لن يخوض هذا المقال في تفاصيل "مقولة المؤامرة" من زاوية الجذور والامتدادات البنيوية المركبة؛ لأن ذلك يحتاج إلى دراسات ومناظرات مستفيضة، ولكنْ سنثير قضيتين مهمتين نرى أن لهما بالغَ الأثر في ما يعرفه الخطاب السياسي المغربي من تراجع على المستويين الخُلُقي والسياسي. لقد حظيت المقولة المذكورة، على امتداد تاريخ الشعوب الإسلامية، بحُضور لافت للانتباه، واحتل الحديث عنها حيزا مهمّا في حياة الأفراد والشعوب؛ فتم بموجبها تبرير سلوكيات سياسية، وتسويغ مسارات ومصائر، وصياغة نظريات لتفسير التاريخ، بل لم يتردد كثير من المؤرخين والإخباريين العرب والمسلمين في استدعائها لتبرير الحروب التي قامت بين المسلمين، أو تلك التي نشبت بينهم وبين أعدائهم من الأمم الأخرى. وعلى نهجهم، سار دارسون معاصرون، لم يسْلموا من بريقها الأخاذ، ولم يقدروا على الفكاك من إغرائها الخادع للعقول والبصائر؛ فوضعوا إخفاق الأمة الحضاري في سَلّتها، وردُّوا تخلفها عن رَكب التقدم إلى ذوات تتآمر عليها في الخفاء وفي العلن، وتنصب في طريقها المتاريس والأشراك وما إليها من مثبِّطات الهمم. إن الحديث عن هذه المقولة يملك راهنية بالنظر إلى ديمومتها التاريخية، وتجذرها في الوعي الجمعي والفردي لمختلف الفئات الاجتماعية. ومَن أراد أن يقف على تجلياتها في حياة النخب العربية ، فلْيكفِه الالتفات إلى الخطابين الصحافي والسياسي؛ ليقف على شُيوع ثقافة المكائد والدسائس، وغلبة منطق تذويب العقبات، وشخصنة المشاكل والصعوبات أما الذي لم يُفْحِمه المثال والدليل، فما عليه إلاّ أن يتأمل قليلا ما يتسرب من بعض المؤسسات الرسمية، ذات الصدى والسلط المركزية (برلمان، مجالس مؤسسات، جامعات...)؛ لأن ذلك يقوم شاهداً على انتشار عدوى هذا التبرير الاختزالي بين كل فئات المجتمع، وتوضّح بجلاءٍ أن هذا الداء لم يستثنِ فئة دون غيرها، طالما أنه قد استمسك واستولى على أفهام كثير من الجامعيين، الذين يُفترض فيهم أن يكونوا في مقدمة موكب "العلم"، وفي طليعة المُنادين بإعمال العقل، لا مجاراة السيل والعامّة. وقد كتب الباحث المغربي القدير "عبد الله حمودي" في موضوع "مقولة المؤامرة" ، وسعى، بما أُوتِيَ من حصافة ورصانة، إلى فهم العقل الحضاري العربي؛ فأدرك بأن المسمّيات الحديثة؛ من قبيل "الأحزاب" و"الجمعيات"... ليست سوى نسخ باهتة من أشكال التنظيم التقليدي التي عرفتها البلدان العربية على امتداد تاريخها، وكشف، بالدليل والحجة، أن سرعة الانتقال إلى ضفة التحديث عندها بطيئة جدا؛ لذلك، يجب ألاَّ ننخدع بتاتا أمام بريق الأضواء والتكنولوجيا والتسميات؛ فنحن ما زلنا في بداية الطريق، ولم نبتعد عن ديار الآباء والأجداد إلا ببضع خطوات. إن هذا الكلام يفسر، إلى حدّ بعيد، فشل النخب العربية في تجاوز عقلية "المؤامرة"؛ لأنه يوضح أن الاعتقاد بها لا يعدو أن يكون جزءا من تمثلات نكوصية كثيرة تعيق مسيرة التحديث المأمولة؛ تمثلات منغرسة في تربة اللاوعي الجماعي، وصور وتفسيرات خرافية للأحداث والوقائع، وسلوكات تقليدانية مغلّفة بغلاف حداثي، علاوةً على فعل ثقافي وتعليمي يكرس التفكير الماضوي، ويزكّي أزمة القيم، ويؤخر أي مشروع نهضوي منشود. وهذا قول معقول يستحق أن نفصّل فيه الكلام تفصيلاً؛ كي لا يُساء فهم رأينا بخصوص هذه المقولة. إننا لا ننفي، بكل تأكيد، وجود هذا "الآخر" نفيا مطلقا، ولكننا نرى أنه من العَتَه والجنون أن يستمر الحديث عن كل إخفاق بلُغة التآمر، وأن نسترسل في كَيْل التهم يمينا وشمالا عند كل هزيمة أو نكسة طارئة؛ لأن نظير هذا السلوك الإنهزامي في صلبه، يقفز على الأعطاب والإشكاليات، ويتركها على حالها، بل ويزيد من حِدّتها كثيرا. ولا حاجة إلى التذكير، هنا، بكُلفة الإصلاح والعلاج التي ترتفع كلما تأخر تشخيص الداء، وطلب الدواء. إن بناء المستقبل على أسس متينة يقضي، باختصار، التأسيس لفكر نقدي يقْطع مع هذه المقولة البئيسة؛ لأنها من مخلّفات الانحطاط، ومن أمَارات التخلف والخنوع للآخر، الذي تدّعي الأمة مسؤوليته عن تراجعها التاريخي. ومن هنا، وَجَبَ أن نضع حدّا لكل منطق تبريري ينآى بالذات عن دخول دروب المسؤولية. والطريق إلى ذلك يمر، بالضرورة، عبر مؤسسات التنشئة الاجتماعية التي تُعِدّ الخلف.. نحن في حاجة، إذاً، إلى نهضة ثقافية تأتي من بين أسوار المؤسسات التعليمية والجامعية؛ لأنها الوحيدة القادرة، من خلال تطوير مُخْرَجاتها، على إحداث الرَّجّة اللازمة للقطيعة مع مِثل هذه المَقُولات التبريرية؛ ومن ثَمَّ التأسيس لثقافة العمل، والنقد الذاتي، وتحمل المسؤولية. كثيرا ما سمعنا عن وقوع مجتمع من المجتمعات ضحية للمؤامرة، وكأنه هو الوحيد الذي استرعي انتباهَ الأمم الأخرى في سلب مُقَدَّرَاته ونهْب خيراته وتدمير بُناه الأساسية ومؤسساته الحيوية. تأتي الظاهرة بأقنعة متعددة تَتَّحِد كلُّها في صورة نمطية؛ التبعية...العولمة...إلا أن المٌلفت للانتباه أن هذه الوصفةَ وإن كانت أكثرَ ارتباطاً بدول العالم الثالث خصوصا أثناء فترات الانتكاسة والهزيمة، فهي عالميةُ الانتشار، لم تسلم منها حتى الدولُ المتقدمة، ولنا في وباء "كورونا" خيرُ مثال على ذلك، حيث لم تَسلَم هي الأخرى من تهمة المؤامرة، ولا زلنا لحد الآن لم نتبيَّن حقيقةَ وجودها بين ظهْرانينا بين كَوْنها فيروساً أو مؤامرةً من منظمة الصحة العالمية كما يذهب إلى ذلك السيد "ترومب" رئيس الولاياتالمتحدة الأميركية، لكن المجتمع الدولي فطِن للُّعبة، وعِوض إضاعة الوقت في تبادل التهم، نآى بنفسه عن هذه الشبهات كلِها لينكبَّ جاهداً في البحث عن بدائلَ لإنقاذ البشرية وإعادة التوازن إلى المجتمع الدولي. لا يسوغ لنا أن نتخذ من المؤامرة شمَّاعةً لتعليق كل الأخطاء في سبيل التنصل من المسؤولية، وتقييدها ضد المجهول كما في المحاضر القضائية، دون تقديم دلائلَ واضحةٍ على مثل هذه (المؤامرات) ومن يحيكها؟ وضد من؟ وما فائدة الجهة المتآمرة منها؟ وكيف يتم تقديم الشروط لدحضها وفكِّ خيوطها لإبطال مفعولها؟ تلكم أسئلةٌ تبقى عالقة بدون تعليق، إلا إذا تمَّ تقزيمُ حجمها وتغييبُها عن مشهد الأحداث الراهنة. إن وصفةً كهذه لتبدو جاهزة لتبرير كل فشل وتعليل كل إخفاق، دون إجهاد العقل في البحث عن أسباب جذرية لهذه العوائق، وكأنها أساطير معاصرة تهمُّنا نتائجها ولا نألو جهدا في تبرير مصداقيتها على أرض الواقع. حتى وإن سلَّمنا جَدلا بأن هناك مؤامرةً تُحاك ضد شعوب كثيرة كحالتنا، فما العمل؟ وكيف التعامل مع الوضع في ظل هذه الظاهرة الغريبة؟ هل نقف أمامها مشدوهين لا نعلم من أين نبدأ في غياب البديل؟ ونظل نندب حظنا أو نشق جيوبنا كما فعلت نساء الجاهلية الأولى حين بَكَيْنَ فقيداً لهُن، فالوضع يقتضي والحالة هذه، أن نَعلم في يقين تام بأن هناك ثغراتٍ وحالةَ ضعف نمر منها، ففرضية المؤامرة وإن كانت، فنحْن الذين تآمرنا مع أنفسنا ضد أنفسنا، فلو أُسْندتِ المسؤولياتُ إلى أصحابها؛ كلٌّ من موقعه، هذا أستاذ في فصله، وهذا طبيب في عيادته وهذا مهندس في ورشته وهذا مدير في مؤسسته، لسُدت الثغراتُ وتكاملت المهام بما لا يسمح بأي خلل يتسلل إلى جسد الأمة، عندئد لا تنْطَلي علينا نظريةُ المؤامرة، ولن يكون هناك موطنُ ضعفٍ يَسمح لأصحاب المكائد والدسائس بالتسلل إلينا لتمريرها بيننا. وختاماً، فعلى النخب الثقافية من كل الأطياف، التنبُّهُ إلى مثل هذه المزالق التي تتسبب في التراخي الفكري والتسليم بالفرضيات الجاهزة دون إعمال ملكة العقل والبحث في الدوافع العميقة وراءَ ما أصابنا من انتكاسات حضارية وإخفاقات ثقافية، لسد الثغرات أمام تسَلُّل كُل الأفكار التي تُسلّم بوجود مكائدَ أو مؤامراتٍ في مجتمعاتنا، في غياب أية محاولة لتقوية مناعتنا الحضارية وتمتين لُحمتنا الاجتماعية، حتى لا نكون تلك الشاةَ القاصيةَ التي يَستغل الذئبُ انعزالَها عن القطيع للفَتك بها. *أستاذ التعليم العالي / جامعة محمد الأول وجدة