كثر الجدل في الآونة الأخيرة حول التصوف، وكم هو سهل أن تقول ان التصوف بدعة أو دجل، والأسهل منه أن تردد ما ردده الجمهور :' التصوف كلام فارغ '.. وليس الباحث كالمقلد، ولا المحب للحقيقة كالمردد للإشاعات، فتعال، يرحمك الله، نبحث عن التصوف عند أهله، معهم حيث هم، مع وردهم اليومي وتلاواتهم وأذكارهم وإشاراتهم وعباراتهم وتنبيهاتهم، عسى أن ندرك الحقيقة، ونبتعد قليلا عن الجدل والأحكام الجاهزة والإتهامات التي تفوح منها رائحة العدم ..لا الوجود، والتعالي.. لا التواضع، والدوغمائية لا الحوار، والمادة ... لا الروح ! واعلم، أيها الباحث .. أن دخول بحار الصوفية صعب.. صعب جدا ، ولا تسل إلا مجرب! التصوف فن الوصول إلى الله قال البشر بن الحارث الحافي المتوفى ببغداد سنة 227 هجرية: الصوفي هو من صفا لله قلبه. يا ألله ؛ هي أولى الأمواج يا سادتي ..' من صفا لله قلبه ' ! وكيف نجعل القلب صافيا لله في زمن غلبت المادة الإنسان .. واختلط فيه الصفاء بالكدر والموج بالغبار، والملح بالماء،.. والبحر لم يبدأ بعد بإيقاظ أمواجه العاتية، فتأتي موجة جامعة لامعة اسمها: الصفاء .. وهل هناك دلالة أخرى للتصوف أعمق منه، وقريبة من دلالة 'الصوفي' هناك المزيد .. والمزيد من تعريفات الصوفية للتصوف.. وان كان دربنا مليء بالأسرار! لما سئل الجنيد عن التصوف قال : ' هو أن يميتك الحق عنك ويحييك به ' .. وبتعبير آخر: إفناء الله الإنسان بإرادته سبحانه، ودفعه إلى العمل بإرادته الخاصة وإختياره الأحدي. تعابير قوية نجدها عند الصوفية في تعريف التصوف، مثل 'الفناء في الله' و' البقاء بالله '، وغيرها كثير.. أكثرها إشارات تبتعد عن العبارات بمدلولها المادي لدى المتخيل الجمعي للناس. وفي أعالي ' التلال الزمردية ' للأستاذ فتح الله كولن نقرأ عن التصوف ما يلي : 'والتصوف طريق مفتوح إلى المعرفة الربانية وعمل دائب جاد، لا محل فيه للهزل واللامبالاة واللهو والعبث. وكيف يكون ذلك، فأساسه يستند إلى تشرب شَهْد المعرفة الإلهية وانتقاشها في القلب، كالنحل غاديًا ورائحًا بين الخلية والزهرة.. وتطهير القلب من الأغيار.. وفطام النفس عن ميولها الجبلّية.. وإخماد الصفات البشرية بالانغلاق التام تجاه الرغبات البدنية والجسمانية.. والبقاء دومًا متفتحًا أمام الروحانيات وإمضاء عمره على خطى سيد الأنام صلى الله عليه وسلم.. والتخلي عن مراداته لأجل مرادات الحق سبحانه.. واستشعاره بحضوره تعالى لمعرفته أن الانتساب إلى الحق سبحانه أعظم مرتبة '. 14 15 . والمتصوفة هم المنطلقون في مدار العلم بحثا عن الوصال بأجنحة المعرفة. منطلقون ب'لاحول ولا قوة إلا بالله ' في سفر لا نهاية له؛ سيرا إلى الله، وفي الله، وعن الله.. جادون في سيرهم وسلوكهم وزهدهم .. هكذا يصبح التصوف هو فن الوصول إلى الله، وربما أسفر هذا الوصول كما قال الأستاذ أحمد بهجت عن جذبة تعتري العقل فإذا العقل ذاهب ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.. أو أسفر عن عشق يدعو إلى الجنون فإذا الصوفي يصرخ « ما في الجبة غير الله» .. وإذا السيوف والنعال ترتفع إلى رأسه .. وربما أسفر هذا الوصول عن ثبات في الدين وتمكن في العقيدة. الصوفية أهل الحب اختلفت طرق الصوفية في التذوق لكنهم اتفقوا جميعا على زاوية رؤيا واحدة : الحب . انهم أهل الحب، يرون أنهم يحبون الله كما لا يحبه أحد .. والمحبة الحقيقة كما عرفها لنا الأستاذ فتح الله كولن في التلال الزمردية تتحقق بتوجه الإنسان بكيانه كله إلى المحبوب سبحانه والبقاء معه، وإدراكه له وانسلاخه من جميع الرغبات الأخرى ومن جميع الطلبات، بحيث إن قلب البطل الذي ظفر بهذه الحظوة ينبض كل آن بملاحظة جديدة تخص الحبيب.. وخياله يجول في إقليمه الساحر.. ومشاعره تتلقى كل لحظة رسائل متنوعة منه.. وإرادته تحلّق بهذه الرسائل.. وفؤاده يسرح في متنزهات الوصال. فإذا ما سار سار بأمر الحق سبحانه، وإذا ما وقف وقف بأمره، وإذا تكلم تكلم بنفحات منه، وإذا ما سكت سكت لأجله، فهو أحيانًا في أفق "بالله" وأحيانًا في أفق "من الله" وأحيانًا في أفق "مع الله " .. قال الله عز وجل مخاطبا عموم المؤمنين في سورة آل عمران :« إن الله يحب المتقين » .. الآية 76 وقال عز وجل في نفس السورة :« والله يحب المحسنين » .. الآية 147. وقال عز وجل في سورة البقرة : « والذين آمنوا اشد حبا لله » .. الآية، 165. وقال عز وجل في نفس السورة: « إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين » .. الآية، 222. الحب عند الصوفية .. بحر عميق، بل هو بحار عميقة، ومع أهل الحب حيث هم .. نلتقي إن شاء الله صفحة الكاتب على الفايسبوك