحالات التي يتموقع فيها في صلب وضعيات تقويمية تستدعي المقارنة بين نموذجين من القوى الاقتصادية، أما بالنسبة لدرس فرنسا، فإذا كان لا مفر من برمجة نموذج من القوى الاقتصادية الكبرى في العالم، فنرى أنه يمكن الانفتاح على تجارب اقتصادية أخرى (التجربة الألمانية أو تجربة إحدى الدول الاسكندنافية) أو التجربة البريطانية، وفي هذا الصدد، يمكن الإبقاء على النموذج الأمريكي لثقله الاقتصادي العالمي، مع إمكانية تدعيمه بتجربة اقتصادية أخرى بديلا عن فرنسا، وبهذا الشكل، يمكن كسب رهان "التخفيف" ورهان "التجديد". - في نفس المجزءة الثانية، وتحديدا في محورها الثاني (نماذج من اقتصادات البلدان النامية)، تم إدراج وحدات دراسية تضع المتعلم(ة) في صلب بعض النماذج الاقتصادية بالبلدان النامية، ويتعلق الأمر بدروس "الصين: قوة اقتصادية صاعدة" (الوحدة11/المجزوءة2) و"البرازيل: نمو اقتصادي واستمرار التفاوتات في التنمية البشرية" (الوحدة12/المجزوءة2) "كوريا الجنوبية: نموذج لبلد حديث النمو الاقتصادي" (الوحدة13/المجزوءة2)، وهنا نقترح من باب التخفيف وتجديد الرؤية، الاكتفاء بدرس واحد يعبر عن إحدى التجارب التنموية الرائدة على مستوى بلدان الجنوب أو على مستوى العالم الإسلامي، أما بالنسبة للصين، فلا يمكن الاختلاف بشأن أحقيتها في الحضور في البرنامج الدراسي، لثقلها الاقتصادي العالمي، وهي فرصة لمساءلة مدى نجاعة ودقة إدراج العملاق الصيني في خانة "القوة الاقتصادية الصاعدة"، وفي هذا الصدد، فإذا كان المفهوم قد كان مبررا في سنوات سابقة في ظل النمو المتصاعد للاقتصاد الصيني، فالأمور قد تغيرت اليوم، وباتت الصين معادلة صعبة في الاقتصاد العالمي، ومنافسا شرسا للاقتصاد الأمريكي بل ومزعجا ومتفوقا عليه في الكثير من القطاعات الإنتاجية، وقد أبانت جائحة كورونا مدى نجاعة الاقتصاد الصيني وقدرته على النهوض، بعدما تمكنت من تزويد العالم بالكمامات والمستلزمات الطبية، بل وتقديم المساعدة والدعم لعدد من الدول التي تضررت بسبب الجائحة (إيطاليا نموذجا)، وفي هذا الإطار، فإذا كان الاقتصاد الأمريكي يوصف بالعظمة (قوة اقتصادية عظمى)، ألا يمكن أن يحمل اقتصاد العملاق الصيني نفس التوصيف؟ ألا يمكن القول إن جلباب "القوة الاقتصادية الصاعدة" بات قصيرا وضيقا على دولة توصف بمصنع العالم وتحقق أعلى مستويات النمو الاقتصادي في العالم؟ ألا يمكن القول إن الجائحة الكورونية، قد كشفت عن سوءة "العظمة الأمريكية" التي عجزت عن توفير الكمامات لسكانها؟ وهي أسئلة من ضمن أخرى، تقتضي إعادة النظر في المفهوم المهيكل الذي يؤطر درس الصين (قوة اقتصادية صاعدة). - برنامج السنة الأولى بكالوريا علوم: يتأطر بناء على ما مجموعه (16) وحدة دراسية، تتوزع فضلا عن "التقديم العام"، بين (08) وحدات دراسية بالنسبة لبرنامج التاريخ (زائد ملف (العولمة والتحديات الراهنة))، و(08) وحدات دراسية بالنسبة لبرنامج الجغرافيا (زائد ملف (الشراكة بين المغرب والاتحاد الأوروبي))، وسنقتصر في ملاحظاتنا النقدية على بعض الوحدات الدراسية ضمن برنامج الجغرافيا على سبيل المثال لا الحصر. - برنامج الجغرافيا: يضع المتعلم(ة) في صلب جملة من الوحدات الدراسية التي تعالج قضايا ومشكلات المجال المغربي (المجال المغربي: الموارد الطبيعية والبشرية الوحدة2/المجزوءة1)، الاختيارات الكبرى لسياسة إعداد التراب الوطني (الوحدة3/المجزوءة1)، التهيئة الحضرية والريفية: أزمة المدينة والريف وأشكال التدخل (الوحدة4/المجزوءة1))، وهي وحدات دراسية تفرض استعجال بلورة رؤية بيداغوجية جديدة للاعتبارات التالية: - الاستناد في تبرير المجهودات التنموية للدولة على برامج تنموية يكاد لا يسمع لها صوت، بعضها يعود إلى مرحلة الستينيات، وفي هذا الصدد، نشير على سبيل المثال لا الحصر إلى "مشروع التنمية الاقتصادية القروية للريف الغربي (1964)"، "مشروع حوض سبو (1968)"، "برنامج التنمية المندمجة للمجال الريفي (1994)"، "استراتيجية 2020 للتنمية القروية بالمغرب (1999)"، "برنامج الأولويات الاجتماعية"، "برنامج مدن بلا صفيح (2004-2010)" و"برنامج السكن الاجتماعي (200 ألف سكن) وغير ذلك من البرامج... - برامج وغيرها يصعب تقييم نتائجها ومعطياتها في غياب آليات الافتحاص وربط المسؤوليات بالمحاسبة، لكن ما هو باد للعيان، أنها شكلت لبنات نموذج تنموي قائم منذ سنوات باء بالفشل، في ظل الفوارق المجالية والتفاوتات الاجتماعية الصارخة، مما اقتضى التفكير في صياغة نموذج تنموي جديد، من شأنه إعطاء نفس جديد للتنمية وتحقيق الإقلاع الشامل، وهو الأمر الذي تأكد في خطاب الذكرى العشرين لعيد العرش، الذي أقر بقصور ومحدودية النموذج التنموي خلال السنوات الأخيرة، من خلال عدم قدرته على تلبية الحاجيات المتزايدة لفئة من المواطنين، وعلى الحد من الفوارق الاجتماعية، ومن التفاوتات المجالية، مما فرض الدعوة إلى مراجعته وتحيينه، في إطار نموذج تنموي جديد، أسندت مهمة بلورته للجنة خاصة، يرتقب أن تقدم حصيلة ما توصلت إليه من خلاصات وتوصيات أمام أنظار الملك مطلع السنة القادمة. - بقدر ما تحضر في الوحدات الدراسية نماذج لبرامج تنموية متقادمة أو منتهية الصلاحية، بقدر ما تغيب مشاريع وبرامج تنموية جديدة، من قبيل "مخطط المغرب الأخضر"، "مشاريع الطاقة الشمسية بورززات"، "تهيئة بحيرة مارتشيكا"، "النموذج التنموي للصحراء"، "مشروع القطار الفائق السرعة"، "ميناء طنجة المتوسط"، "مشروع ميناء الناظور غرب المتوسط"، ''برنامج تيسير"، "الرؤية الاستراتيجية للتربية والتكوين والقانون المؤطر لها"، "البرنامج الوطني للتنمية الدامجة"، الاستثمارات الأجنبية في مجال صناعة السيارات والطائرات"، "رؤية إصلاح منظومة التكوين المهني"... - بروز جيل جديد من البرامج والمشاريع التنموية، ونخص بالذكر: إطلاق المرحلة الثالثة من المبادرة الوطنية للتنمية البشرية (2019-2023)، البرنامج الوطني لتعميم وتطوير التعليم الأولي في أفق 2027-2028، توقيع الاتفاقية الإطار لإنجاز البرنامج الوطني للتزويد بالماء الشروب ومياه السقي 2020-2027، إطلاق الاستراتيجية الفلاحية الجديدة لتطوير القطاع الفلاحي "الجيل الأخضر 2020-2030"، إطلاق الاستراتيجية المرتبطة بتطوير قطاع المياه والغابات "غابات المغرب"، وكذا المصادقة على مشروع القانون رقم 72.18 المتعلق بمنظومة استهداف المستفيدين من برامج الدعم الاجتماعي وبإحداث الوكالة الوطنية للسجلات... - ما أعلن عنه الملك محمد السادس في خطاب الذكرى الواحدة والعشرين لعيد العرش، من مشاريع ومخططات تنموية ترمي إلى معالجة الانعكاسات الاجتماعية والاقتصادية للجائحة "ضمن منظور مستقبلي شامل، يستخلص الدروس من هذه المرحلة والاستفادة منها" ( تعبئة جميع الإمكانات المتوفرة من تمويلات وتحفيزات، وتدابير تضامنية لمواكبة المقاولات، خاصة الصغرى والمتوسطة، التي تشكل عمادا للنسيج الاقتصادي الوطني، ضخ حوالي 120 مليار درهم في الاقتصاد الوطني ( أي ما يعادل 11 في المائة من الناتج الداخلي الخام)، إحداث صندوق للاستثمار الاستراتيجي مهمته دعم الأنشطة الإنتاجية، ومواكبة وتمويل المشاريع الاستثمارية الكبرى بين القطاعين العام والخاص، في مختلف المجالات، الإعلان عن إطلاق إصلاح عميق للقطاع العام، ومعالجة الاختلالات الهيكلية للمؤسسات والمقاولات العمومية، قصد تحقيق أكبر قدر من التكامل والانسجام في مهامها، والرفع من فعاليتها الاقتصادية والاجتماعية، الدعوة إلى إحداث وكالة وطنية مهمتها التدبير الاستراتيجي لمساهمات الدولة، ومواكبة أداء المؤسسات العمومية، إطلاق عملية حازمة، لتعميم التغطية الاجتماعية لجميع المغاربة، خلال الخمس سنوات المقبلة، الدعوة إلى إصلاح حقيقي للأنظمة والبرامج الاجتماعية الموجودة حاليا، للرفع من تأثيرها المباشر على المستفيدين، خاصة عبر تفعيل السجل الاجتماعي الموحد، الدعوة إلى إدماج القطاع غير المهيكل، في النسيج الاقتصادي الوطني). - ترقب غضون مطلع السنة القادمة، ما ستتوصل إليه اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي من توصيات وخلاصات، من شأنها أن تبلور رؤية تنموية جديدة قد تحمل جيلا جديدا من البرامج والمشاريع التنموية. وعليه، فالبرامج والمشاريع التنموية سواء التي دخلت حيز التنفيذ، أو التي بصدد بلورتها في أفق تنزيلها بما فيها ما قد يحمله النموذج التنموي المرتقب من مخططات وبرامج تنموية، تضعنا أمام برنامج دراسي جغرافي بات متجاوزا بكل المقاييس، وبشكل أوضح، فما يتلقاه المتعلم (ة) من وحدات دراسية يبقى "في واد"، وما تشهده الدولة من تحولات سياسية واقتصادية وتنموية "في واد آخر"، وهذا التوصيف، قد يكون كافيا لفهم أو تفهم واقع مادة أضحت مقرونة بمفردات الرتابة والركود والبؤس وانعدام الجاذبية والنفور والإرهاق والعذاب... - بخصوص درس "الولايات المتحدة الأمريكية: قوة اقتصادية عظمى" (الوحدة1/المجزوءة2) ودرس" الصين: قوة اقتصادية صاعدة "(الوحدة2/المجزوءة2)، فقد تمت الإشارة إليهما سلفا، بحكم حضورهما ضمن هندسة برنامج الجغرافيا بالسنة الثانية بكالوريا آداب وعلوم إنسانية، لكن يمكن الإشارة، إلى أن الدرسين وردا في برنامج السنة الأولى بكالوريا علوم، ضمن المجزوءة الثانية (نماذج من اقتصادات متباينة النمو) إلى جانب درس "الاتحاد الأوربي: نحو اندماج شامل"، وهذه التركيبة الثلاثية تضع المتعلم(ة) في صلب ثلاثة نماذج من اقتصادات متباينة النمو، بشكل يتيح إجراء المقارنات الضرورية بينها، لكن نرى أن هذه التركيبة جاءت "معيبة" من الناحية المنهجية وحتى المعرفية، لأنه من غير المنطقي أن نقارن بين معطيات وأرقام تكتل يضم ما مجموعه (27) دولة (الاتحاد الأوروبي) مع دولتين منفردتين ويتعلق الأمر على التوالي بالولايات المتحدة الأمريكية (قوة اقتصادية عظمى) والصين (قوة اقتصادية صاعدة)، وهو وضع يعطي الأولوية للتكتل الأوروبي على مستوى الأرقام والمعطيات الإحصائية، وما تمت الإشارة إليه سلفا بالنسبة للانسحاب البريطاني من الاتحاد الأوروبي من تداعيات وانعكاسات، فنرى أن هذا الوضع يضع المدرس(ة) والمتعلم(ة) على حد سواء أمام معطيات وأرقام لا تعبر عن الواقع على مستوى بعض الدعامات الديداكتيكية، خاصة التي ترمي إلى إجراء المقارنة بين النماذج الثلاثة (الاتحاد الأوروبي، الولايات المتحدة، الصين)، وهذا يفرض كما تمت الإشارة إلى ذلك سلفا، تحيين معطيات ودعامات درس "الاتحاد الأوربي: نحو اندماج شامل" في السنتين الأولى والثانية بكالوريا، بشكل يستوعب مستجد الخروج البريطاني وتداعياته على البيت الأوروبي. - ملاحظات أخرى: - جائحة كورونا لا تقتضي تحرير البرنامج الدراسي من كم الوحدات الدراسية فحسب ((28) درسا بالنسبة للسنة الثانية بكالوريا آداب وعلوم إنسانية)، في ظل الصعوبات التي تعتري الدخول المدرسي المرتقب والسنة الدراسية برمتها، بل وتفرض زحزحة ما يؤطر المادة من منظومة تقويمية غارقة في أوحال الرتابة والنمطية، سواء تعلق الأمر بوضعية "الموضوع المقالي" التي تضع المتعلمات والمتعلمين أمام "تصاميم مجانية جاهزة" ترسم خارطة الموضوع المقالي كاملة دون عناء، ولا تتطلب سوى صياغة مقدمة وخاتمة، والإجابة على العناصر الواردة في نص الموضوع على شكل فقرات مترابطة (تكريس البؤس المنهجي) أو تعلق الأمر بوضعية "الاشتغال بالوثائق" التي ما زالت وفية كل الوفاء لأسئلة باتت مألوفة منذ سنوات (شرح مفاهيم ومصطلحات، السياق التاريخي، الفكرة العامة، تركيب فقرة، استخراج معطيات من الوثائق (عملية يمكن أن يقوم بها أي(ة) متعلم(ة) ولو كان ينتمي إلى مستويات أدنى أو تخصصات أخرى)، تحويل معطيات إلى مبيان...)، وهذا الخيار التقويمي لم يعد متجاوزا فحسب، اعتبارا لما يعتريه من مشاهد البؤس والنمطية والتواضع، بل أيضا، قياسا لمواد وتخصصات أخرى باتت تتأسس على وضعيات تقويمية "أنيقة" كما هو الشأن بالنسبة لمادة التربية الإسلامية وبدرجة أقل مادة الفلسفة، ويكفي أن نقارن امتحانا إشهاديا في مادة التربية الإسلامية وامتحانا مماثلا خاصا بمادة التاريخ والجغرافيا، ليتم الإدراك دون أدنى جهد أو عناء، مدى تواضع المادة على مستوى التقويم، ومدى تكريسها للتعب والإرهاق والعناء لا بالنسبة للمترشحين ولا بالنسبة للأساتذة المصححين. - جائحة كورونا أربكت المنظومات التربوية عبر العالم وفرضت اللجوء الاضطراري إلى خيارات تعليمية بديلة لضمان الاستمرارية البيداغوجية، تجسدت بالأساس عبر آلية "التعليم عن بعد" الذي كان "استثناء" في الموسم الدراسي المنصرم لتجاوز الأزمة الفجائية، وبات اليوم "خيارا" من الخيارات المطروحة، في ظل وضعية وبائية غير مستقرة في المغرب كما في العالم، وهذا الوضع، يفرض طرح أدوات ووسائل العمل التي يتم التعامل بها في إطار التعليم الاعتيادي (الحضوري)، والاجتهاد في تقديم حلول وبدائل بيداغوجية تنسجم مع هذا النمط "غير المألوف" من التعليم، في انتظار أن تتراجع الأرقام والمؤشرات الوبائية للعودة إلى الوضع الطبيعي، وهي حلول وبدائل متعددة الزوايا، منها "تخفيف كم البرامج الدراسية" في جميع المواد والتخصصات وتنزيل منظومات تقويمية مرنة تنسجم وتتناغم وخصوصيات هذه الظرفية الخاصة والاستثنائية. - الجائحة تسائل عدة مواد وتخصصات معرفية، منها مادة الفلسفة في ظل ما برز من أسئلة مفاهيمية من قبيل "الحرية" و"الحقيقة" و"الشك" و"اليقين" و"الأنا" و"الآخر" و"الشخصية" و"الموت" و"الحياة" و"الدولة" و"القانون" وغيرها من المفاهيم، أما بالنسبة لمادة التاريخ والجغرافيا، فالجائحة من وجهة نظر تاريخية، هي حدث أو منعطف تاريخي بارز ينضاف إلى المنعطفات التاريخية الكبرى التي بصمت تاريخ الإنسانية وخاصة في الزمن المعاصر والراهن، ومنعطف عالمي بهذه القوة والتأثير والارتباك، قد يعتمد كمحطة كرونولوجية للتأريخ وتوثيق مسارات وإيقاعات تاريخ العالم (زمن ما قبل كورونا وما بعدها)، ويمكن في مستقبل السنوات تخصيص مادة دراسية في برنامج التاريخ حول "جائحة كورونا" من حيث سياقاتها وأحداثها وتطوراتها وتداعياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية على العالم، كما يمكن إدراج الجائحة في بعدها الجغرافي بالنظر إلى تداعياتها الاقتصادية والمالية على الاقتصاد العالمي، وحتى لا نكون مقصرين، فالجائحة تسائل أيضا، حقولا معرفية أخرى من قبيل الاقتصاد والقانون وعلم الاجتماع وعلم النفس والدراسات الإسلامية وغيرها. ما تمت الإشارة إليه من ملاحظات لا يرتبط فقط ببرنامج السنتين الأولى بكالوريا (علوم) والثانية بكالوريا (آداب وعلوم إنسانية)، ما هو إلا مرآة عاكسة لما يعتري البرنامج الدراسي بالسلك التأهيلي ككل بمستوياته الثلاثة، من مشاهد النمطية والبؤس والرتابة والركود والتواضع، مما يفرض على صناع القرار التربوي، استعجال تخليص من مخالب "نمطية" طال أمدها. خلاصة: ونحن ندلي بهذه الملاحظات على سبيل المثال لا الحصر، لا ندعي أننا أنجزنا سبقا في النبش في حفريات المادة، ولا ندعي أننا قدمنا حلولا عملية لمشكلات قائمة، أو أفلحنا في الدعوة إلى تبني هندسة جديدة لبرنامج التاريخ والجغرافيا بالسلك التأهيلي، أو استطعنا ربط المادة بجائحة كورونا بأبعادها وتداعياتها المتعددة الزوايا على منظومة التربية والتكوين، فنحن على اقتناع أنه يكاد يكون إجماع بين أساتذة المادة والمفتشين التربويين أن واقع حال تدريس المادة لا يسر الناظرين، ورتابتها ونمطيتها لم تعد تخفى حتى على المتعلمين، وما طرحناه من مشكلات معرفية ومنهجية، هو محاولة متواضعة لم تتطلب منا جهدا ولا هدرا للطاقة أو القدرة، عدا صعوبات صياغتها وتحريرها، حاملين هم "مادة" باتت مرادفة لمفردات التعب والإرهاق وهدر الطاقات والقدرات بالنسبة للمدرسين والمتعلمين على حد سواء، في غياب أية إرادة حقيقية، من شأنها إحداث ثورة ناعمة في تدريس المادة "تخطيطا'' و'تدبيرا'' و''تقويما" و"رقمنة"، وهي ثورة باتت أمرا استعجاليا، اعتبارا لما شهده المغرب من تحولات اقتصادية وتنموية ومؤسساتية وقانونية وحقوقية خلال العقدين الأخيرين، وما ينتظر من أوراش تنموية مرتبطة بما ورد في خطاب العرش الأخير، وما سيحمله النموذج التنموي المرتقب من رؤى وتصورات تنموية، وارتباطا بما أبانت عنه جائحة كورونا من دروس وعبر ومن أولويات اقتصادية واجتماعية تسائل الدرس الجغرافي أساسا، وقبل هذا وذاك، قياسا لحساسية المادة (الجغرافيا أساسا) التي تقتضي التغير والتحيين المستدام لمعطياتها وأرقامها، انسجاما مع ما شهده ويشهده المجال من دينامية متعددة الزوايا على المستوى الوطني كما على المستوى الدولي، ونحن على وعي وإدراك، أن الأمر لا يتعلق فقط بالتخلي عن دروس وتعويضها بدروس أخرى بديلة، أو بالتخلص من بعض الدروس بالمرة، بل يرتبط برؤية إصلاحية شاملة للمادة، تعيد النظر في ما يؤطر تدريسها من مناهج وتوجيهات تربوية وأطر مرجعية، بشكل يسمح بتشكيل وجه جديد لمادة "أنيقة" و"جذابة" على مستوى المضامين وطرائق التدريس والتقويم، غير هذا سنظل أمام مادة "متجاوزة" مكرسة لمشاهد البؤس والرتابة والنفور والإرهاق بالنسبة لمن يلقنها ومن يتلقاها...