كان حلمي منذ مدة ليست بالهينة أن أختلي بنفسي ثلاثين أو أربعين يوما في مكان قصي بعيدا عن روتين الجري اليومي وراء عادات الاستهلاك و بين دوامات الضجيج و أبواق السيارات و زحمة الناس و الاختناق في الشوارع بفعل التلوث و الاحتباس الحراري و تقلبات الفصول المدهشة و المخيفة في الآن نفسه. كان حلمي أيضا الابتعاد عن إدمان الآلات و سطوة التكنولوجيا و اختراقها الهائل لحياتنا المعاصرة. مضت أيام قليلة من مارس 2020 و فوجئت مثل الملايين من حولي بالإعلان المفاجئ عن حالة الطوارئ احترازا من تفشي الوباء القاتل. في البداية، شعرت بهول الصدمة. يا إلهي كيف لي أن أحتجز في البيت ثلاثين يوما قابلة للتمديد و أنا الرجل الحر الطليق المولع بالحركة و المقاهي و الاسفار ؟ إنه أمر شديد الصعوبة و لم أجربه في حياتي مرة واحدة، لكن هذه المرة من واجبي أن أنسجم مع أحلامي القديمة و أكون صادقا مع نفسي. لماذا في نظركم ؟ دعوني أعترف أن هذه فرصة ثمينة جاد بها القدر للاختلاء بالنفس و إعادة تنظيم الوقت و ترتيب الأولويات و تخلية الذهن من التوتر و تجلية الروح مما علق بها من صراعات و هموم الحياة اليومية. خلال الأيام الأولى للحجر العالمي، كانت وحشية أخبار موت الآلاف من حاملي الفيروس القاتل في العديد من الدول أشد كثيرا من وحشية الوباء نفسه. هذا الطاعون الجديد أربك جميع الحسابات و أعاد توزيع أوراق الكوتشينة البشرية على هواه... ها هو يطيح باقتصادات أعتى الدول و أقواها و يستعبد الأحرار فارضا عليهم المكوث في البيت، و يعبث بسعر البترول، و يكون سببا مباشرا في تسرب اليأس إلى أرواح الملايين جراء الجمود و فقدان موارد العيش و الخوف من شبح الموت المحدق بنا هنا و هناك. إن إصرار البعض على اعتبار الطاعون الجديد حدثا عابرا في التاريخ المعاصر أكذوبة القرن، و إصرار البعض الآخر على كسر الحجر المنزلي بالخروج و مخالطة الأغيار تحت مسمى الحرية الفردية.. إن ذلك يعادل مهمة من ينتحر بإرغام نفسه على اغتراف الموت من دلو يفيض بالسموم. و مرت الأسابيع الأربعة الأولى من مسلسل الكابوس المستجد، و قررت السلطات تمديد فترة الحجر الصحي ثلاثين يوما إضافية. و ردد أكثر المتحمسين لهذا القرار غير المستغرب في ظل تفشي الجائحة : "خيرا إن شاء الله. لم نبرأ وحدنا من آلام الهرولة في الشوارع ليل نهار جريا ورا السراب و مظاهر الاستهلاك الفج و المادية الطاحنة، لكن ثقب الأوزون بنفسه التأمت جروحه و بدأ يتماثل للشفاء، ناهيك عن ملايين الحيوانات البرية التي نعمت بالحرية و الراحة بالتوازي مع احتجاز أكثر من نصف سكان الأرض في المنازل ! أوه ! أيها الطاعون الجديد، أيها المارد، أيها الشرير القاتل، الخفي عن الأنظار، العابر للقارات، الفتاك، القاهر لاقتصادات و حكومات أعتى الامبراطوريات، يا من يحلق فوق فوهة الجحيم.. كيف نجحت في إصابة الكوكب الأرضي بالشلل ؟ كيف أنهيت المصافحة و تبادل القبلات و العناق الفطري بين بني البشر ؟ كيف ألزمتهم بالتباعد و توخي الحذر، و كيف كممت الأفواه، و رميت بسهمك القاتل الملايين فاتكا بمئات الآلاف من الأرواح ؟ ما الذي فعله هذا العالم المسكين حتى يسلط عليه طاعون مدمر مثلك ؟ أيها الوباء القاتل، انك من مسرحيات الرعب و قصتك مضمخة بدماء الحزن، لكنها تثير الالهام في نفوسنا و تمنحنا جرعة مكثفة من الأمل.. نعم، الأمل في عالم أفضل تعطى فيه الأولوية للصحة و البحث العلمي و التعاون الدولي لمكافحة النوازل و الجوائح. إن قصتك لم تنته بعد، و لكنها البلسم الشافي من الأوهام.. أوهام العظمة و الجبروت البشري، فالعظمة فقط للخالق، ملك الملوك و رب الأرباب. إن قصتك طويلة يئن لها الملايين من الألم، لكن الأمل بين ثناياها يتوهج، و هي تجعلنا نقول : " البشرية مثخنة بالجراح، لكن الفرج قريب، لأن اليسر يولد حتما من رحم العسر، فلماذا نركن لليأس؟ أملنا لا حدود له في معجزة ربانية تطهر من الآثام وجه الأرض". فرج الله قريب، فلماذا نركن لليأس ؟ هذا هو السؤال الحاسم الذي سنطرحه على أنفسنا في هذا الزمن العجيب.. زمن التغريدات العاصفة لملايين الخاملين على فيسبوك و تويتر. هؤلاء الذين لا يتحركون من أماكنهم أشخاص عوضوا الفعل بالكتابة، و الكتابة بنشر الصور و مشاركة الشائعات عوض التفكير المتأني قبل التواصل مع الآخرين. فرج الله قريب، و لا مجال لليأس، فقصة الطاعون الجديد (التي لم تنته فصولها بعد)، هي في الوقت ذاته قصة أكبر كارثة صحية و نكسة اجتماعية و اقتصادية يعرفها التاريخ المعاصر. لكن بطولة بني البشر تكمن في تقبل ما يحصل و المحبة الحكيمة لما هو كائن، مع التحلي بالأمل في مستقبل أفضل. إن الفعل البطولي لبني البشر يكون بطوليا بالفعل عندما يجعلنا نرى إمكانية وجود عالم أفضل في غياهب الظلام، و انطلاقا من حالة وجودية يكاد يلوح فيها كل شيء خرابا في خراب.. * خبير التواصل و التنمية الذاتية