قال الله تقدست أسماؤه: "يا أيها الذين ءامنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون" [سورة الاَنفال، الآية:24]. ما الذي يحول بين المؤمنين والاستجابة لله والرسول إذا دعاهم لما يحييهم؟ وما الذي يمنع القلوب من الاتصال بالله؟ وما الذي يحول بينها وبين معرفته والإيمان به والأنس به؟ علما بأنه تبارك وتعالى بر ودود، قريب مجيب، كما قال عز من قائل: "وإذا سألك عبادي عني فإني قريب اجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليومنوا بي لعلهم يرشدون" [سورة البقرة، الآية: 186]. ما سبب الفتور والضعف والوحشة التي نشعر بها في علاقتنا بالله جل وعلا؟ لعله الصدأ والرجس والزيغ والطبع والران والطغيان والأهواء والحجب الكثيفة التي تتراكم على القلب، كما قال سبحانه: "كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون" [سورة المطففين، الآية: 15]، وقال جل جلاله: "كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون" [سورة المطففين، الآية: 14]، وقال: "وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يومنون إلا قليلا" [سورة النساء، الآية: 154]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم"، والختم هو الطبع والتغطية، بحيث يصير من اتصف بذلك لا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا، ولا يتأثر بحق، فكأنه يغطى على وسائل وعيه و إدراكه. والجهد المطلوب لإحياء هذه القلوب وصقلها من الصدأ والران، يختلف من شخص لآخر بحسب كثافة الحجب ونوعها وكثرتها؛ فالقلب النقي الصفي يمكن أن نشبهه بالكنز المدفون في باطن الأرض الذي يختلف مكانه من شخص لآخر، فقد يجده بعضهم على مقربة منه، وقد يحتاج آخرون إلى جهد أكبر وزمن أطول للوصول إليه، ولقائل أن يقول: كيف يعرف أحدنا أنه وصل إلى كنزه، وتخلص من حجبه؟ وأقول إن القرآن الكريم أجاب على هذا السؤال في عدة مواطن، وبين العلامات التي يستدل بها المرء على عودة الحياة إلى قلبه؛ فمنها قوله تعالى: "أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها" [سورة الاَنعام، الآية: 122]. وعن ابن مسعود قال قلنا يا رسول الله قوله تعالى: "أفمن شرح الله صدره للاِسلام فهو على نور من ربه" [سورة الزمر، الآية: 22]، كيف شرح الصدر؟ فقال: إذا دخل النور القلب انشرح الصدر وانفتح"، قالوا وعلامة ذلك الإنابة إلى دار الحق، والتجافي عن الدنيا، والأمر بالعدل، واجتناب الظلم، وفعل الخيرات، وترك المنكرات، والاستعداد للموت قبل نزوله، ومن العلامات كذلك: وجل القلوب عند ذكر الله كما قال سبحانه: "إنما المومنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم" [سورة الاَنفال، الآية: 2] والوجل هو الخوف والاضطراب، وخفقان القلب وذلك من أمارات وجود الحياة فيه. ومن العلامات أيضا: الخشوع لأن الله تعالى قال: "ألم يان للذين ءامنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الاَمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون" [سورة الحديد، الآية: 16] وخشوع القلب خضوعه وهبوطه، وذلته وانكساره، "وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا"، أي سكنت، ومنه وصف الأرض بالخشوع "ومن ءاياته أنك ترى الاَرض خاشعة فإذا اَنزلنا عليها الماء اهتزت وربت" [سورة فصلت، الآية: 39]. ومن علامات حياة القلب: أن صاحبه يجده حاضرا معه عندما يريده ويستدعيه، وهذا ليس قاصرا على الصلاة أو قراءة القرآن أو الذكر فحسب، بل متى أراده وجده رقيقا خاشعا نابضا بمعاني الحياة ودلائلها. ومن العلامات أيضا: الإحساس بحلاوة الإيمان؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقده الله منه كما يكره أن يلقى في النار" [كتاب الإيمان، صحيح مسلم] قال الحسن البصري: "تفقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة، وفي الذكر، وفي قراءة القرآن؛ فإن وجدتم وإلا فاعلموا أن الباب مغلق" ويمكنكم أن تتفقدوا هذه الحلاوة في موطن آخر وهو [المناجاة أو الدعاء]؛ فإن الدعاء مخ العبادة، وسر الصلاة وروحها، ولكن إذا خلا القلب من الحياة يصبح الدعاء ترديد كلمات بلا معنى، ويشعر صاحب هذا القلب بثقل لسانه، فإذا ما رفع يده بالدعاء سرعان ما يقبضها، وإذا أحرم بالصلاة سرعان ما يتحلل منها، وتراه يزدحم مع المزدحمين على الباب. فمن علامات الحياة في القلب: شعور الإنسان بالقرب الحقيقي من ربه جل وعلا، ويستدل على ذلك كما قلت عند الدعاء والمناجاة والذكر. ويزداد هذا القرب يوما بعد يوم حتى يصل إلى درجة الأنس به سبحانه، والتلذذ بمناجاته، وترقب مواعيد الخلوة به... فإذا تمكن الإنسان من هذا فتح له باب حلاوة العبادة، حيث لا يكاد يشبع منها، ويجد فيها من اللذة والراحة أضعاف ما كان يجده في لذة اللهو واللعب ونيل الشهوات، حتى إنه إذا دخل في الصلاة ود ألا يخرج منها، ثم يفتح له حلاوة الاستماع إلى كلام الله تبارك وتعالى فلا يشبع منه، وإذا سمعه هدأ قلبه كما يهدأ الصبي إذا أعطي ما هو شديد الحب له. إن أساس الاستجابة لله هو وجود الدافع الإرادي الذي ينطلق عادة مما نحب أو نكره، فالمريض الذي يجهد لتناول دواء مر، أو أخذ علاج قاس؛ ما الذي يحمله على ذلك؟ إنه الرغبة في الصحة وكراهية المرض؛ فمدار أفعال الناس تنطلق أولا من الدافع الإرادي. كما قال جل وعلا: "ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم، وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون" [سورة الحجرات، الآية: 7]. وعن أبي أسامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله، فقد استكمل الإيمان". وإذا ما تعارض حبان لشيئين مختلفين أمام الشخص؛ فإن الحب الأقوى والأشد هو الذي ينتصر في نهاية المطاف، "والذين ءامنوا أشد حبا لله" [سورة البقرة، الآية: 165] والإيمان الراسخ هو الإيمان الذي مرت عليه الليالي، وشجرته تسقى بماء الحب الشديد لله، وتلقح بلقاح الطاعة والأدب معه، وتنظف مسالكه إلى القلب من أضداده ونواقضه، وهي المشار إليها في قوله تعالى "وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان" [سورة الحجرات، جزء من الآية: 7]. فلنجتهد في الرغبة إلى الله بمطاوعة أمره، والاستجابة لندائه. اللهم إننا نعلم أنك أقرب إلينا من حبل الوريد، ونعلم في ساعتنا هذه وفي كل ساعة بأنك ترانا، وترى قلوبنا ومكاننا، فيا رب أين هيبتنا من سلطان قربك، وحياؤنا من نظرك، وأين خوفنا منك ورجاؤنا، اللهم طالما فتنتنا فيما مضى، فبجلالك لا تفتنا فيما بقي، وارزقنا من الاعتراف بذنوبنا وعيوبنا والمعرفة بها، ما يعيننا على التوبة من كل ذنب وعيب، واجعل لنا ذلك الطلب في ورع، وذلل لنا ذلك بالعمل، وأوصلنا بك إليك، يا من لا يوصل إليه إلا به. آمين، وإلى لقاء قريب.