التوجه نحو ابتكار "الروبوتات البشرية".. عندما تتجاوز الآلة حدود التكنولوجيا    "الجديدي" ينتصر على الرجاء بثنائية    جامعيون يناقشون مضامين كتاب "الحرية النسائية في تاريخ المغرب الراهن"    هل نحن أمام كوفيد 19 جديد ؟ .. مرض غامض يقتل 143 شخصاً في أقل من شهر    الوزير قيوح يدشن منصة لوجيستيكية من الجيل الجديد بالدار البيضاء    حقائق وشهادات حول قضية توفيق بوعشرين مع البيجيدي: بين تصريحات الصحافي وتوضيحات المحامي عبد المولى المروري    دراسة تكشف آلية جديدة لاختزان الذكريات في العقل البشري    التجمع الوطني للأحرار يثمن المقاربة الملكية المعتمدة بخصوص إصلاح مدونة الأسرة    الدكتور هشام البوديحي .. من أحياء مدينة العروي إلى دكتوراه بالعاصمة الرباط في التخصص البيئي الدولي    الدورة ال 44 لمجلس وزراء الشؤون الاجتماعية العرب بالمنامة .. السيد الراشيدي يبرز الخطوط العريضة لورش الدولة الاجتماعية التي يقودها جلالة الملك    حصيلة سنة 2024.. تفكيك 123 شبكة لتنظيم الهجرة غير النظامية والاتجار في البشر    38 قتيلا في تحطم طائرة أذربيجانية في كازاخستان (حصيلة جديدة)    فرض غرامات تصل إلى 20 ألف درهم للمتورطين في صيد طائر الحسون بالمغرب    المهرجان الجهوي للحلاقة والتجميل في دورته الثامنة بمدينة الحسيمة    انقلاب سيارة على الطريق الوطنية رقم 2 بين الحسيمة وشفشاون    رحيل الشاعر محمد عنيبة أحد رواد القصيدة المغربية وصاحب ديوان "الحب مهزلة القرون" (فيديو)    المغرب الرياضي الفاسي ينفصل بالتراضي عن مدربه الإيطالي غولييرمو أرينا    رئيس الرجاء يرد على آيت منا ويدعو لرفع مستوى الخطاب الرياضي    تنظيم الدورة السابعة لمهرجان أولاد تايمة الدولي للفيلم    الندوة 12 :"المغرب-البرتغال. تراث مشترك"إحياء الذكرىالعشرون لتصنيف مازغان/الجديدة تراثا عالميا. الإنجازات والانتظارات    الإنتاج الوطني من الطاقة الكهربائية بلغ 42,38 تيراواط ساعة في متم 2023    حركة حماس: إسرائيل تُعرقل الاتفاق    روسيا: المغرب أبدى اهتمامه للانضمام إلى "بريكس"    السعودية و المغرب .. علاقات راسخة تطورت إلى شراكة شاملة في شتى المجالات خلال 2024    عبير العابد تشكو تصرفات زملائها الفنانين: يصفونني بغير المستقرة نفسياً!    أخبار الساحة    الخيانة الزوجية تسفر عن اعتقال زوج و خليلته    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    التنسيق النقابي بقطاع الصحة يعلن استئناف برنامجه النضالي مع بداية 2025    الريسوني: مقترحات مراجعة مدونة الأسرة ستضيق على الرجل وقد تدفع المرأة مهرا للرجل كي يقبل الزواج    تأجيل أولى جلسات النظر في قضية "حلّ" الجمعية المغربية لحقوق الإنسان    بعد 40 ساعة من المداولات.. 71 سنة سجنا نافذا للمتهمين في قضية "مجموعة الخير"    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها بأداء إيجابي    جهة مراكش – آسفي .. على إيقاع دينامية اقتصادية قوية و ثابتة    برنامج يحتفي بكنوز الحرف المغربية    مصرع لاعبة التزلج السويسرية صوفي هيديغر جرّاء انهيار ثلجي    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    ابتدائية الناظور تلزم بنكا بتسليم أموال زبون مسن مع فرض غرامة يومية    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    لجنة: القطاع البنكي في المغرب يواصل إظهار صلابته    نزار بركة: 35 مدينة ستستفيد من مشاريع تنموية استعدادا لتنظيم مونديال 2030    تقرير بريطاني: المغرب عزز مكانته كدولة محورية في الاقتصاد العالمي وأصبح الجسر بين الشرق والغرب؟    مجلس النواب بباراغواي يصادق على قرار جديد يدعم بموجبه سيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية    باستثناء "قسد".. السلطات السورية تعلن الاتفاق على حل "جميع الفصائل المسلحة"    مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالإضراب    ماكرون يخطط للترشح لرئاسة الفيفا    بطولة إنكلترا.. ليفربول للابتعاد بالصدارة وسيتي ويونايتد لتخطي الأزمة    مجلس النواب بباراغواي يجدد دعمه لسيادة المغرب على صحرائه    ضربات روسية تعطب طاقة أوكرانيا    ارتفاع معدل البطالة في المغرب.. لغز محير!    وزير الخارجية السوري الجديد يدعو إيران لاحترام سيادة بلاده ويحذر من الفوضى    السعدي : التعاونيات ركيزة أساسية لقطاع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كاتب الضبط الإلكتروني بين المحكمة الورقية والرقمية
نشر في هسبريس يوم 02 - 07 - 2020

شهد العالم مع بداية سنة 2020 اجتياح وباء كوفيد-19 الذي انتشر كالنار في الهشيم، فارضا على البشرية جمعاء مجموعة من الإجراءات الوقائية والاحترازية من أجل منع انتشار العدوى انسجاما مع توصيات منظمة الصحة العالية، من أجل الحفاظ على صحة وسلامة الجنس البشري، ومن بين هذا التدابير الاحترازية فرض الحجر الصحي والبقاء في المنازل مع الالتزام بضرورة التباعد الاجتماعي، وهو الأمر الذي غير بشكل كبير نمط عيش وسلوك الأشخاص سواء الطبيعيين أو المعنويين، فالإدارة بدورها غيرت من نمطها وسلوكها في تقديم الخدمات للمرتفقين من خلال ابتكار وسائل عصرية وحديثة، هذه الوسائل الحديثة في المجتمعات السائرة في طريق النمو، قد تبدو عادية أو قديمة في المجمعات المتقدمة، فبعدما كانت الإدارة قائمة على الأساليب التقليدية القديمة والتي تستعمل الورق أصبحت الحاجة ملحة إلى الانتقال إلى الوسائل الإلكترونية بعدما أثبتت الدراسات العلمية والطبية أن التداول الورقي يساهم بشكل كبير في نقل العدوى،
والمغرب كغيره من الدول السائرة في طريق النمو لم يسلم من انتشار العدوى بين المواطنين والعمال والفلاحين وحتى الموظفين، جراء اتصالهم المباشر بالمرتفقين القاصدين الإدارة، لقضاء مصالحهم خصوصا حاملي هذا الفيروس أو حتى المخالطين لهم، الأمر الذي حتم على الحكومة المغربية وفي إطار التدابير الوقائية والاحترازية الانتقال السريع إلى الإدارة الإلكترونية في تعاملها اليومي مع جمهور المرتفقين، ويمكن تعريف الإدارة الإلكترونية حسب ما ذهب إليه بعض الباحثين أمثال د/مصطفى يوسف كافي، بأنها العملية الإدارية القائمة على الإمكانات المتميزة للأنترنيت وشبكات الأعمال في التخطيط والتنظيم والتوجيه والرقابة على الموارد، والقدرات الجوهرية للشركة والآخرين بدون حدود من أجل تحقيق أهداف مشتركة" كما عرفها د/علاء عبد الرزاق محمد حسن السالمي بأنها "عملية مكننة جميع مهام ونشاطات المؤسسة الإدارية بالاعتماد على كافة تقنيات المعلومات الضرورية، وصولا إلى تحقيق أهداف الإدارة الجديدة في تقليل استخدام الورق وتبسيط الإجراءات والقضاء على الروتين والاتخاذ السريع والدقيق للمهام والمعاملات، لتكون كل إدارة جاهزة للربط مع الحكومة الإلكترونية لاحقا"، وهي عكس الإدارة التقليدية التي يعرفها د/مصطفى يوسف كافي بأنها الإدارة التي يتم تنفيذ الأعمال بالمعاملات الورقية كما هو متعارف عليه، وهذا يتطلب مستودعا كبيرا لحفظ المعاملات الورقية في ملفات ومجلدات ومكاتب"
أما المحكمة الرقمية أو المحكمة الإلكترونية فيعرفها الباحث المصري د/ هلال محمد رضوان لأنها محكمة تعتمد إجراءاتها على سجلات إلكترونية مندمجة في نظام إلكتروني داخل حواسيب ممسوكة من طرف قضاة المحكمة وكتابة ضبطها، ضمن شبكة داخلية تربط بين كافة الأجهزة والحواسيب بطريقة تفاعلية، ومتصلة في نفس الآن بالشبكة الدولية التي تتجمع فيها كافة المعلومات المتحصلة معلوماتيا من أنشطة هذه المحكمة.
وفي هذا الصدد وجبت الإشارة إلى أن المغرب ليس حديث العهد بدمج المرفق العمومي في ركب التكنولوجيا، فقد كانت البدايات مند سنة 1997 من خلال تأسيس "اللجنة الاستراتيجية لتكنولوجيا المعلومات" والتي كانت تهدف إلى تنمية مجتمع المعرفة عبر تعميم استعمال تكنولوجيا المعلومات والاتصال بين مختلف الأطراف الفاعلة في المجتمع، وهو الأمر الذي أكده جلالة الملك محمد السادس في رسالته التوجيهية الموجهة إلى أشغال المناظرة الوطنية حول "الاستراتيجية الوطنية لإدماج المغرب في مجتمع المعرفة والإعلام"، المنعقدة بالرباط بتاريخ 23 أبريل 2011 والتي جاء فيها ما يلي: "سيظل إصلاح الإدارة العمومية وعصرنتها من بين الرهانات الرئيسية التي يطرحها تقدم بلادنا، إذ يتعين أن نوفر لأجهزتنا ما يلزم من أدوات تكنولوجية عصرية بما فيها الأنترنيت لتمكينها من الانخراط في الشبكة العالمية وتوفير خدمات أكثر جودة لمتطلبات الأفراد والمقاولات"، وانسجاما مع التوجيهات الملكية في هذا الإطار فقد انخرطت معظم الإدارات العمومية المغربية، سواء المركزية أو الجهوية أو المحلية في تحديث وإصلاح الإدارة المغربية من خلال إطلاق ورش الإدارة الإلكترونية.
والمحكمة باعتبارها مرفقا عموميا يقدم الخدمة القضائية للمتقاضين والمرتفقين، انخرطت بدورها في هذا الورش من خلال الحوار الوطني لإصلاح منظومة العدالة من أجل كسب رهان المحكمة الرقيمة في افق سنة 2020 وتحقيق هدف "محكمة بدون ورق"، والذي انخرطت فيه كل من وزارة العدل والمجلس الأعلى للسلطة القضائية وباقي مكونات أسرة العدالة، في إطار التنزيل السليم لمضامين وأهداف ميثاق إصلاح منظومة العدالة، لكن وعلى الرغم من المجهودات المبذولة في هذا المجال لا تزال تطفو على السطح العديد من الإشكالات والمعيقات، تجعل من كسب رهان المحكمة الرقمية صعب المنال، وهي معيقات بشرية وقانونية، وأخرى تتعلق بالفجوة الرقمية، سنحاول تسليط الضوء على هذه المعيقات من خلال المحورين التاليين.
المحور الأول: المعيقات البشرية
يعد العنصر البشري قطب الرحى في عمل الإدارة ويعتبر موظفو كتابة الضبط أحد أهم عناصر الخدمة القضائية داخل المحاكم على اختلاف درجاتها وتصنيفاتها، بحكم الارتباط المباشر سواء مع المتقاضين أو المرتفقين أو مع باقي المهن القضائية الأخرى (كالمحامين والمفوضين القضائيين والعدول والخبراء والتراجمة..)، هؤلاء الأطر والموظفين منهم من راكم تجارب عديدة من خلال تمرسه في العديد من الشعب خلال مساره المهني أهلته لكسب كل التحديات، ومنهم أيضا موظفون ذوو تكوين علمي وتقني عال انخرطوا من الوهلة الأولى لالتحاقهم بالمحاكم في منظومة التحديث بحكم تخصصاتهم العلمية والتقنية، كما أن هناك فئة أخرى من الموظفين لم تستطع مسايرة هذا الكم الهائل من التطور التكنولوجي ولم تستطع الانصهار في هذه المنظومة التكنولوجية الحديثة، وظلوا لفترات طويلة متشبثين بالممارسة التقليدية في مسك السجلات والاعتماد على الورق في كل مهامهم، والأمر هنا لا يقتصر على الموظفين فقط بل نكاد نجزم أن فئة كبيرة من العاملين بالمحاكم لم تستسغ هذا التحول بل منهم من وقف ضد موجة التحديث والعصرنة، ربما يتعلق الأمر بالعقليات التي لم تستوعب أن التحول الرقمي لا محيد عنه وأن الانتقال من المحكمة الورقية إلى المحكمة الرقمية أمر محتم لا مفر منه، فالعمل بالمحكمة الرقمية يتم عن طريق استخدام تقنيات المعلومات والاتصال في إنجاز إجراءات التقاضي أمام المحاكم وذلك من خلال تحويل الإجراءات الاعتيادية (الورقية) إلى إجراءات إلكترونية، كما أن ملفات الدعاوى الإلكترونية تختلف بالضرورة عما هو موجود حاليا، فتزول الآلية التقليدية في التدوين لإجراءات التقاضي، وتحل محلها آليات برمجية متطورة تختلف من حيث الشكل والمضمون، كما تختلف آلية تقديم البيانات، الأمر الذي يؤدي إلى سرعة البت في الدعاوى من جهة، وتوفير الجهد والمال على المتقاضين ومحاميهم من جهة أخرى، هذا الانتقال والتحول من الورقي إلى الرقمي ليس من السهولة تكرسيه سواء لدى القضاة أو الموظفين أو حتى لدى باقي المهن القضائية الأخرى والتي بدورها يصعب على البعض منهم التعامل مع التكنولوجيا الحديثة رغم توفرها لديهم، فرغم توفر هذه الوسائل الحديثة والتي أصبحت في المتناول وتوفر عناء الانتقال إلى المحاكم لمعرفة مآل الملف أو الاستفسار عن أي إجراء، يضطر البعض إلى الانتقال إلى المحاكم للتأكد من الإجراءات، رغم اطلاعه عليها في المواقع الإلكترونية المتاحة لهذه الغاية إما بدعوى عدم المعرفة والإلمام بهذه التكنولوجيا أو بدعوى أن شبكة الأنترنيت غير متوفرة أو أنها لا تعمل جيدا أو بدواع أخرى واهية، المهم هو الانتقال إلى المحكمة والالتقاء المباشر مع الموظف للاطمئنان والتأكد وهو الأمر الذي قد يخلق نوعا من هدر الجهد والوقت للطرفين معا، فكيف يعقل أن يقوم الموظف بإدخال كل البيانات لتصبح متوفرة بشبكة الأنترنيت هو الأمر الذي يتطلب من الموظف جهدا ووقتا وتركيز، ثم يأتي إليه محام أو متقاض يسأل عن الإجراء رغم توفر لوحة قيادة داخل كل محكمة تسهل الولوج إلى المواقع الإلكترونية ومعرفة مآل الملفات وآخر الإجراءات، وذلك راجع كما أشرنا سابقا إلى مسالة العقليات التقليدية التي لا تزال تحن للورق في التعاملات اليومية ولا تجد ثقة إلا في الأوراق الموقعة والمختومة بطابع يحمل اسم المحكمة وتوقيع الموظف، ربما هي أزمة ثقة في الأنظمة المعلوماتية الحديثة، تجسدت أزمة الثقة هذه مؤخرا في إجراءات التقاضي عن بعد، خصوصا مع جائحة كورونا التي فرضت الأمر الواقع من خلال التعامل مع الوسائل الحديثة في الاتصال، حيث احتج بعض المحامين على تجربة التقاضي عن بعد بدعوى أنها لا تنسجم وضمانات المحاكمة العدالة ولا تحقق مبدأ حق الدفاع، ربما التجربة لا تزال حديثة العهد لدى الجميع وينقصها بعض الوقت لتنضج أكثر.
ومن أوجه هدر الجهد والوقت أيضا نجد ازدواجية المهام حيث هناك من لا يزال يسجل الإجراءات في السجلات الورقية والسجلات الرقمية، وهذا أيضا هدر للجهد والوقت، هذا التغير السريع في تقديم الخدمة القضائية عن بعد يجد فريق معارض له وفي هذا السياق ذهب بعض الباحثين إلى القول إنه ينبغي أن يكون التغيير متكاملا والأداء منسجما، وأن تتم إعادة تنظيم شاملة للخدمات والأدوار، وذلك لأن إدارة الخدمات التي تقدم عبر الأنترنيت لها خصوصيتها ومقوماتها التي تختلف عن الإدارة التقليدية لمثل هذه الخدمات.
في المقابل يري بعض المتتبعين للشأن القضائي أن وزارة العدل لم تهيئ الأرضية الصلبة لإنزال سليم للعصرنة والتحديث، رغم التجهيزات المتطورة المتوفرة بالمحاكم (تزويد المكاتب بأجهزة الحاسوب والطابعات وأجهزة الخادم والربط بشبكة الإنترنيت وتزويد القضاة بالحواسيب المحمولة لتسهيل تحرير الأحكام وطبعها...)، إذ كان على وزارة العدل قبل الاستثمار في التجهيزات أن تستثمر في العنصر البشري وتؤهله ليواكب كل هذا الزحم التكنولوجي والإعلامي الهائل، الذي نزل بوثيرة متسارعة إذ على الرغم من بعض الدورات التكونية المتفرقة في صفوف القضاة وموظفي المحاكم ،إلا أنها لم تستطع تغطية الحاجة الملحة إلى التكوين التكنولوجي والإعلامي وخصوصا في التعامل مع جهاز الحاسوب والأنظمة والبرامج الحديثة المثبتة وشبكة الإنترنيت أمام التزايد المتسارع لسياسة التحديث التي نهجتها وزارة العدل، كما أن التكوين لم يشمل باقي المهن القضائية الأخرى لتنخرط بدورها في هذا التحول الرقمي، ربما كانت غاية وهدف الوزراء السابقين هي تحقيق السبق في الإعلان عن الانتقال إلى المحكمة الرقمية، فكل وزير كان يمني النفس بأن يسجل هذا السبق والإنجاز باسمه الخاص إبان توليه وزارة العدل.
هذه المعيقات البشرية ساهمت بشكل كبير في تعطيل الانتقال الحقيقي نحو المحكمة الرقمية، إلا أن المعيقات القانونية كان لها الدور الأكبر في ذلك أمام غياب ترسانة قانونية تؤطر العمل بهذه الوسائل الحديثة إضافة إلى الفجوة الرقمية التي خلفت هوة كبيرة بين المحكمة والأخرى.
المحور الثاني: المعيقات القانونية والفجوة الرقمية
تشكل الترسانة القانونية الدرع الواقي وصمام الأمان لكل الإجراءات داخل المحاكم بمختلف درجاتها وتصنيفاتها، فالنظام القانون هو الذي يؤطر عمل هذه الأخيرة، وفي هذا الصدد يشير الباحث ذ/الخامس فاضيلي، إلى أن نظام العدالة الرقمية يجد قواعد قانونية في القانون 05-53 المتعلق بالتبادل الإلكتروني للمعطيات الإلكترونية، هذا القانون الذي حدد النظام المطبق على المعطيات القانونية التي يتم تبادلها بطريقة إلكترونية وعلى المعادلة بين الوثائق المحررة على الورق وتلك المعدة على دعامة إلكترونية وعلى التوقيع الإلكتروني، ويحدد النظام القانوني المطبق على التوقيع الإلكتروني المؤمن والمشفر وكيفية المصادقة الإلكترونية، هذه المقتضيات التي ستساهم لا محالة في تنزيل نظام العدالة الرقمية في بلادنا، ومن جهة أخرى، فإن العدالة الرقمية باعتبارها نظام معلوماتي تخضع للقواعد الحمائية المنصوص عليها في القانون رقم 03-07 المتعلق بالجرائم الواقعة على نظم المعالجة الآلية للمعطيات، إذ عمد المشرع في هذا القانون إلى مواجهة الأفعال الجرمية المنصبة على المعلوميات، وهي جريمة الدخول أو البقاء غير المشروع في نظام المعالجة الآلية للمعطيات أو في جزء منه مع النص على ظرف مشدد، إذا نتج عن الدخول أو البقاء حذف أو تغيير أو اضطراب في سيره، وجريمة عرقلة سير نظام المعالجة الآلية للمعطيات والإخلال به، وجريمة إدخال معطيات في نظام المعالجة الآلية للمعطيات أو إتلافها أو حذفها أو تغيير المعطيات أو طريقة معالجتها أو طريقة إرسالها وجريمة التزوير أو التزييف المعلوماتي.
وما دامت المحكمة الرقمية تتضمن معطيات وبيانات خاصة شخصية، فهي بذلك تخضع للقانون رقم 08.09 المتعلق بحماية الأشخاص الذاتيين تجاه معالجة المعطيات ذات الطابع الشخصي، والذي عهد إلى اللجنة الوطنية لمراقبة حماية المعطيات ذات طابع شخصي مسؤولية السهر عليها، مما يتطلب العمل على تحصين الأنظمة المعلوماتية وتأمين الخوادم بهدف تحقيق الحماية للمتعاملين في ميدان العدالة، ولتعزيز هذه الحماية فقد حرص المشرع المغربي وانسجاما مع التوجه نحو حوسبة كل الإجراءات وضمان وحماية حقوق المتقاضين، وبعدما أفرز الواقع العملي أن التبليغ العادي يعتبر العائق الأكبر وراء البطء في البت في القضايا وكذا تنفيذها والذي من شأنه أن يؤثر على مردودية وجودة العمل القضائي، لذا كان لزاما على المشرع المغربي أن يتدخل لإقرار طرق جديدة وحديثة للتبليغ وهو ما تأتى من خلال مشروع قانون استعمال الوسائط الإلكترونية في الإجراءات القضائية في إطار مسلسل إصلاح منظومة العدالة بالمملكة الذي أسفر عن إصدار ميثاق وطني من بین أهدافه الرئیسیة العمل على رقمنة المحاكم واعتماد الإدارة الإلكترونية، وذلك للقضاء على سلبيات الوسائل التقليدية في التبليغ التي أثبتت عدم نجاعتها وفعاليتها لحل هذه المعضلة، ويرى الباحث بوبكر بهلول، أن هدف المشرع المغربي من خلال اتباع هذه المسطرة هو ضمان تبليغ الاستدعاء للشخص تبليغا شخصيا في حسابه الإلكتروني، مباشرة بشكل آمن دون عناء التنقل أو التكاليف، وهذا من شأنه أن يقلل من أعباء وضغوطات العمل على المكلفين بالتبليغ وهو ما أكده وزير العدل محمد بنعبد القادر، بالقول إن مراجعة قانون المسطرة المدنية ستتضمن العديد من المستجدّات التي ستسهم في التغلب على المشاكل المطروحة أمام إجراءات التبليغ، منها اعتماد التبليغ الإلكتروني، الذي سيحقق المزيد من الفعالية والشفافية في هذا الشأن، وفي السياق نفسه فقد تم تتمیم الفصل 41 من قانون المسطرة المدنیة بثمانية بنود إضافية، تناولت التبليغ الإلكتروني وذلك بالتنصيص على إحداث منصة إلكترونية رسمية للتقاضي عن بعد تتولى تأمين عملية التبادل اللامادي للإجراءات بین المحامین ومحاكم المملكة بما يضمن موثوقية المعطیات المضمنة وسلامة الوثائق وأمن وسریة التبادلات الإلكترونية وغيرھا، ومن أجل ضمان التبليغ الإلكتروني، فرض مشروع القانون على أصحاب المھن القضائية من محامين ومفوضين قضائيين وخبراء إنشاء حسابات إلكترونیة كما افترض توفر الإدارات العمومية على عناوين إلكترونية في حين ترك لباقي الأطراف الحرية في الإدلاء بعناوينهم الإلكترونية.
ومن بين مستجدات المشروع الجدید أنه أتاح للطرف المدعي إيداع المقال الافتتاحي لدى كتابة الضبط على حامل ورقي أو عبر النظام الإلكتروني المعد لهذه الغاية وفق الكیفیات التقنية بمقتضى نص تنظمي (الفصل 31 من المشروع)، كما أتاح إمكانية الأداء الإلكتروني في جميع الأحوال التي تستوجب تأدية وجيبة قضائية أو إيداع مبلغ بما في ذلك المصاريف التي تتطلبھا إجراءات تحقيق الدعوى (الفصل 528 من المشروع)، وھي إمكانية من شأنها تخفيف العبء على الأطراف ودفاعهم وتجسيد مبدأ القرب عمليا.
من جانب آخر فقد ساهمت الفجوة الرقمية بدورها في تعطيل المحكمة الرقمية، وقد ظهر مصطلح الفجوة الرقمية في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1990، من خلال تقرير وزارة الخارجية الشهير تحت عنوان "السقوط من فتحات الشبكة" والذي لفت الانظار إلى الفارق الكبير بين فئات المجتمع الأمريكي في استخدام الكمبيوتر والأنترنيت، خصوصا الأمريكيين السود والنازحين من أمريكا اللاتينية، وفي هذا الصدد يشير الباحث الكويتي نبيل علي إلى أن مفهوم الفجوة الرقمية سرعان ما اتسع ليتجاوز النطاق المحلي لينتشر استخدامه عالميا، ويعرفها الباحث الفرنسي Michel Elie من خلال كتابه Le fossé numérique الصادر سنة 2001 بأنها: "اللامساواة أمام إمكانيات بلوغ المعلومة (والمساهمة فيها) والمعرفة والشبكات، وكذا الاستفادة من مقدرات التنمية الهائلة التي توفرها تكنولوجيا الإعلام والاتصال، هذه العناصر هي الأجزاء البارزة للفجوة الرقمية التي تعكس مزيجا من العوامل السوسيواقتصادية الواسعة، لا سيما عدم كفاية البنى التحتية والتكلفة العالية للبلوغ وضعف الإنتاج المحلي للمحتويات والقدرة اللامتساوية للاستفادة، على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، من أنشطة شديدة الكثافة بالمعلومات" وبتعبير آخر فالفجوة الرقمية هي الفجوة أو الهوة بين الذين بمقدورهم استخدام الأنترنت عن طريق امتلاكهم المهارة اللازمة والقدرة المادية وبين الذين لا يستطيعوا استخدام الأنترنت، نعطي مثالا على ذلك على سبيل الحصر من خلال تجارب المحاكم المغربية، فالمحكمة التجارية بمراكش كانت أول محكمة في المغرب قامت بتطبيق برنامجا إلكترونيا يمكن الشركات من حجز مواعد خاصة بإيداع قوائمها التركيبية طبقا لمقتضيات المواد 95 و108 و110 من القانون رقم 5.96 والمادتين 158 و388 وما يليها من القانون رقم 17.95، وأول موعد تم حجزه كان بتاريخ 15/ 05/2013، وللإشارة فقد أحرزت وزارة العدل والحريات، يوم الخميس 12 نونبر 2015، جائزتين حول الإدارة الإلكترونية وذلك في إطار الدورة التاسعة للجائزة الوطنية للإدارة الإلكترونية، التي تنظمها وزارة الوظيفة العمومية وتحديث الإدارة وهو نفس النهج الذي سارت عليه المحكمة التجارية بطنجة، من خلال تجربة استخراج السجل التجاري إلكترونيا، وفي نفس السياق أيضا وفي إطار تفعيل التقاضي عن بعد وما فرضته ظروف جائحة كرونا من ضرورة التباعد الاجتماعي، فقد دشنت المحكمة الابتدائية الاجتماعية بالدار البيضاء نظام الجلسة الرقمية لأول مرة في تاريخ المغرب وقد لقيت استحسان أسرة العدالة، تبعتها بعد ذلك العديد من المحاكم ومن بينها المحكمة الابتدائية بالقصر الكبير، هذه التجربة تعد من بين أهم المشاريع التي تعمل وزارة العدل على تنزيلها.
لكن على الرغم من هذه المجهودات الضخمة، نجد في المقابل أن بعض المحاكم الأخرى لا تتوفر على شبكة الربط بالأنترنيت وبعض التجهيزات الضرورية الأخرى لمواكبة هذا التحول الرقمي، حتى أن أطر الإدارة القضائية يعملون في ظروف صعبة لا تمكنهم من مسايرة الركب، وهو الأمر الذي يكرس الفجوة الرقمية سواء بين المحاكم نفسها أو بين العاملين بها سواء قضاة أو موظفين أو محامين ومفوضين أو خبراء.... وبالمقارنة مع بعض التجارب الرائدة في هذا المجال خصوصا التجربة الفرنسية، فقد تم إحداث شبكة المحامين الخاصة الافتراضية (RPVA) وهي عبارة عن شبكة للحاسوب آمنة تتيح تبادل الإجراءات المدنية والجنائية بين المحامين والمحاكم، ويتم تأمين المعلومات عبر مفتاح سري يحصل عليه المحامي المشترك في الخدمة، وكذا ضمان موثوقية هذه التعاملات عبر التوقيع الإلكتروني المؤمن وشهادات المصادقة الإلكترونية، هذه التجربة الرائدة يمكن الاستفادة منها لتجويد وتطوير عمل المحامين وكسب الجهد وتسريع وثيرة الإجراءات وعدم هدر الزمن القضائي، فبالرغم من المجهودات المبذولة من طرف وزارة العدل من خلال العديد من البوابات الإلكترونية القضائية والبرامج المعلوماتية ذات الصلة وكذا التجهيزات الحديثة، إلا أن عملية إدماج الأنظمة المعلوماتية في قطاع العدالة أكثر تعقيدا مما كان متوقعا، نظرا لكثرة الإجراءات والمساطر وتعقدها في المحاكم التقليدية، كما أن تطوير وتطبيق المحكمة الرقمية سيتبعه بالضرورة تعديل وتغيير وتطويع بعض المعايير والأنظمة والقوانين التي تؤطر الممارسات القضائية بين الفاعلين الأساسين في ميدان العدل، وهذا ما أشارت إليه بعض الدراسات الأمريكية في هذا الصدد، ولعل الانطلاقة الحقيقة للمحكمة الرقمية تبقى رهينة بالمصادقة على مشاريع القوانين والمراسيم والمناشير المنظمة لها ودخولها حيز التنفيذ، كما الاستثمار في العنصر البشري ودعم التكوين المستمر في مجال الأنظمة المعلوماتية وشبكات الأنترنيت قد يساهم بدوره في تهييئ أطر إدارية وتقنية قادرة على تقديم الخدمة القضائية في أحسن جودة وفي أقرب وقت وأقل تكلفة.
إلى ذلك الحين يبقى كاتب الضبط الإلكتروني ومعه الإدارة القضائية الإلكترونية وباقي المتدخلين في قطاع العدل يتخبطون بين المحكمة الورقية والرقمية في انتظار الحسم القانوني والرقمي، وإنهاء المرحلة الورقية والانتقال نحو المحكمة الرقمية بكل ثقة.
*منتدب قضائي بالمحكمة الابتدائية بالقصر الكبير / باحث بسلك الدكتوراه


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.