لا يستطيع الأدب أن يعالج الوباء أو يلملم الجراح، بيد أنه ينير الدروب من خلال القصص والأحداث التي يصورها لنا، فنستلهم منها الخطط، ونستخلص العبر. فلطالما احتلت الأمراض مكانه بارزة في الآداب العالمية، بدءا بالأوبئة والآفات ومرورا بالسل ووصولاً إلى الإيدز أو السرطان، الذي كان بمثابة أرض خصبة للعديد من المؤلفين الرومانسيين منذ أواخر القرن الثامن عشر. ولقد عانى كل عصر من العصور من ويلات الجوائح والأوبئة والآفات. وأحرزت تيمة الأوبئة والجوائح على الدوام نجاحاً كبيراً في الأدب، كما في السينما. ونظرا لما يعيشه العالم اليوم، جراء وباء كورونا المستجد، ارتأينا أن نعالج في هذا المقال - على سبيل المثال لا الحصر - بعض الأعمال الأدبية التي عالجت الأوبئة عبر فترات تاريخية خلتْ. وفي هذا الصدد، نستهل موضوعنا بكتاب "العمى" Esnaio Sobre a Cegeira للكاتب البرتغالي جوزيه دي سوزا ساراماغو José Saramago، الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1998، والذي تحدث فيه عن وباء غريب أصاب معظم أهل مدينة مجهولة بالعمى الأبيض، أتاها على حين غرة، ولم يعرف سببه، ما خلف رعباً في نفوس الناس قاطبة، وتسبب في فوضى عارمة، واستوجب تدخل السلطات للحد منه. إذاك تدخل الجيش محاولاً تطويق الداء، فتم حجر العميان في مكان قذر، ما زاد الطين بلة. وكان من بين من انتقلت إليهم العدوى أحد الأطباء الذي أتاه أحد المصابين إلى عيادته، فأصابه الوباء، ثم انتشر بين المرضى كسيران النار في الهشيم، ولم تنج منه سوى زوجة الطبيب التي أصيبت بنوع آخر من العمى؛ ألا وهو العمى الأخلاقي والفكري. أما بوكاتشيوGiovanni Boccaccio (1313م/ 1375م) فوظف دراما الطاعون الأسود في روايته "ديكاميرون" Decamerón. ويبدأ الكتاب بوصف الطاعون الدبلي، أو الطاعون الأسود.. وباء مدمر ضرب أوروبا في القرن الرابع عشر الميلادي، وقتل ما يقرب من ثلث سكان القارة العجوز؛ ويروي فيه عشرة شبان وسبع نساء وثلاثة كهول مئات الحكايات، عندما لجؤوا إلى بلدة على مشارف مدينة فلورنسا، هربا من الوباء. إن هذا العمل ليس مجرد قصة عن تلك الأوقات العصيبة فحسب، بل كان من بين مواضيعه الرئيسية الحب والذكاء البشري والثروة، فضلاً عن الإثارة والمأساة. ويروي لنا ألبرت كامو، الحائز على جائزة نوبل عام 1957، في رواية "الطاعون"، على لسان شاهد عيان، قصة وباء ضرب مدينة وهران في الجزائر.. عواقب عزلة مدينة بأكملها، إذ سلط الضوء على أفضل وأسوأ ما يحمله كل مواطن من مواطنيها: مخاوفهم، وخياناتهم، وفرديتهم، فضلا عن تضامنهم، وتراحمهم، وروح التعاون مع الآخرين في الأزمات. وبذلك تصبح رواية مثيرة، جمة الفكر، وتقدم فهماً عميقاً للإنسان، كما تصور كيف تم إغلاق هذه المدينة إغلاقا تاماًّ لعدة أشهر، حيث تفشي وباء أودى بحياة عدد عظيم من قاطنيها، وهو ما حدث على أرض الواقع هناك في القرن التاسع عشر. ونلاحظ أوجه الشبه في هذا العمل الأدبي مع ما يجابهه العالم اليوم جراء تفشي فيروس كورونا المستجد، الذي هلك عددا هائلا من الأنام في كل بقاع الأرض. وتعد رواية "الطاعون" لألبرت كامو واحدة من أكثر كلاسيكيات الأدب الفرنسي بلا منازع في كل عصوره، وواحدة من أكثر الروايات قراءة. وعام 1826، نُشرت ولأول مرة رواية "الرجل الأخير" (The Last Man) للأديبة البريطانية الشهيرة ماري شيلي Mary Shelley. ويروي الكتاب قصة عالم مستقبلي (2073) دمره وباء غريب، إذْ تدور أحداث الرواية حول أناس يناضلون من أجل البقاء في عالم يكتسحه الوباء، وكان هناك رجل يصارع من أجل إنقاذ عائلته من خطر الوباء الجسيم، غير أنه في نهاية الرواية يفقد أهله ليبقى الناجي الوحيد من شر الجائحة. هذا وتعرضت الرواية لانتقادات شديدة وقتذاك، وبقيت مجهولة الهوية حتى أعاد المؤرخون إحياءها في الستينيات من القرن الماضي لما ارتقى أدب الكوارث. سنة 1827، أبصرت النور رواية "الخطيبان" (I promessi sposi) للكاتب الإيطالي Alessandro Manzoni، وتحكي قصة رينزو ولوسيا، التي جرت أحداثها بين لومبارديا وميلانو بإيطاليا؛ حيث إنه يوم زفافهما قامت عصابة تابعة لأحد النبلاء، كان يدعى دون رودريغو، بمنع الزفاف، بدعوى أن سيدهم يريد الفتاة زوجاً له... وبعد تعرضهما للاضطهاد من قبل النبيل رودريغو وزبانيته، التجأت لوسيا إلى أحد الأديرة في منطقة مونتزا، أما رينتزو فلاذ بالفرار إلى بلدة برغامو. إذاك اجتاح الطاعون الأسود المنطقة وتفشى بسرعة ومات خلق كثير، لكن رينتزو نجا من الوباء العظيم، والتقى بمحبوبته لوسيا في لازاريتو وتزوجا وأقام الزفاف في نهاية المطاف... وتعتبر هذه الرواية اللبنة الأولى للرواية الإيطالية الحديثة، كما تعد إلى جانب الكوميديا الإلهية لمؤلفها دانتي أليغييري أهم عمل في الأدب الإيطالي، وأكثر الروايات دراسة في المدارس الإيطالية. أماَّ أحداث رواية "أيام الطاعون"Los días de la peste للمؤلف البوليفي إدموندوباس سولدان , Edmundo Paz Soldán (نُشرت في عام 2017 )، فتدور في سجن يُدعى لا كاسونا، في بلد مجهول /غير محدد في أمريكا اللاتينية، وتسرد مغامرات وتصورات ثلاثين شخصية تنتمي إلى جميع أطياف الاجتماعية. وتتميز الرواية ببيئة خانقة وقمعية، قذرة وعنيفة، حيث تتفاقم الأزمة فور الإعلان عن تفشي وباء يسبب أزمة سياسية. السجن كصورة مصغرة، بشخصياته (حراس وسجناء وأقارب) وعلاقاته المتشابكة، صورة عن العلاقات الاقتصادية والجنسية والاجتماعية، كتجسيد لمجتمع منحل وخرافي لا يعرف كيف يواجه الأزمة. بعد هذا الجرد الموجز لبعض وأبرز الأعمال الأدبية التي تناولت الأوبئة والجوائح عبر القرون، حسبنا أن نختم هذه الورقة بواحدة من أبرز الروايات الواقعية الخيالية في أدب أمريكا اللاتينية، ألا وهي رواية "الحب في زمن الكوليرا" El Amor en los Tiempos del Cólera، وهي واحدة من أعظم أعمال غابرييل غارسيا ماركيز الحائز على جائزة نوبل. ونُشرت الرواية لأول مرة باللغة الإسبانية عام 1985، وتعالج التغيرات التّي وقعت في العالم نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، من حروبٍ، ومجاعاتٍ، وأمراضٍ (الكوليرا)، في مختلف دروب الحياة الأدبيّة، والدّيموغرافيّة والاقتصادية والاجتماعية ومسك الختام أن هناك لا محالة أدباء منكبين اليوم على كتابة أعمال أدبية عن وباء كورونا، الذي شل حركة الناس ووسائل النقل البرية والجوية في العالم، على غرار ما كتب عن الأوبئة والآفات في ما مضى. ويبقى السؤال المطروح في اعتقادنا: ما هو الشكل الذي سوف يعتمده هؤلاء الكتاب في توصيف وباء كورونا العظيم، خصوصا أن الوضع الحالي مختلف عن سابقه، اقتصاديا، وتكنولوجيا...؟ وكيف ستصف أقلامهم كل ما شاهدته أعينهم من تضامن وتعاون بين أفراد المجتمع في مختلف بلدان المعمور؟..وكيف سيصورون ما أبان عنه الكثير من الناس في العالم من بطولات وتضحيات جسام في سبيل إنقاذ الموبوئين؟. تلكم أسئلة وأخرى وجب التفكير فيها من أجل صياغة أجوبة تشفي غليل الناس بعدما يتم القضاء على الجائحة فتزول الغشاوة وينقشع الغمام... *باحث في الدراسات الإسبانية البرتغالية