بسم الله الرحمن الرحيم "القومة" و"فقه الروكي" و"فزاعة الاستقرار" ربما كان السيد هاني يكتب- في سياق حملته التشويهية- تحت ضغط الوقت لذلك لم يطلع قراءه على حقيقة شخصية "الروكي بوحمارة" حتى يتمكنوا من فهم عنوان "فقه الروكي" الذي أجمل به تفاصيل انتقاده للتصور السياسي "للعدل والإحسان"، وحتى يتمكنوا أيضا من موافقته أو مخالفته بخصوص الأسباب التي حملته على المماثلة بين شخصية "الروكي" وشخصية السيد"ياسين"،فالروكي بوحمارة شخصية تضاربت حولها الآراء والأخبار والشهادات ولم تتضارب حول زعيم"العدل والإحسان" الذي ليس هو بمجهول العين ولا مجهول الحال،فيقال : إن اسم"الروكي" هو عمر بن إدريس الجيلالي بن ادريس محمد اليوسفي الزرهوني،وقد ولد عام 1860 وتوفي عام 1909،وإن خصومه هم الذين أطلقوا عليه لقب"الروكي" ،وإنه كان يطلب المُلك،ويستظهر على ذلك بالسحر والخوارق وذلاقة اللسان،وإنه زوَّر وثائق ليُثبت أنه هو الولد البكر للسلطان الحسن الأول وليزعم أنه هو الأحق بوراثة الحكم،وإنه بجيش ذي تركيبية قبلية استطاع بسط نفوذه على المغرب الشرقي ونصب نفسه سلطانا عليه، وفَوَّت استغلال مناجم المنطقة للفرنسيين والإسبان مقابل إمداده بالأسلحة،فظل لسنوات طوال يهدد السلطات المركزية المترنحة والموغلة في الفساد والاستبداد، وتزامنت "ثورة" "الروكي بوحمارة" مع "ثورة" الريسوني في الشمال،فطلب السلطان مساعدة فرنسا للقضاء عليهما وهو ما تم له،فقُبِض على "الروكي بوحمارة" وأعدم هو ومن قبض معه،وسلخت جثته وقدمت طعاما للوحوش. والآن نتساءل: - هل زور السيد عبد السلام ياسين أختاما تمنح له "الحق" في وراثة مُلك الحسن الثاني- رحمه الله-؟ - هل قاد حركة تمرد مسلحة لنيل ذلك "الحق"؟ - هل تلقى مساعدات عسكرية من دول خارجية حتى نقول إنه يستقوي بالأجنبي؟ - هل بسط نفوذه على أجزاء من المغرب؟ - هل مخرق على الناس وسلبهم عقولهم بالسحر والخوارق؟ والجواب هو:إن الرجل ما زور،وما قاد،وما تلقى،وما بسط،وما مخرق،إذاً فما بقي من وجوه مماثلة السيد هاني بين"الروكي" وبين"ياسين" إلا مسألة- ما سماه- "تعكير صفو الاجتماع السياسي المغربي"،و"رج مكتسبات الاستقرار"، و"خلط الأوراق" والقبول "بالانتحار والاستعمار" وعدم القبول "بالشراكة والاستقرار" مما جر على المغرب " خور العمران واستدعاء الاستعمار" ،لنعرف أولا أي استقرار كان "ينعم" به المغرب فأتى"الروكي بوحمارة" ليرُجَّه،والمعروف بالأدلة التاريخية أنه بعد وفاة السلطان الحسن الأول سيطر على السلطة حاجبه (با حماد)،وعندما بلغ عبد العزيز بن الحسن الأول 14 سنة عُين وليا للعهد،ولما تولى الحكم سمح للأجانب ببسط نفوذهم على المغرب،وأرهق الناس بسياساته الضريبية الخرقاء،وانهمك في الملذات والاشتغال بمقتنياته العصرية،فلم يكن ثمة استقرار أصلا حتى يأتي "الروكي بوحمارة" ليزعزعه،والذي جلب المستعمر هو الحاكم وما كانت حركة "الروكي" إلا عامل تسريع،ولذلك استفْتَت ساكنة فاس علماءها حول مدى جواز خلع السلطان عبد العزيز لظلمه وتمكينه للأجنبي،فأفتوهم بجواز ذلك فتم خلعه،فكان الأحرى بالسيد هاني أن يماثل بين نهج السيد ياسين وحركة العلماء السلمية،ولكنه فضل إمعانا في تحريض الحاكم الحالي على الشيخ مُماثلَته مع حركة "بوحمارة" المسلحة والعنيفة،ولما ألحق العلماء فتوى العزل "ببروتوكول إضافي" ينص على البيعة للسلطان عبد الحفيظ،لم تُعجب الصيغة المطلقة والفضفاضة للنص العالم محمد بن عبد الكبير الكتاني فاستطاع تقييد النص بضوابط لم تَرُق لعبد الحفيظ فأسَرَّ عداوة "العالم القائم" حتى إذا تمكَّن منه قَتَله فرزقه الله الشهادة،وهنا نأتي إلى ربط السيد هاني بين"الروكي" و"الخوارج"،وهو ربط متكلف ومتعسف،فقال:" تبدأ حركة الرّوكي من موقف خوارجي وحبّا للزعامة واستهتارا بالاستقرار"،ثم يضيف متباكيا على "الاستقرارالمهدد":"ولو أدرك هذا النّفر من القومتيّين أي شرّ يداهم البلدان عند انفراط عقد استقرارها لأدركوا أن هذا الفقه الذي يبعثهم إن هو إلاّ فقه خوارجي ، لما علمت من أنّ حفظ النّظام العام أولوية فقهية لا تقايض بالمجهول و أحلام اليقظة وإيحاءات الأجنبي"،أقول: لقد خبأ لنا الدهر عجبا من السيد هاني حتى صار يدافع عن سياسات الحاكمين نكاية في "السيد ياسين"،ومتى؟في وقت نهضت الشعوب لتطيح بعروش المستبدين والمفسدين،مما يحمل على الاعتقاد أنه ينهل- مخالفا للنهج الحسيني يا للمفارقة- من فقه سياسي تقليدي وطارئ ظل لقرون طويلة أسيرا لمقولة عدم جواز الخروج على الحكام ولو حادوا عن جادة العدل والصواب،بالرغم من أن الكثير من فقهاء السياسة الشرعية كانوا يقصدون الخروج المسلح،لكن الحاكمين عمموا وصف الخروج حتى على الحركات السلمية،مما أدى إلى ترسيخ الاستبداد وانتهاك الحريات،إنه منطق قديم يرى في الموضوع إما مناصرة الحكام أو الخروج عليهم بالسلاح،إما الثغاء في قطيع الحاكم وإما الاتهام "بالخروج"،ولا يلتفت إلى ما أبدعته"الأخلاقية الإسلامية" وأغنته الحكمة البشرية من أساليب النضال غير العنيف،ولست أدري بعد أن ألصق السيد هاني بالسيد ياسين كل صفات التمرد "الروكي" هل سيدعو"أولي الأمر" إلى إعدامه ثم سلخ جثته ثم رميها إلى الوحوش؟ ! لاسيما بعد أن أورد من الكلام ما يرقى إلى درجة التحريض؛ف" الحرب الحقيقية بين الجماعة والنظام باتت مكشوفة؛ هي حرب كيدية وتاريخية وشخصية بين الروكي والملك، موضوعها القديم والحديث: السلطة والتّسلط" والشيخ طالما استهوته "عادة إسداء النّصيحة إلى من يهمّه الأمر برباطة جأش روكية" وهو لا يزال"يراود أطاريحه تباعا وقد عاصر ثلاثة ملوك، اثنان منهم صاروا في دار الحقّ والثّالث شابّ غضّ العود طريّ الطموح ، جاء حينما جاء لا يحمل من عقد العهد القديم إلاّ حكايات جيله من سائر المغاربة"،إنه تملُّق ذكَّرني بالشهيد مرتضى المطهري الذي نعت بعض أنصار الحرفية والجمود من الأخباريين "بالخوارج الجبناء" "الذين تركوا السيوف في أغمادها وتخلوا عن فكرة تقصد رجال السلطة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأنها كانت خطرا عليهم، ولكنهم راحوا يسلقون رجال الفضل والفضيلة بألسنة حداد"،[1] ويؤكد "أننا لو أخذنا بأقوال هؤلاء لما وجدنا بين أظهرنا أي عالم إسلامي حقيقي"[2]، ومرة أخرى:إن كان ولا بد،و"عنزة ولو طارت" كان بوسع السيد هاني-في الأقل- أن يعتبرنا من "الخوارج" الذين ضمن لهم الإمام علي أعطياتهم وحرية التعبير والتجول والتجمع ما لم يسفكوا دما حراما !! لقد تحجج المستبدون لمواجهة الثوار في تونس ومصر والبحرين وليبيا وسوريا واليمن بحجة "الحفاظ على الاستقرار" وقطع الطريق على "الفتنة"،ولَكَم سقط في تاريخ مواجهة الاستبداد من شهيد بهاتين الحجتين،أو لم يخاطب ابن زياد مسلم بن عقيل- رضوان الله عليه- (رسول الحسين إلى الكوفة) لما قبض عليه قائلا:"إيه يا ابن عقيل، أتيت الناس وأمرهم جميع وكلمتهم واحدة لتشتتهم وتفرق كلمتهم وتحمل بعضهم على قتل بعض "[1]. "الروكي" و "القومة" 1.لم تختلف كثيرا معالجة السيد هاني لموضوع "القومة" وعلاقتها بمفهوم "الثورة" عن المعالجات الإعلامية المتسرعة التي تعتمد خطاب التهويل والإغراب والتحريض،وكان حرصه مرة أخرى على إلصاق وصف تهديد الاستقرار والاستقواء بالأجنبي بذلك الموضوع أشد من حرصه على التثبت والتحليل الرزين والاستقراء الشامل، وبمقتضى ذلك الإلصاق فإن "القومة يعدّ لها داخل السفارات الأجنبية استقواء على حرمة البلاد واستقلالها" لكنه - بدلا من إطلاق الكلام على عواهنه- كان عليه أن يفصل لنا أشكال الإعداد والمراحل التي وصل إليها،وأي سفارة من السفارات الأجنبية استضافت الاجتماعات الأولية في غفلة عن أعين "المخابرات"و"أوثق المصادر"،وما هو "دفتر التحملات"،وأي حزب في العالم "نجا" من لقاء الأمريكين سواء كان من "أحزاب الله" أم من "أحزاب الشيطان"،إنه منطق موغل في التسطيح والتبسيط والقفز على التاريخ وواقع العلاقات الدولية،ولو جئنا نحكم على التنظيمات والأحزاب من خلال لقاءاتها فقط بمسؤولين أمريكيين لما سلم أحد من وصف العمالة والخيانة والانقلابية وتهديد استقرار الأوطان،وبمقتضى ذلك الإلصاق أيضا ذهب بعيدا - بِنَفَس تحريضي دائما- فعدل عن وصف الخلاف بأنَّه حقيقةً بين"جماعة" و"نظام" إلى شخصنتة وتصويره كأنه بين "ياسين" و"الملك" وعلى طريقة "مصطفى العلوي" قال:" كان الملك الشّاب يقطع المغرب طولا وعرضا مُدشِّنا وبانيا ومعتنيّا بالأطفال وذوي الاحتياجات الخاصة في السهوب والمرتفعات والقرى والأرياف عبر الفصول الأربعة بحرها وزمهريرها. فكيف تريد للمغاربة أن يتعلّقوا بشيخ يدعوهم للحلم بقومته ولا يتعلّقوا بملك يقود أوراشا على الأرض"، ولما أنزل السيد هاني مفهوم القومة على معان انقلابية لم يأت ولو بنص واحد يسعفه في هذا الإنزال ويشهد له،بل استمر في تحليل يعتوره التناقض والاضطراب،فمرة"العدل والإحسان" تعيش"سبيل الرّفضوية المطلقة والرعي على شوارد العزوف السياسي والاحتقان والتهميش" وكأن السيد هاني يتصورها تنظيم"التكفير والهجرة"،ومرة يفتعل مرشدها"المغامرات الإعلامية ويظل وفيا لمفاعيلها وتبعاتها" ومرة "تستمر العبثية التّظلمية للجماعة البكّاءة التي ترفض النّظر إلى الواقع بعين الحق والإيمان" والذي أعرفه أن "العدل والإحسان" لا تبكي إلا على باب الله مستغفرة لذنوبها ولتقصيرها في جنب الله،أما البكائية ففي صالح السيد هاني ألا يفتح عليه باب البكائيات واللطميات وظلالهما التاريخية والنفسية،دعنا من هذا أو لم يقل هو نفسه "فالحالة البكائية المنتشرة والتعبيرات التي تبلغ حدّ تجاوز المدى هي التعبير الشعبي الممكن دائما عن فاحش الظّلم"[2]. 2.قال السيد هاني:" كان العهد بخطاب الشيخ رفض الثورة وتعويضها بالقومة احترازا من وقوع الخلط في القيمة والمحتوى الرّباني للقومة" هذا القول يحتوي على جملتين أولاهما خاطئة وهي "كان العهد بخطاب الشيخ رفض الثورة"،وثانيهما صحيحة وهي " وتعويضها (أي كلمة الثورة) بالقومة احترازا من وقوع الخلط في القيمة والمحتوى الرّباني للقومة"،فالذي رفضه الشيخ هو الثورة الدموية المسلحة (ابتداء لا على سبيل الإلجاء كما وقع لليبيين)، فينتقد "أساليب العنف وحرق الناس وبقْرَ بطون النساء وإطفاء السجائر في عيون بني آدم وما إلى ذلك من إفناء الطبقة البائدة وتسليط المخابرات"[3]،ويقيم التمييز بين"القومة" و"الثورة" انطلاقا من تقييم تجربة ثورية عنيفة سعت إلى إفناء خصومها وهي تجربة الثورة الروسية،إلا أنه بعد أن يشترط النهج السلمي لا يجد مانعا من استعمال الكلمتين"الثورة"و"القومة"،هذه الأخيرة ليست عملا انقلابيا،ولا بوسع تنظيم واحد أن ينجزها وينسبها لنفسه فهي عملية طويلة وشاقة تشترك كل فعاليات المجتمع في تحقيقها،تعني"تغيير دوافع الإنسان وشخصيته وأفكاره،تغيير نفسه وعقله وسلوكه،تغيير يسبق ويصاحب التغيير السياسي والاجتماعي"[4]،إذا ثمة تداخل وليس كما يزعم السيد هاني بأن السيد ياسين يرى "بأن لا صلاح للمجتمع إلا بعد قيام القومة" بدليل قول الأخير:" ولا نتصور مصحة نعالج فيها في الجو المعقم أمراض النفس ورواسب الفتنة، لا نحتك بأحد مخافة العدوى، حتى يتم البرء وتكتسب المناعة. ولا نتصور محطات للاستراحة والترميم والتعديل عندها نحط الأحمال ونتخفف مما ينوء بنا من نازل الآفات"[5] ،ومن أكبر الأخطاء إيهام الناس بأن"العدل والإحسان" تعتمد أسلوبا واحدا ووحيدا في التغيير وهو أسلوب"القومة" والصواب أنها تتبع عدة أساليب مراعاة لخصوصية كل بلد وقطر ولهذا لا يجب حصر"أسلوب الإزالة ولا مسار المناورة السياسية في صورة واحدة لاختلاف الأحوال في الأقطار، وتقلبها في الأزمان. وقد يكون العمل المسلح والحرب الأهلية بين المسلمين أبعد هذه الصور عن المنهاج النبوي. بل ذلك كذلك لا شك"[6]. 3.ولا أدري على أي شيء اعتمد السيد هاني عندما نسب إلى السيد ياسين القول بعدم اعتماد "القومة" على "دهماء العامة" (العبارة للسيد هاني) وتوقف إنجازها على"جند الله الصالحين" ،إنه لم يُبق من الحمق شيئا من ظن أنه سينجز تغييرا بدون مشاركة شعبية واسعة،وهي مشاركة تنبعث من غضب فطري طبعي محمود اعتبره الشيخ:" الطاقة الفاعلة التي تحمل في ثناياها المبعثرة امكانيات الثورة"[7]، لذلك دعت"العدل والإحسان" في البدايات الأولى لتأسيسها إلى أن تحتل الاعتبارات التفصيلية لغضب المستضعفين مكانها في فكر الحركة الإسلامية وشعاراتها وتخطيطها لتعبئة الأمة،لأنها تمثل في المجتمعات العربية والإسلامية القوة المعارضة الأكثر تنظيما ،والأوسع قاعدة شعبية،فتتكلم "لغة الخبز اليومي والأجور، والصحة، والسكن، والمدرسة، والكرامة، وتفصل كل هذا لرجل الشعب المستضعف القاعدي تفسر له لم يجب أن يغضب، وكيف ومتى، ومع من"[8]. إن الغضب للمستضعفين حافز مُعتبر وأسمى منه حافز الغضب لله،فيتفرغ القلب لعبادة الله وتأليهه وحده عندما يتفرغ من شواغل الرزق وذلك بأن يحصل الإنسان على كفايته و سبيلها هو العدل في القسمة،ومن شواغل القهر والاستعباد بأن يحصل على حريته وكرامته وسبيلهما العدل في الحكم،ولذلك "ينبغي أن لا نكون من البلادة بحيث ننتظر قومة مجردة للحافز السامي وحده، ولا أن نكون من السطحية بحيث نترك الحوافز الدنيا تقود المعركة، المحسنون المتجردون لله قلة عددا، والعضل اللازم للقومة غذاؤه الغضب الطبعي"[9]،لكن الذي حذر منه السيد ياسين وظنه السيد هاني إقصاء لما سماه "دهماء العامة "هو ترك ذلك الغضب الفطري يقود المعركة لوحده بدون ضوابط أخلاقية مما سيؤدي إلى بروز التصرف الغضبي المُحطِّم[10]، ومهمة الإسلاميين هي "أن يحقنوا الغضب الشعبي بجرعات إيمانية. وبلقاء الحافزين، وبقيادة الاعتبار الإحساني وهيمنته، وجدارته وقدرته على ضرب المثال، نرتقي بالحركة عن مستوى الغضب الجماهيري إلى مستوى القومة لله"[11]،ستوفر الثورة الشغل والخبز لا شك ولكن ليس بالخبز وحده يحيى الإنسان،وهنا يبرز الضابط الثاني من ضوابط"القومة" هو ضابط الالتزام التام بالشرع (وحيثما كانت المصلحة الموافقة لقصد الشارع فثم شرع الله)، بالإضافة إلى الضابط الأول وهو التعفف الكامل عن سفك الدماء[12] . وعن هذا الفهم كان يصدر أيضا القائمون من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم،ولهذا أحال عليهم السيد ياسين في سياق التأصيل التاريخي لمصطلح "القومة" فقال:"نريد أن نعبر "بقومة"لأنها تعيد إلى أذهاننا تلك القداسة التي كان يتمتع بها "القائمون"من آل البيت الذين حاربوا الظلم والاستبداد"[13] ولم ير السيد هاني في تلك الإحالة وأضرابها إلا "تمسحا بأهل البيت" و إلاّ "إشهارا للسّيف عليهم حينما اغتصب شأنية أئمتهم الهداة ومنح لنفسه من الخصائص ما فاق خصائص الإمام عليّ عند شيعته"،والذي يعلمه السيد هاني ويتجاهله هو أن السيد ياسين من أهل البيت أصلا وفصلا،وإنما يتمسح بهم من ليس منهم،والرجل لايفتري نسبا ولا يدعي لقبا ،ولا يتذرع بالنسب لحبك خطة سياسية،ويتمثل بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من انتسب إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين"[14] ولم يذكر لنا مصاديق إشهار ياسين السيف على آل البيت ،ولا مصاديق اغتصابه شأنية أئمتهم ،ولا مصاديق منحه لنفسه أكثر من خصائص الإمام علي،ولا دليل واحد،ولا نص واحد مكتوب أو شفهي. إن أهل البيت ليسوا "ملكية خاصة لأحد" بل هم ملك مشاع للأمة والإنسانية كلها،لم تنطو قلوبهم أبدا على بغض أو حقد أو تعصب،كانوا كجدهم رحمة مهداة للعالمين،لم يكونوا مولعين بتجميع فضائح عامة وخاصة الناس،كانوا يعرفون لذوي الفضل فضلهم،ولم يكن السب ولا الشتم من شيمهم،وهم قبل ذلك وأثناءه وبعده معنى راق ومتسام. ومن الخطإ التحيز بهم وإطفاء إشعاعهم في قَبْو الايديولوجيا،وسقط السيد هاني في قياس مع وجود الفارق عندما قال:" لم يتعلّم شيخ الطّائفة القومتية سنّة علي بن أبي طالب لمّا نادى في القوم درء للفتن ما ظهر منها وما بطن: لأسلّمنّ ما سلمت أمور المسلمين وكان الجور فيها على خاصّة" وعلى فرض صحة السياقات التي قيلت فيها هذه الكلمة فقد قالها علي كرم الله وجهه زمن أحد الخلفاء الراشدين ولم يقلها "للمارقين" ولا"للناكثين" ولا"للقاسطين" حيث كان الجور فيها على عامة ؛كما هو الشأن في زمن ياسين، ولكن يبدو لي أن الذي لا يرضي السيد هاني هو أن "العدل والإحسان" ومرشدها يفتلان في حبل التصحيح التاريخي والإحياء التربوي والتجديد الفكري برؤية تنهل من الوحي قرآنا وسنة،ومن تراث الصحابة والقرابة،وتضع اليد على مكامن الخلل التي أفرزت الفتن التاريخية والاشتباكات المذهبية،وتجيب بكيفية معقولة على أسئلة التاريخ الإسلامي العالقة وتملأ الكثير من بياضاته،لذلك فأولى الأولويات عند السيد هاني هي إزاحة "مرجعية" منافسة ومشتغلة بأي أسلوب كان من الأشدها شرفا إلى الأشدها وضاعة. 4.قال السيد هاني:" ومنذ قيام الثورة الإيرانية حسب الشيخ ياسين قومته صنوا لولاية الفقيه بإعجاب منقطع النظير رغم الفوارق الموضوعية"، وقال:"حتى الإمام الخميني الذي أقام دولة بعنوان ولاية الفقيه والذي سعى الشيخ ياسين للتماهي مع تجربته"،وما أظن أن صاحب هذا القول يجهل أن "ولاية الفقيه" نظرية ترتبط بالمؤسسة الدينية الشيعية، وليس الخميني هو أول من قال بها من الشيعة ولكن هو الذي انتقل بها من طور النظر إلى طور العمل،وخلاصتها هي تصدي المجتهد الجامع للشرائط زمن الغيبة الكبرى للإمام الثاني عشر - حسب اعتقاد الشيعة الإمامية-للحكم،وهي مخالفة للرأي الفقهي الغالب في المذهب والذي ينص على أن الفقيه إبان"الغيبة" تثبت له الولاية الخاصة فقط ؛فيتولى بموجبها "ولاية الفتوى والقضاء على الأوقاف العامة وأموال الغائب، وفاقد الأهلية مع عدم الولاية الشخصية، وإرث من لا وارث له"[15]،ولو تجشم السيد هاني عناء استقراء أقوال السيد ياسين بخصوص "الثورة الإيرانية" لكان عليه أن يقول"بإنصاف منقطع النظير" بدلا من"بإعجاب منقطع النظير"،فالشيخ ذكر سلبيات وإيجابيات الثورة التي احتاجت أول أمرها إلى الكوادر والتقنوقراط المؤمنين بمبادئها لأنه " لم يكن في الحوزات مشروع واضح للبناء يرسُمُ حدود الوُسْعِ، وصراعات القوى العالمية، وضغوط السياسة العالمية، وقسمة الأقوياء للمقومات الإستراتيجية، ومتطلبات الدولة الحديثة،كان من علماء الحوزات الشيعية أمثال آية الله باقر الصدر وآية الله مطهري مستبصرون بالعصر استبصارهم بالنصوص. لكن الذي فجر الثورة بقيادة الإمام الخميني هو العقل التقليدي المستظهر بشعبية المساجد والحسينيات وروافد الحوزات"[16] ،ولما غابت المرونة واختلط على الثورة منطق الدعوة والبناء بمنطق الهدم والتقويض[17]،لم تنجح في رهان طمأنة دول الجوار،لاسيما عند رفعها المبكر لشعار "تصدير الثورة" فاحتاج الأمر إلى تبديد مخاوف الكثيرين الذين رأوا في الشعار إرادة لتصدير بضاعة الطائفية ملفوفة في ثياب الثورة،وإلى تبديد المخاوف الآنية من الدور الإيراني في العراق،ومن مساندة النظام الدموي السوري الذي يقتل شعبه لمجرد مطالبته بالحرية، والثورة الإيرانية اليوم تقف في مفترق طرق،إما أن تأكل الثورة أبناءها ،فتنطوي الثورة تحت جناح الدولة،ويحكم البلاد طبقة من رجال الدين باسم"ولاية الفقيه"التي هي محل خلاف فقهي وسياسي معروف بين النخب الإيرانية،والأخطر هو الحيلولة دون انتقاد الناس "للولي الفقيه" بما يشبه إضفاء صفات القداسة عليه، وبما يعنيه ذلك من إحالة- ولو غير مقصودة – على مفهوم العصمة،إذاً ليس هناك ما يغري في النظرية حتى يعتقد السيد ياسين- حسب زعم السيد هاني- أن "قومته صنو لولاية الفقيه"،ولا ما يغري في التجربة حتى "يتماهى" معها . ولمن يتعمد حصر مفهوم "القومة" في المعنى السياسي نبَّه السيد ياسين على ملامحها القرآنية فأجملها في سبعة هي[18]: "1. قومة الداعي تبتدِئ بقومة الرسول في قومه يخاطبهم بلسانهم على الرفق لا على العنف"وإنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لِبَداً"[19] 2.قومة الشاهد التي يدعو إليها القرآن الكريم في قوله تعالى: "كونوا قوامين لله شهداء بالقسط"[20]،"كونوا قوامين بالقسط شهداء لله"[21]،قومة لإحلال العدل محل الجوْر. 3. قومة إلى الصلاة.وإقامة الصلاة. 4. قومة الإحسان التي تزيح عن وجه الفطرة وعن صفحة القلب ما علق بها في الماضي وما يعلَقُ بها في المعافسات اليومية من غيْن الذنْبِ ومُلاحاة الخلق ومغريات الشهوات. "فأقم وجهك للدين حنيفا فِطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله. ذلك الدين القيِّمُ"[22] 5. إقامة حدود الله. وذلك هو السياج الصائن لبناء الدين. إقامة حدود الله وحفظ البناء عملية لا معنى لها إلا في سياقها التربوي العدلي العمراني الأخوي الدالَّة عليه آياته تعالى: "التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله"[23] 6. القيام بأمر الله. قيام الدعوة على الدولة. على الشورى لا على العض والجبر. قيام أولي الأمر منا، العلماءُ الذين يخشَوْن الله ولا يخافون في الله لومة لائم. وفيهم يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "لا تزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتيَ أمر الله وهم على ذلك"[24]. 7. إقامة الوحدة. ائتِماراً بأمره تعالى: "شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه"[25] فنحن بصددها كما أننا في انتظارها. هذا هو التصور العام لمسألة القومة. فما يفيد الانتقاء والبتر والاجتزاء غير استخفاف الناس بقلة اطلاع المنتقي والباتر والمجتزئ. إن الخطأ الذي يقع فيه مجموعة من دارسي"العدل والإحسان" هو ضعف اطلاعهم على أدبياتها،وعدم تفريقهم بين كلام عالم مفكر يقود تنظيما إسلاميا،ويمارس تنظيرا يشتمل على ما له صلة بكليات المشروع المجتمعي سواء على مستوى القطر الواحد أم على مستوى الأمة،وبين البرنامج الذي يخوض في تفاصيل تنزيل ذلك المشروع،ويحسِبون كل رأي قيل في سياق تبيان المشروع جزءا من البرنامج،هذا الذي لا يخضع لرأي مفكر واحد بل لعملية تشاور وتقليب وجوه النظر في النص والواقع والمآل،ويؤسفنا أن نقرر حقيقة مفادها أن السيد ادريس هاني لا يملك الاطلاع الكافي لا على المشروع المجتمعي ولا على البرنامج،وحتى وإن ادعى الاطلاع فإن الحقائق الناصعة تنطمس تحت غشاء تفكيره الانفعالي،فيحسب أن كل الناس ليسوا على مستوى من الذكاء يؤهلهم لفهم الأدبيات الياسينية؛لذلك قال:"لقد كنّا دائما نتحفّظ على هذا الخطاب العجائبي لشيخ راقته طريقة الروكي بوحمارة حتّى استحمر وعينا بمطارحات تنقر في لحاء ذكاء المتلقّي"،وفي مسألة استحمار الوعي يظهر لي أن السيد هاني بحاجة إلى إعادة قراءة مشمولات ومفردات الاستحمار كما أتى على ذكرها الدكتور علي شريعتي في كتابه القيم (النباهة والاستحمار)،والتي منها – مادام السيد هاني يدافع عن ظلمة المغرب بذريعة الحفاظ على الاستقرار- السكوت عن الظلم ف"لما كان علي أن أرفض الظلم من أجل الحاجة إلى العدالة،فإن الاستحمار يدعوني إلى السكوت عن الظلم"[26]،أما السيد ياسين فيفتل مشروعه في حبل "النباهة الإنسانية" و"النباهة الاجتماعية" و"النباهة السياسية" وليرجع إلى الكتاب المذكور ليعرف المقصود منها. الهوامش ------------------------------ [1]- مرتضى المطهري،الإمام علي في قوتيه الجاذبة والدافعة، ص: 172. [2]- المصدر نفسه. ----------------------------- [1] ابن كثير،البداية والنهاية،8/168 [2] هسبرس،"الثورة الحسينية" 18/1/2012 [3] نفسه 236 [4] عبد السلام ياسين،رجال القومة والإصلاح،ص 7 [5] عبد السلام ياسين،نظرات في الفقه والتاريخ،ص 50 [6] عبد السلام ياسين،الإسلام والقومية العلمانية،ص 292 [7] المنهاج النبوي [8] نفسه [9] نفسه [10] أنظر نفس المرجع [11] نفسه [12] نفسه 389 [13] رجال القومة والإصلاح،ص 8 [14] سنن ابن ماجة،حديث رقم 2658 [15] محمد واد مغنية، الخميني و الحكومته الإسلامية ص 60-61 [16] العدل،ص 47 [17] نفسه [18] أنظر :كتاب العدل ص 436 وما بعدها [19] الجن/19 [20] سورة المائدة، الآية 9. [21] سورة النساء، الآية 134. [22] سورة الروم، الآية 29. [23] [24] رواه البخاري ومسلم [25] الشورى/13 [26] علي شريعتي،النباهة والاستحمار،ص 55