السياسة كما يذهب إلى ذلك الكثير من متفلسفة الفكر السياسي تتأسس في جزء كبير منها على قاعدة توفير أسباب مقنعة لحب الأرض الجامعة لأهلها تحت شرعية كيان يُسمى دولة و يُطلق عادة على هذه الأرض الجامعة وطن. ولعل ما ينقص الحقل السياسي المغربي بالضبط هو ساسة يُوفرون لأبناء الوطن الواحد أسبابا لحب هذا الأخير الذي لا يبدوا من خلال الممارسة السياسية القائمة منذ عقود سوى غنيمة تتوافق حول تقسيمها القوى السياسية التي هي أقرب إلى لوبيات منها إلى فرقاء سياسيين يحملون مشاريع مختلفة يعتقدونها الكفيلة بإحداث نهضة في البلاد. أن ترى في وطنك مأوى و ملاذا و عزاءا ومشروعا يُمكنك من إعطاء معنى لمسيرتك و حركتك و يجعلك تُدركه وسطا يتطلب جهدا و عملا ليكون أهلا لاستقبال أبنائك و أبنائهم ...ذلك هو المطلب الذي من المفترض أن تكون السياسة في خدمته، و بهذا المطلب فقط نستطيع الحديث عن الاختلاف والاتفاق وتيارات للمحافظة و أخرى للتغيير و ثالثة لغير ذلك، لكن في ظل ممارسة سياسية لا ترى في الحكم غير كعكة ولا في المسؤولية غير راتب شهري سمين ولا في السلطة غير فُرَصٍ سانحة للنهب فالحديث عن الفرقاء السياسيين و التيارات هو من باب إطلاق طفلة على دُمَاها أسماءا تتظاهر بالحوار معهم وتغيير حفاظاتهم: توظيفٌ للكلام من أجل لعب لعبة "الدار" كما يسميها الصغار، في انتظار أن يكبروا ليعيشوا "الدار" بدل لعبها. ذلك ما آلت إليه السياسة عندنا قبل الربيع العربي وبعد هذا الحدث الفريد تبدّى سؤال الوطن الذي سلط الضوء على حلكة الواقع السياسي عندنا فانكشف أمره كما ينكشف حال سارق بليل حين مباغتته بالأضواء. سؤال الوطن وجد جوابا سريعا في البلاد بخروج حركة العشرين من فبراير للاحتجاج على كل أولئك الذين يريدون أن يبقى الوطن موضوعا لإشباع نزواتهم و أطماعهم و تعطُّشهم للثروة و السلطة الخدم. أن ننتقل من مفهوم الوطن-الكعكة لمفهوم الوطن-المصير المشترك ذلك ما حرك شباب العشرين ابتداءا. لقد انكشف مع حركة الربيع العربي حال الأنظمة العربية التي ليست في جوهرها سوى نُظما ظاهرها غرب الحداثة وحقيقتها غرب الفيودال باقتصاد الريع و العطايا و المحسوبيات. كان لحركة العشرين اليد الطولى في إيقاف مسار سياسي للبلد كان ينحو جهة الحكم المطلق للفساد و جعَلت النظام يُعيد ترتيب أوراقه بتنظيم انتخابات هي الأولى من نوعها التي "تتنزَّه" الداخلية عن التدخل المباشر فيها تاركة مهمة إفسادها لأحزاب الوطن-الكعكة، ليس فقط بشراء الذمم و لكن كذلك بالسمسرة في اللوائح الانتخابية و تسخير الأعيان لاغتيال السياسة و تكثير سواد أحزاب لا تهتم سوى بحجم نصيبها من غنيمة "الحكم". على الرغم من كل ذلك كان من نتائج الانتخابات فوز حزب العدالة و التنمية بالأغلبية وكان عليه أن يختار حلفاء لتكوين حكومة تكون فاتحة عهد جديد مختلف في جوهره عن مرحلة التناوب: مهمة التناوب كانت هي العمل على توفير ظروف آمنة لانتقال المُلك من الراحل الحسن الثاني إلى ولي عهده لكن مهمة الحكومة الحالية و نظرا لظروف نشأتها هو توفير الظروف اللازمة لانتقال السلطة من الملِك إلى المؤسسات المنتخبة. كان القياس أن "يلتقط" الحزب تفاحه من الشجرة مباشرة حتى لا يقع على تفاح فاسد ولكن و لغياب أي شجر في الجوار تحالف الحزب الفائز مع الحزب الفاشل في تدبير المرحلة الماضية و مع بقايا أحزاب يستهويها ضوء مصباح الاستوزار، و لم يكتف الحزب الإسلامي بتلك الكبوة المبكرة بل أضاف إليها زهده في حقوقه الدستورية بأن اقترح وزراء سيادة المخزن كما تخلى عن "خزائن الأرض" لحزب "النجاة" بعد أن أعلن تمسكه الشديد بها، لم يمنع ذلك المسارُ رئيس الحكومة من أن يعلن استعداده لمقاومة جيوب المقاومة و كأنه لم يع أن ما قام به منذ توليه منصبه مسطور في جدول أعمال جيوب المقاومة. بدأتُ المقال بالتساؤل عن معنى السياسة و دلالة الوطن و أُنهيه بالحديث عن أحوال رئيس حكومت"نا" التي جعلته يتقلب في مقامات ليست منه و ليس منها، فكيف يصح الحديث عن سياسةٍ و وطنٍ وهذا "الرئيس المنتخب" يخال نفسه وكيل نيابة و يتهم جزءا من الشعب بلا بيِّنة بمحاولة تقويض المؤسسات ثم ينتحل صفة عسكري ويُهدِّد هذا الجزء من الشعب و كأنه يتوعد أعداءا خارجيين، كما أنه ينسج على منوال من قبله ممن حاولوا جاهدين طمر بؤس شعوبهم بنسبة صرخات هاته الشعوب لجهات معادية، و بدل أن نمضي إلى الأمام لبناء الثقة و الأمل نناضل من أجل إطلاق صراح المظلومين في تازة و فكيك و تطوان و...و نحسِب تلك نعمة توجبُ شكرَ المُنعم. وإنَّ من أكثر آليات الاستبداد تحيينا جعلُ الشعوب تكابد من أجل الحفاظ على ما بها من بؤس أو حتى النضال من أجل استعادة هذا البؤس. لي اليقين بأن تصريحات هذا الرجل أحزنت إخوة في "العدالة و التنمية" و في "الإصلاح و التوحيد" قبل جماعة "العدل و الإحسان" و لعل البعض سيتعذر بأن السيد بنكيران لم يستقرَّ بعد في "مقام" رئاسة الحكومة و لا يبدوا من كثر لغطه و غلطه أنه سيفعل، و اعتقادي أن من حق الإخوة في "العدل و الإحسان" أن يرفعوا دعوى قضائية بالقذف على السيد بنكيران بعد الاتهام ودعوى بعدم التعرض بعد التهديد. ولكن لا إخالهم يفعلون حتى لا يشغلوا السيد الرئيس عن حربه المقدسة ضد الفساد و الاستبداد.