"محور العالم الحديث يتحرك مع توسع المشهد التاريخي في كل الاتجاهات. هذا هو أحد الأشياء التي ستميز القرن العشرين عن القرون التي سبقته، فحركة توحيد العالم، أعدت من قبل ومنذ اكتشافات القرن 15، حيث أدخلت العالم كله في المجال السياسي والاقتصادي للشعوب المتحضرة" -أناتول لوروي بوليو 1901 Anatole Leroy-Beaulieu. هل سيعود عالم اليوم إلى مقولة «نابليون بونابرت» حين قال: "احذروا الخطر الأصفر"؟ يومها، كان القائد الفرنسي يقصد بداهة مكمن الخطر الذي رآه من جانب شعوب الشرق الآسيوي الأقصى. وفيما عكف المؤرخون على تفسير هذه المقولة بأنها ربما تنصرف إلى الشعب الياباني سواء من حيث تقدمه السريع ولاسيما في النصف الثاني من القرن العشرين، فإن هناك الكثير من الاستراتيجيين من يدفع إلى التحذير في الوقت الحالي من عملاق أصفر بدوره.. هو الذي يؤرق الآن مضاجع أركان السياسة والتخطيط العسكري في الغرب.. وهذا العملاق الآسيوي يحمل اسما واحدا يتردد بتكرار كبير في مجامع البحث وأروقة السياسة الغربية والأمريكية تحديدا، وهو: الصين. فقد سبق منذ أكثر من 200 سنة إلى استرعاء الانتباه إلى ما تم وصفه بأنه «الخطر الأصفر» مشيرا في ذلك إلى العملاق الصيني حين يستيقظ من غفوته وحنينه إلى حلمه القديم ليطرق أبواب العالم الحديث.. وقد ساعد على تفعيل وتجلي هذه الظاهرة الصينية ما شهده عالمنا خلال النصف الثاني من القرن العشرين من صراع ثنائي بين القطبين الكبيرين في تلك الفترة وهما الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة بالقطب الواحد. في أواخر القرن التاسع عشر، صاغ عالم الاجتماع الروسي جاك نوفيكوف (Jacques Novicow) العبارة في مقاله (Le Péril Jaune) "The Yellow Peril" 1897 . في ما بعد، استخدم القيصر "فيلهلم الثاني" من ألمانيا هذه التسمية العنصرية لتشجيع الإمبراطوريات الأوروبية على غزو الصين وقهرها واستعمارها، وتحقيقًا لهذه الغاية، فأساء بذلك القيصر تمثيل النصر الآسيوي في الحرب الروسية اليابانية 1904/1905، باعتباره تهديدًا عنصريًا للمواطنين البيض في أوروبا الغربية، وأساء عرض الصين واليابان في تحالف لغزو العالم الغربي وإخضاعه. أوضح عالم الجينات "وينج فاي لونج" الأصول الرائعة لهذه العبارة والأيديولوجية العنصرية: "عبارة الخطر الأصفر (أحيانًا الإرهاب الأصفر أو الطيف الأصفر)... تمزج بين المخاوف الغربية حول الجنس، والمخاوف العنصرية من الأجنبي الآخر. إن القضية الماثلة الآن أمام واضعي الاستراتيجيات في العالم الغربي تتجسد حاليا في أن الصين لم تكتف بأن تصبح قوة وحسب، بل إنها انتقلت إلى حيث أصبحت قوة نامية ومن ثم قوة ناهضة Emerging أو بالتحديد قوة صاعدة Rising، وهو المصطلح الذي عمدت إلى استخدامه تحديدا مجلة «الإيكونومست» البريطانية، في دراسة نشرتها نهاية عام 2010 تحت العنوان التالي: الأخطار التي تتمثل في صين صاعدة. أوائل عام 2004، وضع كبار قادة الصين جانباً روتين حكم 1.3 مليار شخص والعمل على دراسة صعود القوى العظمى في خطوات جريئة ومتعاظمة لبعث الحلم الصيني القديم. ولكم يمكننا أن نتخيل مخزون التاريخ القاتم للحرب والدمار المعروض عليهم وهم يدرسون كيف أن الإمبراطوريات التي كانت تناضل من أجل السيادة منذ القرن الخامس عشر وقبله، ويمكننا أن نتخيل تركيزهم المتنامي على الموضوع الحقيقي لاستراتيجيتهم: ما إذا كانت الصين ستكون قادرة على احتلال مكانتها في القمة دون أن تلجأ إلى منطق السلاح، وبذلك هم ينزعون نحو القوة الناعمة. لقد بذلت الصين، من نواح عديدة، جهودا لمحاولة طمأنة العالم القلق، فقد وعدت مرارا وتكرارا أنها تعني السلام فقط. أنفقت بحرية على المساعدات والاستثمار، وحلّت الخلافات الحدودية مع جيرانها وطوّرت أكمامها في قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة والمنظمات الدولية. حتى الآن، سارت الأمور بشكل ملحوظ بين أمريكاوالصين، فبينما كرست الصين نفسها للنمو الاقتصادي، فقد ركز الأمن الأمريكي على الإرهاب الإسلامي والحرب في العراق وأفغانستان. لكن الاثنين لا يثقان ببعضهما، فالصين ترى في أمريكا كقوة متضائلة ستسعى في النهاية إلى دحر صعودها، وتخشى أمريكا من كيفية التعبير عن القومية الصينية، التي تغذيها القوة الاقتصادية والعسكرية المعاد اكتشافها. كان بعض الدبلوماسيين الغربيين حذرين في ردهم على الممر التجاري المقترح، حيث اعتبروه استيلاء على الأراضي لتعزيز نفوذ الصين على الصعيد العالمي، ولكن لا يوجد دليل يذكر يشير إلى أن الطريق سيفيد الصين وحدها. وقال تشارلز بارتون، الدبلوماسي السابق بالاتحاد الأوروبي في الصين، لصحيفة فاينانشيال تايمز إن الخطة هي في الأساس "سياسة داخلية ذات عواقب جيوستراتيجية وليست سياسة خارجية". ونشر تعليق سابق لوكالة أنباء الصينالجديدة (شينخواXinhua ) التي تديرها الدولة "في الوقت الذي تتحرك فيه بعض الدول الغربية إلى الوراء عن طريق إقامة" الجدران"، فإن الصين تتطلع إلى بناء جسور، سواء كانت فعلية أو مجازية". وهي رسالة تفصح، عن أن خطاب التهديد موّجه إلى القطب العولمي الأوحد المتمثل في الولاياتالمتحدة، التي ظلت تنعم بهذه المكانة الكوكبية كما نسميها على مدار عقدين أو أكثر والتي شهدت بدايته اختفاء المنافس السوفيتي من الخارطة الجيوستراتيجية الدولية، ثم استمرت هذه المكانة الفريدة والمرموقة أيضا بصورة أو بأخرى على مدى سنوات العقد الاستهلالي من هذا القرن الواحد والعشرين. ليس هناك شك في أن الصين تنمو لتصبح ثقلًا جيوسياسيًا، تخطو إلى الفراغ الذي تركته الولاياتالمتحدة في مسائل التجارة الحرة وتغير المناخ، فهناك عدة قضايا ترسم ملامح عولمة مغايرة عن تلك التي تبناها الغرب منذ أكثر من ثلاثة عقود وتتمثل في تباطؤ الاقتصاد العالمي، والتوترات السياسية، والحروب التجارية، وأزمة التفكيك التي طالت المجتمع الغربي: الأمريكي والأوروبي عموما. لماذا تفعل الصين ذلك؟ أحد الحوافز القوية هو أن البنية التحتية التجارية عبر الأوراسية يمكن أن تدعم البلدان الفقيرة إلى جنوبالصين، بالإضافة إلى تعزيز التجارة العالمية. ومن المتوقع أن تستفيد المناطق المحلية أيضًا - خاصة المناطق الحدودية الأقل تطورًا في غرب البلاد ، مثل شينجيانغ Xinjiang. إن الفوائد الاقتصادية، محليًا وخارجيًا كثيرة، ولكن ربما الأكثر وضوحًا هو أن التجارة مع أسواق جديدة يمكن أن تقطع شوطًا طويلاً نحو الحفاظ على ازدهار الاقتصاد الوطني الصيني في المستقبل، فمن بين الأسواق المحلية التي من المقرر أن تستفيد من التجارة المستقبلية، الشركات الصينية - مثل تلك الموجودة في النقل والاتصالات - والتي تبدو الآن على استعداد للنمو لتصبح علامات تجارية عالمية. التصنيع الصيني هو أيضا مكسب، يمكن للقدرات الصناعية الهائلة للبلاد - بشكل رئيسي في إنشاء الصلب والمعدات الثقيلة - أن تجد منافذ مربحة على طول طريق الحرير الجديد، وهذا يمكن أن يسمح للصناعات الصينية بالتأرجح نحو السلع الصناعية الراقية. طريق الحرير الرقمي: تتضمن مبادرة الحزام والطريق أيضا إنشاء شبكة متطورة من البنية التحتية الإلكترونية لأجل استكمال مهمة ربط الصين بالعلم الخارجي في عصر التكنولوجيا والمعلومات، بواسطة طريق الحرير الرقمي الذي تبنته الصين ي 2015 والهدف من ذلك تطوير التجارة الإلكترونية بين الصين ودول الأعضاء في المبادرة عبر شبكات الهاتف المحمول والكابلات الضوئية، وفي عام 2017 سلط منتدى مبادرة الحزام والطريق الضوء على طريق الحرير الرقمي وأدرج المجتمعون في بيانهم الختامي القطاعات الرقمية ومنها الاتصالات والبنية التحتية للأنترنيت والتجارة الإلكترونية ضمن مبادرة الحزام والطريق. وتأتي أهمية طريق الحرير الرقمي مع تنامي القطاع التكنولوجي والرقمي في الصين حيث أسهم الاقتصاد الرقمي عام 2016 نحو (3.30 %) من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، وبحلول عام 2017 شكلت التجارة الإلكترونية الصينية (42 %) من الأسواق العالمية والتكنولوجيا العملاقة، الأمر الذي شجع الصين على طرح مشروع الحرير الرقمي لإتاحة الفرص لشركاتها التكنولوجية بإيجاد أسواق خارجية جديدة أمام المنتجات الإلكترونية (الأهمية الجيواقتصادية لمبادرة الحزام والطريق الصيني وانعكاساتها على الاقتصاد الدولي أ. أحمد فؤاد حسن. ص251). فالصين تشكل بذاتها ذلك العملاق الذي يخيف الغرب لاعتبارات قدمها الدكتور محمد نعمان جلال (مجلة الصين اليوم): الأول: أنها كيان سياسي موحد في دولة مركزية وليس من السهل تفكيكه. الثاني: أن الصين بعقيدتها السياسية الشيوعية، وعقليتها البرغماتية، ونخبها السياسية تعمل على تطوير ذاتها بمنطق براغماتي يقوم على التعايش وليس التصادم، يحافظ على المبدأ، ولكنه يستخدم الزمن لصالحه للحفاظ على كيانه التاريخي الموحد، وأخيرا يستخدم المرونة الفكرية والسياسية في التقدم بأفكار تستوعب القوى التي يمكن أن تكون معارضة. الثالث: أن الصين في عهد الإصلاح والانفتاح اتجهت لاستيعاب العولمة الاقتصادية بصورة شبه تامة وعملت بصبر للانضمام لمنظمة التجارة العالمية وقبول معظم شروطها، وطورت صناعاتها الوطنية فزاد إنتاجها وأصبحت القوة الثالثة عالمياً في مجال الاقتصاد. هذه المظاهر الثلاثة للقوة الحديثة التي أنتجتها الصين (العسكرية، التكنولوجية والاقتصادية) جعلتها في مصاف القوى العالمية الرئيسية مما جعلها لاعبا رئيسا، وأضعف من قدرات الغرب في التشكيك في سياساتها أو استراتيجياتها المستقبلية نحو عولمة أخرى مغايرة.