الموضوعية الكاملة في الكتابة والتحليل السياسي أمر مطلوب ومستَحَب ولكنها بعيدة المنال، وهي في ذلك تشبه الصِدق في السلوك البشري العام، الكل يدعيه ويرغب به ولكن تبقى الأمور نسبية. ويقصد بالموضوعية تحليل الظواهر والأحداث السياسية بعيدا عن الموقف المُسبَق للباحث والمحلل السياسي وعدم التحيز لمصلحة مادية أو سياسية ضيقة والتزام الموضوعية. انطلاقا من ذلك، لو قام باحثان أو أكثر بتحليل موضوع سياسي أو اجتماعي ما ستكون النتيجة المتوصل إليها واحدة. عمليا، الموضوعية تبقى نسبية، وخصوصا في مجال البحث الاجتماعي والسياسي؛ فدائما توجد فجوة كبيرة بين تصورات وفهم المحلل السياسي للواقع والواقع ذاته، كما أن الحقيقة نسبية دائما ولا توجد حقيقة مطلقة إلا الله – حتى على هذا المستوى فالله حقيقة مطلقة عند الذين يؤمنون به فقط، وهناك من لا يُقر بهذه الحقيقة- وعندما تكون الحقيقة نسبية فلا يجوز لأحد، وخصوصا في التحليل السياسي والاجتماعي، أن يدعي امتلاك الحقيقة أو أنه موضوعي بالكامل. من جهة أخرى، فإن مجال البحث والتحليل السياسي مليء بالألغام والشِراك، والباحث أو المحلل السياسي إنسان له أهواء ونزعات ومرتبط بمصالح وأهداف متعددة، كما لا يمكنه عند تناوله لموضوع اجتماعي سياسي ما أن يُلم بكل عناصر الظاهرة أو الموضوع محل البحث باستقراء كامل نظرا لتعدد المتغيرات الفاعلة في الظاهرة، كما أنه محكوم بمحددات الزمان والمكان وهامش الحرية المتاح له؛ وهذه أمور متغيرة ومتبدلة. الباحث بوعي منه أو بدون وعي سيجد نفسه يعبر عن موقف ما، يؤيده أو يرفضه، وحتى وإن اتخذ موقفا محايدا في قضية مختلف بشأنها، فإن حياده يعد موقفا بحد ذاته؛ لذا فإن التحيز لقضية ما أمر وارد، وليس بالضرورة أن تكون لكل الباحثين والمحللين الاجتماعيين والسياسيين الرؤية نفسها والموقف ذاته ويتوصلوا إلى الخلاصات عينها، فهذا يتنافى مع حرية الرأي والتعبير والتعددية الفكرية والسياسية، ومن حق كل باحث أن يدافع عن فكرة أو حزب أو أيديولوجية أو قضية وطنية أو قومية يؤمن بها. ولكن التحيز أو الشطط في التحليل المنافي للموضوعية هو ذلك الناتج عن فعل إرادي يقوم به الباحث قصد تشويه الحقيقة بهدف التَكسب وابتغاء مصلحة خاصة، أو تلبية لميول أيديولوجية ضيقة، أو سعيا وراء الشهرة الإعلامية. أما أن يتوصل إلى نتيجة مختلفة عن النتيجة التي يتوصل إليها باحث آخر، فإن هذا الاختلاف لا يعتبر تحيزا أو منافيا للموضوعية، فالحقيقة الاجتماعية لها عدة وجوه، وقد اعتبر أوسكار لانجه في كتابه "الاقتصاد السياسي" أن: "الخلافات في الرأي طبيعية تماما في تطور العلم؛ إذ إنها تنبثق عن الطبيعة الجدلية للمعرفة، حيث يتكون الفكر الإنساني من خلال التفاعل المتبادل بين الإنسان والواقع المحيط به، فالمعرفة تتطور من خلال التعارض بين نتائج المشاهدات والتجارب الجديدة والأفكار والنظرية العلمية القائمة من قبل". وعليه، فإن تعدد الآراء لا يشكل أي تعارض مع الموضوعية العلمية لأن التعددية هنا صراع من أجل الوصول إلى الحقيقة. أما التحيز أو انتفاء الموضوعية عند المحللين والباحثين السياسيين، فهو التحيز الذي يُبعد الباحث عن فهم الواقع على حقيقته عمدا، وإن كان يفهم الواقع فإنه يتعمد إعطاء صورة عنه على خلاف حقيقته، والخطورة عندما يلجأ المحلل السياسي بوعي أو نتيجة جهل إلى لي عنق الحقيقة وتجاهل الوقائع على الأرض بهدف تحقيق مصالح شخصية أو لخدمة جهات خارجية تريد تشويه الحقائق خدمة لأغراضها الخاصة. إن كون الباحث جزءا من الظاهرة محل البحث – مثلا الأصولية، الديمقراطية، الإرهاب، الطبقية، الربيع العربي، الانقسام الفلسطيني، الخ - يؤثر ويتأثر بها لارتباطه بموضوع بحثه سواء على مستوى الوضع العائلي أو جنسه أو وضعه الطبقي أو انتمائه القومي أو الحزبي. كل ذلك يحد من ضمان نقاء الوعي أو حياده بالكامل، لأنه كإنسان يميل بطبعه إلى إسقاط وضعه الاجتماعي أو مصلحته على الأفكار، فتكون نتائج البحث متحيزة لا تعكس بالضرورة واقع الظاهرة المبحوث فيها، بل تعبر غالبا عن رؤية الباحث لهذا الواقع. انطلاقا مما سبق، فإن الالتزام بالموضوعية يبقى أمرا نسبيا ومجمل التنظيرات في المجال السياسي هي أقرب إلى الافتراضات ووجهات النظر أو أحد جوانب الحقيقة وليست كل الحقيقة، وكل مَن يزعم أن تحليله أو بحثه، حتى وإن التزم بشروط البحث العلمي، تحليلا موضوعيا يطابق الواقع والحقيقة هو مجرد زعم يحتاج إلى تمحيص، لأن الباحث الاجتماعي والسياسي غير منفصل عن الظاهرة التي يبحث فيها وله موقف مسبق منها سلبا أو إيجابا، وهذا ما دفع مفكرا كجان بياجه إلى القول بأن الباحث السياسي والاجتماعي أو من يقول بأنه عالم في هذا الشأن: "ليس أبدا عالما خالصا لأنه دوما مرتبط بموقف ما فلسفي أو أيديولوجي وبخصوصيات اجتماعية، وملتزم بالمحايثة الاجتماعية". والخلاصة نتمنى على كل باحث أو محلل سياسي أن يكون متواضعا في الحكم على نتائج بحثه وتحليله، ويستلهم مقولتين لعالِمين ومفكرين كبيرين؛ الأول العربي المسلم الإمام الشافعي (150-204 ه /767-820 م) عندما قال: "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب"، والثاني الكاتب والفيلسوف الفرنسي فولتير (21 نوفمبر 1694 – 30 مايو 1778) عندما قال: 'قد أختلف معك في الرأي ولكني مستعد أن أدفع حياتي ثمنا لحقك في التعبير عن رأيك". [email protected]