إلى حد قريب، كان ينظر إلى جمعيات المجتمع المدني ببعض الحيطة والحذر، في سعيها إلى منازعة أجهزة الدولة سيادتها على تدبير الشأن العام. لكن عولمة الحياة بمختلف مناحيها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وثورة المعلومات والاتصال وزيادة المطالبة بتوسيع مجالات حقوق الإنسان والحكامة الرشيدة؛ أفضى إلى تقليص حدة هذا التوجس. وفي ضوء هذه المتغيرات، كان لا بد من توفر إرادة قوية لفتح قنوات الحوار مع جمعيات المجتمع المدني، لكي تسهم بدورها في مساعدة المؤسسات الحكومية على تحمل جزء من المسؤولية في معالجة المشاكل. وهناك دافع آخر ساهم في هذه الإرادة وهو الاستجابة لمطالب الدمقرطة؛ سواء الخارجية أو النابعة من المجتمع نفسه، بحيث يستجيب تشكيل نسيج جمعوي متنوع ومتعدد لمطالب إسماع صوت مكونات المجتمع، وإشراكها في تدبير شؤونها العامة والخاصة؛ وانعكست بالتالي هذه الإرادة على السياسات والمقاربات التنموية التي أصبحت مختلف الدول، ومن بينها المغرب تتبناها. لكن الملاحظ أن الجمعيات تعددت في المغرب وتناسلت بحيث وصل عددها حوالي 130 ألف جمعية، وأصبحت تنتشر الأسئلة حول طبيعتها وأهدافها ومردوديتها. أسئلة قفزت إلى واجهة النقاش العمومي أثناء داعيات فيروس كورونا، إذ على الرغم من هذا الزخم من الجمعيات، فلم تكن في مستوى انتظاراتنا منها. من هذه الأسئلة: هل هذه الجمعيات تأسست لجمع الدعم أم لتأهيلها، وتقوية قدرات المجتمع؟ هل أصبح العمل الجمعوي من وسائل الإثراء السريع في المغرب؟ هل عمدت الأحزاب إلى خلق جمعيات مؤيدة لها لتأخذ الدعم؟ هل عملت الجمعيات على تأهيل الإنسان المواطن الواعي بالواجبات، والحقوق، الذي يعول عليه في السراء والضراء ويتضامن في الكوارث الطبيعية والأوبئة؟ هل عندنا جمعيات مؤهلة وفي مستوى بلورة السياسات العمومية؟ هل الجمعيات أحدثت تغييرا في حياة المغاربة اجتماعيا أو سياسيا؟ هل الجمعيات مثل عباد الشمس تميل مع السلطة أينما حلت وارتحلت؟ لماذا أغلب الجمعيات تعاني من الهشاشة المعرفية: ليس لها تكوين مسبق ولا رؤية واضحة ولا استراتيجية محكمة؟ هل الجمعيات الجادة تعاني من الإقصاء؟ هذه الأسئلة، وغيرها استوجب طرحها غياب الجمعيات عن الإسهام في علاج المشاكل التي تعيشها بلادنا – مع احترامي للجمعيات الجادة والتي لا تتعدى نسبتها خمسة في المئة؛ وقبل محاولة الإجابة على ذلك يجدر التذكير بالمرجعيات التي تؤطر لجمعيات المجتمع المدني ومجالات تدخلها. الحق في تكوين الجمعيات اعتمدت الأممالمتحدة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان سنة 1948؛ وقد ضمن هذا الإعلان مجموعة من الحقوق لمختلف الفئات دون تمييز، ومن هذه الحقوق إشراك الأفراد في الجمعيات، وهذا ما نصت عليه المادة 20 من الإعلان في فقرته الأولى (.... أن لكل شخص الحق في حرية الاشتراك في الجمعيات، والجماعات السلمية....) العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية: هي معاهدة اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1966، حيث تلتزم أطرافها على احترام الحقوق المدنية، والسياسية للأفراد، بما في ذلك الحق في الحياة، وحرية التجمع. كذلك نجد العهد الدولي قد خول للأفراد الحق في حرية تكوين الجمعيات، من خلال ما نصت عليه المادة 22 منه؛ حيث جاء فيها (... لكل فرد الحق في حرية تكوين الجمعيات مع آخرين..) وفي الدستور المغربي ينص الفصل 12 في الباب الأول (.... على أن جمعيات المجتمع المدني، والمنظمات غير الحكومية تؤسس، وتمارس أنشطتها بحرية، في نطاق احترام الدستور، والقانون، ولا يمكن حل هذه الجمعيات، والمنظمات، أو توقيفها من لدن السلطات العمومية إلا بمقتضى مقرر قضائي، كما أن الجمعيات المهتمة بقضايا الشأن العام، والمنظمات غير الحكومية تساهم في إطار الديمقراطية التشاركية في إعداد قرارات، ومشاريع لدى المؤسسات المنتخبة، والسلطات العمومية، وكذلك في تفعيلها، وتقييمها...)؟؟.بالإضافة إلى قانون تأسيس الجمعيات: ظهير 15 نونبر1958، والمعدل بموجب القانون رقم00-75 في 23 يوليوز 2002. هذه الجمعيات الكثيرة ما هي المجالات التي تعمل عليها؟ استنادا إلى إحصائيات مندوبية التخطيط فمجالات التدخل لدى الجمعيات كما يلي: المجال الاجتماعي: 24 في المئة، المجال البيئي: 22 في المئة، المجال الرياضي: 18 في المئة، المجال التربوي: 13 في المئة، المجال الفني والثقافي: 07 في المئة، المجال الديني: 03 في المئة، المجال الصحي: 01 في المئة، المجال الحقوقي: 01 في المئة. والسؤال الذي يفرض نفسه: هل كل الجمعيات تلتزم وتشتغل ضمن مجال تخصصها؟ طبعا لا، لأن كثيرا من الجمعيات تقفز على مجال تخصصها، مثلا تجد جمعية معروفة في المجال الاجتماعي، وفجأة تنظم دورة تكوينية أو ندوة في مجال حقوق الإنسان؟ فلماذا؟ بحثا عن الدعم... كيف ذلك؟ موسم الهرولة طبقا لأحكام الفصل 32 من قانون تأسيس الجمعيات، فإن كل جمعية تتلقى إعانات، ومساعدات من مؤسسات الدولة، ويجب أن تقدم حساباتها، وميزانيتها للوزارات التي تمنحها تلك المساعدات، وتخضع هذه الجمعيات لمراقبة المفتشية العامة للمالية، كما تخضع إلى مراقبة المجلس الأعلى للحسابات بموجب المادة 73 من قانون79-12، كما يتوجب على الجمعيات أن تصرح للأمانة العامة للحكومة بالإعانات التي تتلقاها من جهات أجنبية حسب الفصل 32 مكرر. والتمويل العمومي تحصل عليه الجمعيات المغربية من القطاعات الحكومية، والمؤسسات، والمقاولات العمومية، والمبادرة الوطنية للتنمية البشرية، واجبات انخراط أعضائها، الإعانات الخاصة التي تقدمها الشركات، والأفراد على شكل تبرعات، المساعدات الأجنبية.... وقد بلغ الدعم العمومي للجمعيات المغربية خلال ثلاث سنوات الأخيرة 140 مليارا؟ وكشف الأمين العام للحكومة عن حجم الدعم الأجنبي الموجه لجمعيات المجتمع المدني المغربي، مشيرا إلى تصريح 200 جمعية لدى الأمانة العامة للحكومة بتلقي 315 مليون درهم من الدعم الأجنبي خلال سنة 2019. وخلال تقديم مشروع الميزانية الفرعية للأمانة العامة للحكومة برسم سنة 2020 أمام لجنة العدل، والتشريع، وحقوق الإنسان بمجلس النواب أوضح الأمين العام ارتفاع عدد الجمعيات المتمتعة بصفة المنفعة العامة، والتماس الإحسان العمومي؛ مضيفا أن الدعم الأجنبي للجمعيات بلغ 31 مليارا خلال سنة 2019؟؟ وكل هذا الدعم لا يظهر له أثر على الساكنة على مستوى التنمية؛ مثل محاربة الأمية، وتنمية قدرات الجمعيات؟؟ وأمام هذه الملايير ما هي النتيجة؟ هل انخفض الفقر؟ هل تقلص الجهل؟ هل ارتفع الوعي؟ هل تغيرت العقليات؟ هل تغير السلوك، والممارسات السلبية؟ والأدهى من هذا أنه في كل موسم تعلن الوزارات، والجماعات عن مشاريع لطلب الدعم فيبدأ سباق الفورميلا وان ؟؟ف تتهافت الجمعيات، وتهرول للحصول على التمويل ببناء مشاريع خارجة عن مجال تخصصها، بينما كان الأجدر بهذه الجمعيات البحث والتنقيب عن سبل، ووسائل التأهيل، والتمكين المعرفي لها ولمجتمعها؛ لأن المعرفة دائما هي الحل لجميع المشاكل. بناء الإنسان قبل بناء المشاريع كما قلت هناك وعي بالهشاشة المعرفية لدى كثير من الجمعيات، بفعل النقص في التكوين؛ فوجدت نفسها تلهث وراء الدعم عبر بناء مشاريع لا أثر لها ميدانيا. بينما بناء الإنسان هو الأولوية، والذي يبقى أثره عبر الزمان. وإذا أرادت الجمعيات فعلا استحقاق المستوى الذي وضعها فيه الدستور، عليها تفعيل أهدافها، والقيام بأدوارها في الارتقاء بأعضائها، ومن خلالها الارتقاء بالمجتمع عبر التأهيل المتواصل، والتركيز على ما يلي: بناء القدرات البشرية ،والمهارات الحياتية الجديدة – إيلاء العناية لقضايا المواطنة، التنمية، الحوار، الصحة، البيئة – الاهتمام في برامج الجمعيات بمحاربة الأمية بمختلف أشكالها: الأبجدية، الوظيفية، الرقمية، القانونية، الحضارية – العمل على تكوين موارد بشرية مواطنة، واعية بالآفات المهددة لسلامة المجتمع، والقادرة على اقتراح البدائل - تكوين قيادات مجتمعية مواطنة، مؤهلة بمعارف ومهارات، وقيم المشاركة الفعالة في الشأن العام، والاستجابة للاحتياجات المجتمعية – توعية الناس بأن المواطن الصالح بأخلاقه وعلمه وسلوكه، وليس بطبقته أو حزبه أو لونه أو منصبه – المساهمة في معالجة المشكلات والتحديات التي تؤخر تطور الشعوب، كالأمية والفقر والرشوة والفساد....... بعد التأهيل يمكن القول إن الجمعيات يمكنها إعداد مشاريع، لدى السلطات المنتخبة، وبلورة السياسات العمومية، والإسهام في تفعيلها وتقييمها؛ وعلى مستوى التمويل على الحكومة تفعيل مقتضيات الدستور المتعلقة بالمجتمع المدني، والجمعيات الجادة والمنتجة، مع اعتماد الشفافية في صرف الدعم العمومي، واحترام مجال التخصصات. وبهذه المواصفات يمكننا اكتشاف جمعيات لا تتقن نسج عباءات النفاق، ولا تعتمد على ثقافة الريع، بل تعتمد على ثقافة: من جدَّ وجد. أليس كذلك؟