"ضاعت المدرسة المغربية"...جملة رددها أغلب من اتصلت بهم "هسبريس" من أجل معرفة آرائهم إزاء ما يقع من اختلالات خطيرة في القيم والأخلاق داخل المدارس العمومية والخاصة على السواء، وذلك بين تلاميذ صغار يدرسون في مستويات الابتدائي والتأهيلي الإعدادي، حيث ساءت سلوكيات العديد من هؤلاء التلاميذ، وباتت الخصال الفاضلة آخر شيء يمكن أن يفكروا فيه، لأسباب اجتماعية وأسرية واقتصادية لا يمكن إغفالها. رسائل حب زينب، أم طفلتين إحداهما تدرس في مستوى الرابع ابتدائي بأحد المدارس العمومية، تحكي عن ما وقع لابنتها عندما وجدت في محفظتها حين عودتها إلى البيت ورقة صغيرة مطوية بعناية، ومكتوب عليها عبارات منمقة باللون الأحمر كلها غزل وحب، فما كان منها إلا أن شددت الخناق على ابنتها لمعرفة مصدر الورقة الغريبة. وتابعت الأم بأنها شعرت حينئذ كأن الأرض تهوي بها من فرط المفاجأة، وتيقنت أن ابنتها لا تعلم من أين جاءتها رسالة الغزل المعلومة، فقررت الذهاب إلى المدرسة في الغد لمقابلة معلمة ابنتها ومدير المؤسسة التعليمية، فكانت المفاجأة أكبر.. وتشرح السيدة زينب بأن ما وجدته هو برودة تامة من لدن المعلمة والمدير، حيث لم يتحرك فيهما أي وازع تربوي أو إداري يدفعهما للبحث عن الفاعل من بين تلاميذ القسم، مردفة أن السبب هو كما قال المدير بأن هذا الأمر صار شبه عاد في مدرسته وفي جل المدارس العمومية، حيث تنتشر الغراميات بين التلاميذ، حتى من الذين يدرسون في الصفوف الابتدائية. وعزت الأم أسباب هذا التحول الغريب والخطير في القيم والسلوكيات عند الكثير من التلاميذ في المدارس العمومية إلى أمرين اثنين، الأول هو عدم مراقبة الأسرة لأبنائها المتمدرسين بشكل كاف وفعال، بينما السبب الثاني يعود إلى الإقبال الكثيف على المسلسلات المكسيكية والتركية التي جعلت مسألة العلاقات الغرامية مشاعة وعادية ولا تخلق أدنى حرج بين أفراد الأسرة التي تجلس أمام التلفاز. المد "الغرامي" وبالنسبة للتلميذة صفية، تدرس في مستوى السابعة إعدادي بإحدى المؤسسات التعليمية بجماعة اليوسفية بالرباط، فإن تداول الرسائل الغرامية واللقاءات والمواعيد "الساخنة"، بل وانتشار تدخين السجائر والمخدرات واستهلاك "المعجون"، كلها مظاهر موجودة في مدرستها بشكل صدمها في البداية، لكنها "تعودت على ذلك فيما بعد بسبب التطبيع النفسي"، على حد قول والدها الذي ألقى باللائمة على الأطر التربوية للمدرسة، ذلك أنهم أول من كان عليهم أن يقفوا ضد هذا المد الغرامي والانفلات السلوكي بشتى أساليب الزجر والعقاب، وقبلها بمختلف طرق التربية والتوعية والتحسيس، لكن لا حياة لمن تنادي"، يقول والد صفية بصوت متهدج يغلب عليه الحزن العميق. ومن جهته، والد التلميذة مروة نفى أن تكون المدرسة العمومية وحدها التي تشهد مثل هذه السلوكيات، فابنته أيضا التي تدرس بمدرسة في القطاع الخاص تعرضت لموقف حرج جعلها تنهار بالبكاء الشديد عندما أتت صديقاتها، وهن جميعا في مستوى الرابع ابتدائي فقط، ليخبرنها أن زميلا لها يُكن لها مشاعر الحب الشديد، وأنه معجب بجمالها وشعرها بالخصوص، ويرغب في ملاقاتها بعيدا عن المدرسة. وزاد الأب بنبرة حانقة أن ما أثار استغرابه انه لم يجد الاهتمام اللازم لمثل هذا الموضوع عندما أبلغه لمديرة المؤسسة التعليمية، حيث أصرت على أن لا تعاقب التلميذ ذي التسع سنوات، لأنه العقوبة في هذا السياق أمر مُحبط، وقد يعود بالضرر النفسي على الطفل، مضيفا أنه لم يستوعب كيف لا يتم تنبيه التلميذ خشية المس بمشاعره.. الفهم النفسي والتربوي واتصلت هسبريس بالباحث التربوي والنفسي محمد الصدوقي لفهم وتقييم الأسباب التربوية والاجتماعية للعلاقات الغرامية بين التلاميذ في المدرسة المغربية، حيث قال إنه لا بد من الاعتماد على بعض المعطيات البيولوجية والنمائية العلمية، وذلك لأن التلميذ/ة كطفل/ة هو كائن بيولوجي ونفسي واجتماعي يخضع كغيره من الكائنات الإنسانية لقوانين النمو الفسيولوجية والنفسية والاجتماعية، وما يترتب عنها من تمثلات وعلاقات وسلوكيات سواء داخل المدرسة أو خارجها.. ويشرح الصدوقي بالقول "العلاقات الغرامية، من الناحية النفسية، هي انعكاس للمعطيات الوجدانية الجنسية التي يخضع لها الكائن الإنساني في صيرورته النمائية؛ حيث، وحسب أدبيات التحليل النفسي، في المرحلة العمرية الممتدة من حوالي بداية السن 11 إلى نهاية المراهقة في حوالي السن 17/18(وهذه المرحلة العمرية، مدرسيا بالنسبة للتلميذ/ة، تمتد من نهاية التعليم الابتدائي إلى نهاية التعليم الثانوي التأهيلي)، نجد التلميذ/ة يعيش تحولات بيولوجية ونفسية ترتبط بنضج الغرائز الجنسية، والانتقال من البعد الاستيهامي للمواضيع الجنسية إلى البعد الواقعي؛ أي يصبح الطفل أو الطفلة يخضعان نفسيا "للجاذبية الجنسية". وأردف الصدوقي: يتبين هذا من خلال الاهتمام المبالغ فيه بالشكل واللباس لإثارة انتباه الجنس الآخر، أو من خلال بعض السلوكيات ذات الطابع أو الإيحاء الجنسي، كالحركات والإيماءات، والتعبيرات الكلامية أو الكتابية، والرسومات، أو العمل على تقرب الجنسين من بعضهما باستخدام شتى الطرق الممكنة... كما نلاحظ، من بين الأسباب الاجتماعية لتفشي سلوكيات الغراميات بين التلاميذ، وأحيانا في سن صغيرة جدا، تأثير الطفل(ة) /التلميذ(ة) ببعض وسائل الإعلام والاتصال التي يتيحها لهم وسطهم الاجتماعي والأسري المعاصر، كالأفلام والمسلسلات، والانترنيت، والمجلات...أو سلوكيات الراشدين أنفسهم. عصر الكوليرا الجنسية؟ ولفت الباحث إلى أنه ليس غريبا أن نجد ونلاحظ داخل المدرسة بعض السلوكيات الجنسية بين التلاميذ، باعتبار المدرسة كمكان اجتماعي وإنساني ، يتداخل فيها البيولوجي والنفسي والتربوي والاجتماعي في تشكيل العلاقات والسلوكيات المدرسية بين التلاميذ، ومنها الجنسية، سواء في شكل غراميات أو غيرها من التمظهرات الجنسية. لكن، يكمل الصدوقي، الإشكالية المطروحة على المدرسة المغربية كمؤسسة للتربية والتنشئة الاجتماعية هي: كيف توفق بين الحاجيات النمائية والطبيعية للطفل(ة)/ التلميذ(ة)، والضوابط التربوية في بعدها الأخلاقي والقيمي الاجتماعي؟؛ وهل يوجد في مدارسنا وعي وتربية جنسيان؟.. ويحاول الصدوقي الإجابة قائلا : السائد في مدارسنا، هو التعامل مع الحاجيات النمائية الجنسية للتلاميذ بطرق الزجر والعقاب والتأديب، دون تفهم علمي لهذه الحاجيات الطبيعية، والعمل على تهذيبها وتوجيهها أخلاقيا وقيميا بشكل تأطيري تربوي؛ لذا فإن إدماج التربية الجنسية في مدارسنا تعتبر ضرورة تربوية خصوصا في عصرنا هذا، وهو عصر "الكوليرا الجنسية" بامتياز ، لتصحيح السلوكيات الجنسية المنحرفة وغير اللائقة، ولتوعية وتحسيس التلاميذ معرفيا وقيميا بالمعطيات والسلوكيات الجنسية الصحيحة علميا والمقبولة اجتماعيا، وللتأطير التربوي للغرائز الجنسية الطبيعية حسب الاتجاهات والنماذج الأخلاقية والقيمية والسلوكية المقبولة إنسانيا ومجتمعيا. [email protected]