إن شرائع الإسلام وأحكامه لم تشرع عبثا وإنما شرعت لغايات نبيلة ومقاصد جليلة أسماها وأجلها إخلاص العبودية لله عز وجل بإظهار الخضوع التام له والاستسلام لأحكامه والانقياد لأوامره واجتناب نواهيه.. وهذا أمر عظيم غير قابل للقياس في دنيا الناس لتعلقه ببواطن الخلق وقلوبهم التي لا يعلم سرها وجهرها إلا بارئها الذي خلقها وسَوّاها.. إلا أن شعائر الإسلام الظاهرة من صلاة وصيام وزكاة وحج ذات الأركان المعلومة والحركات المضبوطة شُرعت لتربية المسلم ذكرا كان أم أنثى وتهذيب نفسه وتنظيم علاقاته.. بحيث يمكن قياس مدى تَحَقُّقِ الأثر الإيجابي أو السلبي في حياته من عدمه.. تعالوا بنا نقف مع ركن عظيم من أركان الدين بل وعموده وأساسه المتين وركيزته العظمى التي قال عنها الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن صلحت صلح سائر عمله وإن فسدت فسد سائر عمله»، نقف معها لنتبيّن بعض المقاصد التربوية الكامنة فيها ومدى تحقق آثارها في حياتنا اليومية.. هل تصطبغ حياتنا اليومية بأخلاق وقيم الصلاة؟ أم أنها تبقى حبيسة الأداء الفردي أو الجماعي في البيوت أو المساجد؟ إن الصلاة عبادة ودعاء ومناجاة للواحد الديان مليئة بالقيم التي تحتاج إلى استصحاب دائم في محراب الحياة، ومن جملة تلك القيم: أولا: ضبط الوقت، فالصلاة معلومة ومضبوطة الأوقات لا يمكن أن تتأخر ولا أن تتقدم لقول الله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا}، وكل منا يحرص على أدائها في أوقاتها المعلومة، وكم نلوم أنفسنا إن غفلنا عن وقت من أوقاتها بل وقد ينظر البعض إلى من لا يحرص على الصلاة في وقتها على أنه "ضعيف الإيمان"!! فهل لهذا المعنى العظيم أثر في حياة الناس وسلوكهم اليومي في ضبط المواعيد والمحافظة على الأوقات وأداء الأعمال كلها في أوقاتها المناسبة؟؟ إن الواقع يشهد أن عامة المسلمين غافلون عن هذا التوجيه الرباني الحكيم وإن كانوا من المحافظين على الصلوات في أوقاتها، فلا يضبطون أوقاتهم ولا يلتزمون بمواعيدهم ولا يؤدون الأعمال التي تُسْند إليهم في أوقاتها المعلومة !! حتى صار هَدْر الوقت وتضييع المواعيد أمرا مألوفا بين عموم المسلمين و أصبح غير المسلمين من مختلف الملل والنحل مضرب المثل بيننا في ضبط المواعيد والمحافظة على الوقت!! ثانيا: النظافة والجمال، فلا تصح صلاة من غير طهارة كبرى وصغرى، ولا يليق بالمسلم أن يدخل في صلاته وفيه رائحة مُنْتنة وقبيحة تؤذي من حوله من الملائكة والمصلين ونُهِيَ المؤمن أن يصدر عنه وهو في صلاته ما يُنافي النظافة والطهارة فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان أحدكم في الصلاة فإنه يناجي ربه فلا يبصقن بين يديه ولا عن يمينه»، وأمر المسلم أيضا بأخذ الزينة الكاملة والتجمل اللائق عند كل صلاة امتثالا لنداء المولى عز وجل {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} أي عند كل صلاة... إلا أن هذه القيمة العظيمة لا يتمثلها الجمهور الأعظم من أبناء المسلمين في واقعهم الحياتي، يدل على ذلك مظاهر انعدام النظافة أو قلتها التي نُصادفها في أزقتنا وشوارعنا ومؤسساتنا التربوية والاجتماعية.. والتي تؤذي شعورنا العام وتسيء لذوقنا الحضاري. ثالثا: النظام والانتظام، حيث يظهر النظام في كيفية أداء الصلاة بكل أركانها وشروطها من افتتاح بتكبيرة الإحرام وقيام لها وقراءة للقرآن وركوع وسجود وتشهد وتسليم، فلا يمكن أداؤها بعشوائية أو كيفما اتفق أو حسب ما يهواه المرء دون التقيد بهذا النظام إلا بعذر شرعي معلوم يمنحه الرخصة في تغيير الكيفية (الجلوس بدل القيام مثلا) لكن دون المساس بروح النظام أي جوهر الصلاة. أما الانتظام فيظهر عند إقامتها الجماعية، حيث ينتظم المصلون في صفوف مضبوطة مستوية بمجرد إقامة الصلاة ولو كان عددهم بالعشرات والمئات بل والملايين كما في المسجد الحرام أو المسجد النبوي؛ ولو أن بِضْع مئات اجتمعوا في غير هذا الموضع لاحتاج الأمر إلى وقت طويل ومُنَظّمين كُثْر لتنظيم حالهم !! والسبب هو أن كل فرد من المصلين يحرص على أن يصل الصف وأن لا يقطعه مخافة أن يشمله قول النبي صلى الله عليه وسلم «من قطع صفا قطعه الله»، وأن لا يختلف مع مَنْ بجانبه امتثالا لقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم «استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم»... إلا أنه -وللأسف الشديد- ما أن يُغادر المصلون صفوف الصلاة ويخرجون من أبواب المساجد.. إلا وتُصْدم بمظاهر عدة من عدم النظام والفوضى في كل مكان.. سواء في المحلات التجارية، وعند ركوب الحافلات، أو في المطارات، أو في طوابير السيارات، أو في المدارس، أو في المستشفيات... فلماذا تغيب أخلاق الصلاة في هذه المواضع؟؟ رابعا: التواضع ولين الجانب، ففي الصلاة ينتظم الجميع في خشوع وتذلل بين يدي الله عز وجل، الفقراء إلى جانب الأغنياء والعامة بجوار العلماء والرئيس قرب المرؤوس وكل الأجناس والألوان بعضها بجانب بعض.. فلا يَسْتعلي أحد على أحد ولا ينفر أحد من أحد.. ولا أحد يشعر بأفضليته على الآخر... فلا كبر ولا غرور ولا استعلاء في الصلاة بل إحساس تام بمعنى قول المصطفى صلى الله عليه وسلم «كلكم من آدم وآدم من تراب ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى» والكل يهفو إلى أن يكون ممن قال فيهم الحق عز وجل {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا}...إلا أن هذا القيم النبيلة تَضْمُر في سلوك بعض المصلين بمجرد مغادرة محراب الصلاة ويستعيضون عنها –في محراب الحياة- بالجفاء والقسوة والاستعلاء على الخلق، وكأنهم يعيشون حالة فُصام في شخصياتهم!! خامسا: طيب الكلام وحفظ اللسان، فالصلاة لا تصلح لشيء إلا للتسبيح وذكر الله وتلاوة القرآن كما وجه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الأعرابي الذي لغا في صلاته، ومنها نتعلم كيف تكون ألسنتنا رطبة بذكر الله، وفيها نتدرب كيف نُمْسك ألسنتنا ونكفها مُطْلقا عن سوء القول ومُنْكر الكلام –على الأقل- خمس مرات في يومنا وليلنا... وهذا الأثر الطيب يبدو جليا في مساجدنا فلا تكاد تسمع من المصلين إلا همسا ولا ترى منهم إلا أدبا ولُطْفا.. إلا إنه وبمجرد أن يتخطى بعضهم عتبات المسجد إلا وتسمع منه صُراخا وكلاما فَظُّاً وقاسيا وسِبابا منكرا وشتما فظيعا وينسى أو يتناسى أنه دخل – بعد هنيهة – برحمة الله حيث يقول في دعاء دخوله للمسجد "اللهم افتح لي أبواب رحمتك"، وخرج راجيا فضل الله حيث يردد في خروجه "اللهم افتح لي أبواب فضلك"!! سادسا: الاتباع والانقياد للأوامر الإيجابية، ففي صلاة الجماعة يأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نتخذ إماما ويحثنا أن نقتدي به حيث قال: «إنما جعل الإمام ليُؤْتَمّ به فلا تختلفوا عليه فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد وإذا سجد فاسجدوا»، ونهانا عن مسابقته أو مخالفته، وعلّمَنا كيف نستفتح عليه إن أخطأ أو نسي.. فقال صلى الله عليه وسلم: «إنه لو حدث في الصلاة شيء أنبأتكم به ولكن إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليتمّ عليه ثم ليسجد سجدتين»، وكل ذلك تعليم وتربية وتهذيب لأمة الإسلام في ضرورة الانقياد لأئمتها الأخيار مع لزوم التقويم والتصحيح لأمرهم عند الخروج عن الجادة أو وقوع الأخطاء في تدبيرهم.. إن الصلاة إذن، لا ينبغي أن ننظر إليها على أنها مجرد عبادة ذات ركوع وسجود وقراءة وقيام وحسب بل ينبغي أن نجعلها روحا تسري في أرواحنا نحيى بها في كل حركاتنا وسكناتنا في علاقاتنا ومواقفنا في سلوكنا الشخصي والاجتماعي... وبذلك نجعل هذه الشعيرة رُكْنا عظيما من أركان الدين يسير على الأرض في كل دروب الحياة وليس مجرد شعيرة مُنْزَوِية في رحاب المسجد أو "نفاقا اجتماعيا" نتظاهر به أمام الناس.. إن الله عز وجل يأمرنا بإقامة الصلاة لأنها تحقق غاية عظيمة وهي أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}، لكن لا ينبغي أن نفهم من الفحشاء والمنكر ما يتبادر إلى الأذهان - عادة - أن المراد بها فقط هو الزنا وشرب الخمر وما شابهها من الكبائر المعلومة من الدين بالضرورة، إنها تشمل أيضا هذه الصغائر التي تفاقمت وتعاظمت في حياتنا اليومية وأصابتنا في سلوكياتنا ومعاملاتنا بكثير من الاختلالات والأعطاب التي تحتاج إلى معالجة حقيقية وإعادة تقويم على جميع المستويات الفردية والمجتمعية... تلك هي حقيقة صلاتنا في محراب الحياة.