« يتساءل الملاحظون: وراء ماذا يجري فلان ؟.. لا وجه للتساؤل: الوازع طبيعي، بل حيواني » عبد الله العروي « بعض السياسيين كالقرود، إذا تخاصموا أفسدوا الزرع وإذا تصالحوا أكلوا المحصول » جورج أورويل هل من ذرة شك لا تزال عالقة بالنفوس..؟ معظمنا يردد في السر والعلن: تعاني السياسة لدينا عطبا ناجما عن أعطاب السياسيين؛ نعم حياتنا السياسية مليئة بالفائضين عن اللزوم، لذلك يتسرب إليها العطب بسهولة ويسر بسبب هذا الفائض من الفائضين. وضع الأحداث في سياقها الصحيح يجعلنا لا نستغرب هذا التعبيد للطرق السيارة أمام ذوي الكفاءات المحدودة؛ ولو في زمن حكومة الكفاءات. وإذا كانت السياسة هي فن مجابهة المشكلات وحلها، فهل بيد هؤلاء الفائضين سوى أن يحلوها بالطريقة الخاطئة ؟ كان شوبنهاور يردد دوما بأن الغاية من اختراع السياسة في المجتمعات الحديثة إخفاء تلك الأنانية التي تثير قدرا هائلا من الرعبّ؛ وأيضا ذلك القدر الأعمى من الطمع الذي يتسرب إلى النفوس؛ لكن ما يتحصل لدينا هو مزيد من الانتهازية والوصولية والنفاق لدى من نسميهم النخب.. الشهوات تزين الرذائل والسياسة لدينا فريسة رغبات هذه النخب التي أفقدت المبادئ بداهتها؛ لا شيء يشعر المواطن المغربي اليوم بغم متصل ويأس متعاظم سوى اضطراب وتهافت الساسة الذي لا ينجح سوى في توسيع المسافة بين هذا المواطن وصناديق الاقتراع. علينا ّأن نواجه أنفسنا في المرآة ونتقبل الحقيقة التي لا غبار عليها: لقد فشل مشروع التمثيل السياسي ببلادنا وانتهى بعد ستين سنة إلى باب مسدود؛ لأننا كما قال عبد الله العروي: فشلنا في تكوين نخبة سياسية واسعة تتأهل وتتجدد باستمرار؛ وتتحمل مسؤوليتها لمدة محدودة كعبء مكلف وبالتالي مؤقت. .. والإقرار بالفشل ليس تشاؤما لأن الفشل يتحول إلى نجاح إذا تعلمنا منه؛ ولكن التشاؤم الحقيقي أن نواصل كالعميان على نفس المسار الذي نعرف بأنه يقودنا إلى نفق بلا مخرج؛ بذلك نكون في وضع من يسمي ريائه فضيلة؛ ويظل جاهلا لأسمى ما فيه، بل ويمتنع حتى عن معرفته.. أليس هذا هو اليأس مجسدا ومعاشا ؟ لا غرابة أننا انتهينا بعد ستة عقود إلى وزراء لا يجدون أي حرج في التواطؤ في الخفاء لسن قانون ثم ينبرون لمهاجمته في العلن وكأنه طبخة عفاريت، ولا غرابة في أن محصلة حياتنا السياسية صيغة عجيبة لأمناء أحزاب سيرتهم تشبه كتاب الرمل لبورخيس الذي لا وجود فيه لأول أو آخر صفحة؛ ممثلون سياسيون لا قبل ولا بعد لهم خارج خط السياسة.. ولهذا أيضا انتهى تمثيلنا السياسي إلى تسييس الدين وكل ما ترتب عنه من نكوصية وتقوقع في عصر تغمره الموجة الثالثة للحضارة (الرقمية التي تطيح بالتاريخ والجغرافيا).. يتحسر البعض قائلا: مات زعماء الأمس وانتهت أحزابهم الوطنية بموتهم إلى أفول؛ ولكن لا وجود لخاتمة بلا مقدمة، وكل حاضر هو في النهاية قطعة من الأمس: بدأ تمثيلنا السياسي مؤدلجا وانتهى في حضن التدين وفي كل الأحوال ظل محكوما بالعدمية.. بدأ بمنطق المبايعة وانتهى في حضن المصلحة الشخصية.. جرب كل الشموليات التي أبعدته عن روح الليبرالية ونسينا بأن كل عقيدة معادية للحريات لا تنفصل في النهاية عن الذهنية الميتافيزيقية- العدمية؛ ومن ثم تنتهي إلى إعادة إنتاج المجتمع بآلياته القديمة. يساريو الأمس هم إسلاميو اليوم، مثلما أن الوازع الذي كان وراء من أسسوا جبهة البارحة هو عينه ما يحرك يمين اليوم: المصلحة الشخصية.. الدافع في النهاية شخصي محض، والمآل: تكريس وإعادة إنتاج البنيات السائدة/ البائدة. لقد رهن المغرب مستقبله على المشروع الديموقراطي، ولكن لا ديموقراطية بلا صفة تمثيلية؛ وبلا ممثلين سياسيين قادرين على بلورة تطلعات الدولة.. الممثلون السياسيون هم فاعلون اجتماعيون بالأساس وعندما يعارضون الطلبات المشروعة للمجتمع يقدون صفتهم التمثيلية وهذه أول خطوة لتقويض الحياة السياسية. الديموقراطية لا يمكن أن تزداد صلابة إلا مع تدعيم الحياة الاجتماعية؛ أما إذا تحولت الأحزاب إلى مجرد تحالف لمصالح ضيقة فإن الحياة السياسية سوف تضمر وتفسح المجال لما هو أخطر: الصراع الطبقي الذي يعني ببساطة مجتمعا ضعيفا يقف على صعيد صلابة هش وقابل لللتهاوي مع أول رجة. الأخطر من ذلك هو اختلال التوازن لفائدة تحالفات اجتماعية عشوائية وأحيانا فوضوية تجد في الوسائط الرقمية منصة لممارسة إثبات الذات؛ ومن ثم إشاعة قيم التيئيس الذي هو غير مطلوب بالمرة في الحركات الاجتماعية الهادفة التي تنتجها الديموقراطية. الذين فكروا في سن قانون تكميم الأفواه تناسوا بأنهم وقود هذه الأفواه وتمييع الحركات الاجتماعية في العالم الرقمي ليس سوى امتداد لتمييع الحياة السياسية في الواقع؛ هذه الأخيرة هي السبب أما الأولى فمجرد نتيجة. نشتكي من رداءة الأعمال الفنية وضحالتها، نتباكى على أمجاد منتخب 86 وإنجازات ألعاب القوى الباهرة التي لم تتكرر؛ يصيبنا الأسى ونحن نعاين أفول الحياة العلمية والفكرية وهجرة الأدمغة؛ نتحسر على موت الجامعة المغربية؛ ولا نفتأ نتعجب من فشل وزارات الثقافة المتعاقبة في تخليق مؤسسات ثقافية منتجة ببلادنا؛ ونتناسى بأن مرد هذا القحط هو ضمور التمثيل السياسي.. الحياة السياسية أصل الداء وسبب هذا البوار.. أجل فعلاقة الفنون والرياضة والفكر والعلوم بالحياة السياسية أوثق وأعمق مما قد يتصوره البعض، لا وجود لاقتصاد قوي إلا ضمن دائرة الإنتاج والمردودية؛ وهل يتأتى ذلك ضمن تمثيل سياسي ينخره الريع، وتحركه المصلحة الشخصية ؟ جرب المغاربة اعتزال الحياة الحزبية حتى لا تفسد عليهم معيشهم؛ ولكنهم ودون أن ينتبهوا جعلوا الممثلين السياسيين يفسدون حياتهم؛ بشكل يكاد.. وأقول يكاد يفقدهم إنسانيتهم.