تبدأ نشرة الأخبار فتُطل عليك وجوه ألفتها: تقدم، تعلق، تصف، ثم تتصل أو تستضيف اسما أو أسماء لمن يوصفون بالخبراء، فالحدث الجلل يتطلب محللين بالمستوى نفسه. سُحْناتُ الضيوف جدية، لا يبتسمون بدون سبب، يتحكمون في حركات أيديهم، وعيونهم؛ يرافقهم هدوء من يرغب في رسم انطباع الجدية في أذهان من يشاهد، أو يستمع..عندما يُسْأَلون يشرعون في الأجوبة موظفين أرقاما، ومصطلحات، ومفاهيم، ومحيلين على دراسات عادة ما يصفون مصادرها ب"الموثوقة"، أو يجعلونها خلاصات لمراكز بحث وتقارير إستراتيجية، وقد يعارضهم أحد المدعوين مزايدا بمرجعيات أخرى. يقف المشاهد، أحيانا، عاجزا أمام فك طلاسم تباينات التحاليل وتناقضها، فما إن يغير القناة حتى يجد الموضوع نفسه يحلل من قبل وجوه أخرى تُظْهِر، هي أيضا، الجدية والموضوعية، وتتكلم بحساب، وتبتسم بحسابات. قد تقود الفطنة هذا المشاهد إلى التمييز بين نمطين من المدعوين (الخبراء): النمط الأول، نمط المحللين الذين يتقيدون بموضوعية نسبية، فيحللون بناء على ما يمتلكون من معلومات ومعطيات، ويفسرون البياضات بتأويلات يقيدونها بشروط السلامة الضرورية، ويعبرون عن تحفظهم عندما لا يمتلكون ما يساعد على وصف، أو فهم، أو تحليل، فيحولون ملاحظاتهم إلى تساؤلات، واستفهامات تاركين للمشاهد أو المستمع حرية الاستنتاج؛ لأنهم لا يؤمنون بمصادرة حقه في الفهم والتحليل. أما النمط الثاني فيظهر سعيدا بصفة الخبرة التي تُلْصَقُ به، فيتكلم في كل القضايا والمواضيع، ويبين عن شراسة لا تضاهى في الدفاع عن فكرة، أو موقف، أو تصور، أو إجراء..شعاره في كل ذلك: حجة القوة، لا قوة الحجة؛ لكن من أين يستمد حجة القوة هذه، لا أحد يدري؟ ولو درى، ما تناسلت أمة المهللين هذه. المهللون أمة ترفض التقيد بمواثيق أخلاقيات المهن، وتتكلم خارج معايير المعرفة العلمية التي من ضمن شروطها الموضوعية، ولو في نسبيتها المطلوبة، وحتى (حراس البوابة) المتوافق عليهم لدى الإعلاميين يعجزون عن متابعتهم، أو فهمهم.. إنهم خارج التصنيف، وخارج الأخلاق بمعناها النبيل.. مستعدون لرفع مزامير التهليل، مصيبين التحليل الرصين في مقتل؛ لكنهم فرحون بما لديهم وبما كسبوا، فهم يحتلون الشاشات، ويسيطرون على المسموع، أما المكتوب فإنه مازال شبه متمرد عليهم؛ لأن منطقه الحجاجي والاستدلالي والأسلوبي يعوزهم. آفة المهللين أنهم ينتهون بسرعة، لذلك يتم تجديد وجوههم بتغييرها، وتعديلها، ودفعها إلى أن تُنْسى كي تأتي وجوه أخرى مستعدة لارتداء القناع، ولعب لعبة المسخ الذي لا يدوم، ورفع ضجيج أصوات التهليل بدرجة أعلى.