في الجزيرة العجيبة الغريبة الأعجوبة المعزولة، امتد الحصار على الرجل ما يكفي لينساه الناس، و ما الناس سوى غوغاء لا يتذكرون و لا يتابعون سوى أخبار المطبلين المهللين ممن باعوا ضمائرهم جملة و تفصيلا، و الدليل أنهم يتكلمون في الجزئيات و لا يتطرقون أبدا للأساسيات. و الإعلام خائن كما تعلمون. و أما الغوغاء فغوغاء. المتحكمون باعوا الوطن و وجدوا جحافل من المرتزقة لمساعدهم على الخيانة و كل الخيانات. لم يعد الماء ماء الشعب، فلقد تم بيعه. لم يعد الكهرباء كهرباء الشعب، فلقد تم بيعه، كما بيعت الطرقات و كل مواقف السيارات. كل شيء تم بيعه. بخلاصة شديدة، لقد تم بيع المنزل و الآن هم يبيعون الأثاث، فصار الوطن كله ملك لمن اشتراه. لم يعد الوطن وطن الشعب لأن الشعب لم يعد يمتلك الوطن. العقد شريعة المتعاقدين، و بما أن الوطن فوّت باسم الشعب فلا سبيل للقيام بأية مراجعة. الشعب إذا باع الوطن فأصبح ضيفا ثقيلا على مالكي الوطن الغرباء الجدد. ولكن لا مصداقية في التحامل على مالكي الوطن الجدد لأنهم طيبون. نعم، طيبون لأنهم لم يقيموا دعوة قضائية لإخراج الشعب من الوطن الذي اشتروه. حقيقة هم بحاجة لعبيد من أجل خدمتهم، و لغوغاء من أجل استعمالهم، و لفقراء من أجل التصدق عليهم بفتات موائدهم، و لكن كل هذا لا ينفي على مالكي الوطن الجدد طيبوبتهم. لقد فهم الشعب بأن لا حق له لا في البكاء على الأطلال و لا في استنكار فقدانه للوطن الذي لم يعد ملكه، و الدليل فراغ قاعات النضال من الحضور الذي لم يعد له وجود سوى في قاعات التطبيل و التهليل التي تمتلئ دائما عن آخرها. و أما التهليل و التطبيل فهو فن الكلام في الجزئيات و تجنب الكلام في الأساسيات. بعبارة أخرى، التهليل و التطبيل هو خيانة الأمانة عن معرفة و دراية و عن سابق إصرار و ترصد. قال هؤلاء الذين يخرجون التفاؤل الكاذب من العدم بأن المادة لا تهم و بأن المهم هو امتلاك الأفكار و العقيدة و الفلسفة. ولكن، لم تعد لا الأفكار و لا العقيدة و لا الفلسفة ملكا للشعب، فلقد تم بيعها جميعها بالجملة. الأفكار و العقيدة و الفلسفة ملك لمن اشتروا الوطن. فلا أفكار سوى أفكارهم، و لا عقيدة سوى عقيدتهم، و لا فلسفة سوى فلسفتهم. كان هذا شرط بقاء الشعب على الأرض و إلا تم إفراغه منها بقوة القانون الذي تم بيعه هو أيضا لمن اشتروا الوطن. لم يعد للشعب لا فكر و لا عقيدة و لا فلسفة، لقد تم بيع كل شيء. قاعات الفرح الحزين ممتلئة عن آخرها و قاعات النضال المرير فارغة على عروشها. هذه إرادة مالكي الوطن الجدد. أو ليس هذا من حقهم لأن الوطن أضحى وطنهم لهم لوحدهم لا لغيرهم؟ قاعات النضال المرير الغبي فارغة على عروشها لأنها أسقطت البسملة من أعلى مواقعها، و قاعات الفرح الحزين ممتلئة عن آخرها لأن البسملة تعلوا جدرانها. المناضلون أرادوا الصدق بلا بسملة فنالوا تعاسة الدنيا و الله يعلم بوضعيتهم في الآخرة، و المطبلون المهللون رفعوا شعار البسملة انتهازية و وصولية فنالوا سعادة الدنيا و الله يعلم بوضعيتهم في الآخرة. المناضلون من أهل الدنيا -والله أعلم- ولكنهم تعساء فيها، فلا إقبال عليهم و لا نجاح لهم و لا فلاح. المطبلون المهللون من أهل الدنيا أيضا -و الله أعلم- ولكنهم يبسملون فيسعدون بنيلهم الإقبال و النجاح. سيسأل المناضلون على تعنتهم في رفض النطق بالبسملة، و لكن المهللين المطبلين سيسألون على صدق نية بسملتهم و ثمة الخطر، و كل الخطر عليهم لوحدهم لا على غيرهم. الحمد لله الذي أوجد الآخرة حيث لا نفاق و لا كذب و لا مناورة و لا ظلم لحيوان و لا لإنسان. الحمد لله على نعمة الموت لما يشتد العذاب. و الحمد لله الذي ينظر لما في القلوب. أفسد المهللون المطبلون كل شيء، الأفكار و العقيدة و الحياة، و اجتهدوا في الإفساد فتاه الشعب الذي لم يعد له وطن، فصار شعب غوغاء نصفه أصيب بالحمق و نصفه الآخر أصيب بالوهن. شعب غوغاء تائه متشعب متفرق، و لكنه يتجمع كلما سمع المزامير تدعوه لتأدية كل ما تم سلبه و نهبه قبل أن يتم بيع الوطن. يسمع شعب الغوغاء صوت المزامير فيلبي النداء و يهرول لتأدية ثمن حمقه و هوانه و بيعه للوطن. و في الأخير، جاء كبير المهللين المطبلين ليعلن منع معاش أصحاب الواحد و العشرين بعد أن كان قد أصدر قرار منع النزهاء الشرفاء منهم من العمل و التألق فيه، و كيف لأصحاب الواحد و العشرين أن يطالبوا بالتألق في العمل من أجل الوطن أو أن يطالبوا بحقوق ليست حقوقهم، فالوطن لم يعد وطنهم بعد أن تم بيعه لمالكيه الغرباء الجدد الذين اشتروا أيضا القانون و كل الحقوق. لا بياض و لا ألوان. وحده السواد الأعظم في الأفق. ذبلت الزهور و كل الورود، و انطفأت الشموع، و اسودت المصابيح. إنه ليأس عظيم. لا حياة لمن تنادي. لا حق و لا عدالة و لا أمل. كل القلوب ميتة في الجزيرة العجيبة الغريبة الأعجوبة المعزولة. يا لطيف.. مات الرجل يوم جمعة. فاللهم ارحمه و اغفر له، فلم يكن من المطبلين المهللين الذين باعوا الوطن ببسملة كاذبة، و اللهم اهدي المناضلين للنطق بالبسملة الصادقة، و انصر اللهم المسلمين الصادقين. و الله أعلم و الحمد لله وحده لا شريك له.