سفير فرنسا: باريس تعتزم جلب رؤوس الأموال إلى الصحراء المغربية    انعقاد الاجتماع الخامس للجنة العسكرية المختلطة المغربية – الموريتانية    نظام الجزائر على شفا الهاوية.. هل تقترب لحظة الحسم؟    الركراكي يستدعي بلحيان لتعويض ريتشارسون المصاب        الحكومة تخصص 14 مليار درهم في مالية 2025 لاحداث مناصب الشغل    اختتام فعاليات الدورة السابعة من مهرجان القصبة للفيلم القصير    فتاح: الحكومة "متفائلة جدا" بشأن النمو الاقتصادي في 2025    لقجع: أسعار بعض الأدوية في المغرب مضاعفة 5 مرات ونرفض الاحتكار وفرض أثمنة مرتفعة بحجة "الصناعة الوطنية"    وزارة التربية الوطنية ترخص للأساتذة تقديم ساعات إضافية في المدارس الخصوصية    المغرب يجدد التأكيد أمام مجلس السلم والأمن على دعمه لعملية سياسية شاملة في ليبيا    هيئة رئاسة فرق الأغلبية تتجاهل المبادرة البرلمانية لتقريب وجهات النظر بين وزير العدل والمحامين    الأحمر يُوشّح تداولات بورصة الدار البيضاء    الحرس المدني الإسباني يحجز أكثر من 4.7 أطنان من الحشيش بالتعاون مع المديرية العامة لمراقبة التراب الوطني    مباراة المغرب و الغابون.. تغييرات في اللائحة الجديدة للأسود    عاجل.. تأجيل محاكمة إلياس المالكي لهذا السبب    "أكديطال" تنخرط في مشروع للطب 4.0    يوعابد: العاصفة الجوية "دانا" ستؤثر على المغرب ولكن بكيفية ضعيفة    منيب: المهداوي مظلوم والمغرب يعيش تكميم الأفواه بكل الطرق    المرض يُغيب المالكي عن المحكمة .. والدفاع يرفض المزايدة بالأمازيغية    أوجار يشيد بجهود الحكومة في تعزيز ركائز الدولة الاجتماعية كما أرادها جلالة الملك    لقاء مغربي إسباني بالرباط لبحث سبل تأهيل وتحديث قطاع اللحوم الحمراء    تقديم كتاب بجنيف عن صحراء المغرب    إتحاد طنجة يبحث عن ملعب لاستضافة المغرب التطواني بدلا من ملعب سانية الرمل    سبتة تطالب مدريد بالدعم المالي للتعامل مع قضية القاصرين في المدينة    وزير النقل يريد ربط الحسيمة بخدمات القطار بدون سكة حديدية!    حملة توعية بضرورة الكشف المبكر عن سرطان الرئة    "تصريح خطير".. وزير المالية الإسرائيلي: 2025 هو "عام السيطرة" على الضفة الغربية    "لارام" تورط جامعة كرة القدم في حفل "سخيف" لتقديم قميص المنتخب الوطني    مجلس عمالة الدار البيضاء يخصص 150 مليون لكل من الرجاء والوداد    التغير المناخي يهدد حياة اللاجئين في مناطق النزاع والكوارث الطبيعية        الجيش الإسرائيلي يعلن فتح معبر جديد لدخول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة    تقارير.. المغرب من أكبر مستوردي الأدوية الروسية في إفريقيا    كيوسك الثلاثاء | الوقاية المدنية أنقذت أزيد من 25 ألف شخص من الغرق في 2024    التمسماني: طنجة كانت وستظل مثالًا يحتذى به في احترام التنوع الثقافي والرياضي    ألباريس: المغرب بلد صديق وشريك استراتيجي لإسبانيا    الدولار إلى أعلى مستوى خلال أربعة أشهر    أخنوش أمام قمة الرياض: جلالة الملك يضع القضية الفلسطينية ضمن ثوابت السياسة الخارجية للمملكة    قمة الرياض تؤكد على مركزية القضية الفلسطينية            بروفايل |يوسي بن دافيد.. قائد دبابة "ميركافا" بجيش الإحتلال على رأس "مكتب الاتصال الإسرائيلي" في الرباط    تحسين ظروف السكن ل16 ألف و300 أسرة كمعدل سنوي خلال الولاية الحكومية الحالية    التصفيات الإفريقية تقترب من الحسم    مقتل 4 جنود إسرائيليين شمال قطاع غزة    دراسة: تناول الدهون الصحية يقلل من احتمالات الإصابة بالسرطان    الصين تطلق بنجاح صاروخا تجاريا على متنه 15 قمرا اصطناعيا    طنجة تحتضن فعاليات الدورة الأولى لملتقى الزجل والفنون    قمة الرياض مكرر.. كل شيء تغير، ولا شيء تغير ..    علاج واعد جديد لفقدان السمع المفاجئ الحاد    خلط في خبر وفاة محمد المسيح وشقيقه عبد الاله    نصائح للوقاية من آلام الظهر والرقبة بسبب الجلوس لفترات طويلة    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    جرافات الهدم تطال مقابر أسرة محمد علي باشا في مصر القديمة    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نحو فلسفة جديدة للثورة وإعادة البناء
نشر في هسبريس يوم 06 - 09 - 2011

قصة الإنسانية مع التغيير الجذري قصة طويلة يختلط فيها ما هو روحي بما هو سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي،وواقعية تتعلق بوقائع تاريخية حدثث بالفعل واختير لها من الوسائل ما تراوح بين التحرك العنيف والتسرب اللطيف،واستقر آخر اصطلاح على تسمية ذلك التغيير الجذري ب"الثورة".
في تاريخ البشرية مثل الأنبياء بحق وعن جدارة واستحقاق وبتكليف إلهي نماذج"ثورية" هادية لم تكن منقطعة عن عامة الناس،ولم تجعل من نفسها نخبة منعزلة في أبراجها العاجية،وكان كل واحد منها ذا قلب مع الله،ويد تعمل في البيئة الملوثة تصلحها،وهكذا تصدى موسى عليه السلام للاستبداد والتأله السياسي فوقف في وجه وفرعون وحليفه الاقتصادي قارون،وتصدى قبله لوط عليه السلام للتفسخ الأخلاقي والمثلية الجنسية،وتصدى شعيب للفساد الاقتصادي وتطفيف المكيال والميزان،ورد عليه مخالفوه برد فحواه:ما شأن دينك بانتقاد أوضاعنا الاقتصادية،وحكى الرحمان قولهم فقال:"(قالوا ياشعيب أصلواتك تامرك أن نترك ما يعبد آباِؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء)[1]أي اتركنا ولبراليتنا المتوحشة ،وجميع الأنبياء كانوا يرمون إلى تعبيد الناس لرب العالمين وحده حتى تتحرر الشعوب من كل الطواغيت سواء كانت في عالم الضمير أم في عالم الواقع (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلى يوحى إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون)[2].
ثلاث ثورات وبحر زخار من الدروس
تمثل ثلاث ثورات كبرى معاصرة علامات فارقة في تاريخ سعي الإنسان إلى تحسين أوضاعه ومواجهة الظلم والفساد والاستبداد،وأثرت في مجرى التاريخ المحلي والعالمي وهي:الثورة الفرنسية عام 1789والثورة الروسية عام 1917 والثورة الإيرانية عام 1979،وكل ثورة من الثورات الثلاث تميزت بخصوصيات وتركت آثارا واضحة في الفكر السياسي العالمي والعلوم الإنسانية،وفي النظرة إلى دور الدين في الحياة:
1.فالثورة الفرنسية تمهدت باجتهادات مفكرين فرنسيين كبار أعملوا عقولهم لاستنبات الشروط النفسية التي يستطيعون بها اقتلاع جذور التبلد والخنوع والخضوع والاستسلام للاستبداد الديني والسياسي من نفوس الناس،فنادى مونتسكيو- مثلا- في أعماله الفكرية "بفصل السلط"،ونادي جون جاك روسو برسم علاقة جديدة بين الحاكم والمحكوم تقوم على مفهوم"العقد الاجتماعي" الذي بموجبه براقب الحاكم ويحاسب،ودعا فولتيير إلى سياسة اجتماعية عادلة تقضي على التفاوت الطبقي،وأدت الثورة أولا إلى القضاء على الملكية المطلقة،وثانيا إلى القضاء على الامتيازات الإقطاعية للأرستقراطيين،وثالثا إلى القضاء على نفوذ الكنيسة التي ألغت المطالب المادية للإنسان واستغلته باسم الدين الذي احتكرت تأويله،وتاجرت به )صكوك الغفران (،وتحالفت مع الإقطاعيين والمستبدين،وفرضت على العلماء تصورها هي للحقيقة العلمية والحقيقة التاريخية،فكافأتها الثورة برفع شعار"اشنقوا آخر ملك بأمعاء أخر قسيس" وبالرفع من شأن الإنسان على الرغم من حدوث نوع من التطرف لما لم تقم الثورة كبير وزن لمطالبه الروحية.لقد استعاضت الثورة الفرنسية عن الدين بتأليه العقل وتقنين حقوق الإنسان والمواطن.
2. قامت الثورة الروسية على أساس الأفكار الماركسية التي انتقل بها لينين من حيز التنظير والتجريد إلى حيز التنزيل والتطبيق وأمدها بالكثير من "اجتهاداته"،وأذكى أوار الثورة غضب العمال والفلاحين نتيجة الأوضاع المزرية التي كانوا يعيشونها،فتم القضاء على الحكم القيصري، وأفضت الحرب الأهلية الطاحنة التي ذهب ضحيتها الآلاف من المواطنين الروس إلى عسكرة الثورة والمجتمع وتخريب البلاد عن قصد لأن لينين كان يريد كسر آلة الدولة ليتسنى له التغيير الجذري فعلا إلا أن الأمر آل إلى عكس مراده فتضخمت أهمية الدولة أيام ستالين الذي اتكأ على المنجزات الصناعية الكبيرة ليرسخ حكما دكتاتوريا دمويا،فلم ير بأسا في التضحية بالحرية الإنسانية في سبيل العزة القومية،وكانت نتيجة هذه السياسة معتقلات"أرخبيل الجولاج" والمنافي السيبيرية التي حُشر فيها أحرار شعوب الاتحاد لاسيما الشعوب المسلمة فيما وراء القوقاز والتركستان وصحاري الكرغيز ،مما أحرج رفيق دربه في الثورة "تروتسكي" فأحوجه إلى تأليف كتاب وصف فيه الثورة بالمغدورة،وغالى منتقدو التجربة الستالينية وعوض أن يلصقوا العيوب بالمذهب والثورة ألصقوها فقط بستالين.
انهار"الاتحاد السوفياتي" وانهارت معه النظرية الماركسية ولم يكن سبب انهيارهما خللا تقنيا يرتبط بالكم الشيئي ،بل كان أصل الخلل يرتبط بالكيف الإنساني حيث ضُرب سياج من المنع والقهر حول المطالب الروحية للإنسان الذي صار مسلوب الإرادة إزاء "الحتميات"، وإذا كانت الثورة الفرنسية قد عملت على تحييد الدين، فإن الثورة الروسية عملت على القضاء عليه قضاء مبرما لأنه – في اعتقادها- يشكل حليفا "للثورة المضادة" ومخدرا يمنع الناس من التفكير في همومهم ومشاكلهم،وهكذا لخصت مقولة"الدين أفيون الشعوب" بجلاء فحوى ذلك السياج ومعناه ومبناه،ولما أدرك بعض المفكرين الاشتراكيين هذا الخلل نادوا باشتراكية ذات"وجه إنساني"،ولكن بعد فوات الأوان، إذ انطلقت شعوب أوروبا الشرقية في حركة ثورية قوية لاسترجاع إنسانيتها وحريتها وكرامتها.
لقد قامت الثورتان الفرنسية والروسية لسبب وجيه ومشروع هو غضب الناس الفطري على الظلم وتوابعه من استبداد سياسي وفساد مالي واستلاب ثقافي.
3. قامت الثورة الإيرانية في بيئة حضارية إسلامية،وعلى أساس المراجعات والتراجعات التي أدخلها الخميني على الفكر السياسي الشيعي تحديدا؛فالمعروف أن الشيعة لم يكونوا يضعون في حساباتهم "إمكانيات الوصول إلى الحكم، ولهذا كانوا يعتبرون فرصة الدولة عندهم هي فرصة دولة الإمام المهدي"[3]، ومن ثم انزوت مراجع التقليد بعيدا عن الاهتمام بالشأن السياسي العام، واستقالت من كل مهمة تغييرية وأرجأتها إلى ظهور "إمام الزمان" الغائب الذي سيملأ الأرض عدلا بعد أن ملأت جورا، وكان مرمى طرف الفقهاء إذا فسدت الأوضاع أن يتقدموا بالنصح إلى الحاكم ويحذروه مغبة التمادي في الظلم ،وظهرت عقلية الانتظار حتى في مناقشة قضايا فقهية كالخمس ومَصْرفه والجهاد وإقامة الجمعة[4].
ولذلك بدأ الخميني تحركه نحو الإطاحة بالشاه وتأسيس الجمهورية الإسلامية بالعمل على زحزحة جماهير الشيعة عن عقلية الانتظار والعزوف عن المشاركة في العمل السياسي، فشرع – منذ أوائل الستينات من القرن الماضي- يلقي دروسه الفقهية على طلبة علوم الدين بالنجف ،وسعى من وراء تلك الدروس إلى إثبات أن نيابة الفقهاء عن الإمام الغائب وولايتهم عامة تشمل أمور الدين والدنيا والحكم، وهذه الفكرة هي صلب نظرية "ولاية الفقيه"، ومثل قيام الثورة هزيمة كبرى للولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني وحكم آل بهلوي الذي اعتمد سياسة تغريبية حاول بها إلغاء الفترة الإسلامية من تاريخ إيران مما أثار سخط الإيرانيين وعجل بإشعال الثورة،وتلقى جهاز المخابرات الإيرانية"السافاك" ضربة قاضية،وأنهت الثورة حكم المَلَكية الذي دام قرونا بإيران،وتمكنت الدولة من استقلال قرارها الاقتصادي والسياسي،مما دفع الغرب إلى نسج مؤامرات عدة لوأد الثورة في مهدها عبر سياسة الحصار الاقتصادي،وعبر دفع عراق صدَّام إلى شن حرب عليها،وأضاع النظام الرسمي العربي فرصة تاريخية لإحداث تقارب عربي إيراني يخدم شعوب المنطقة من غير قفز على الخلافات المذهبية والتاريخية ولكن بتفهمها وتدبيرها، وحدث نوع من الانقلاب في فكر النخب القومية واليسارية لصالح المشروع الإسلامي.
لقد احتاجت الثورة أول شيء إلى الكوادر والتقنوقراط المؤمنين بمبادئها ولذلك كتب محمد حسين هيكل وهو يعني الخميني "إني أسمع هدير مدافعك ولا أرى أثرا لمُشاتك"[5]،وهي ذات الملاحظة التي أبداها عبد السام ياسين فقال:" لم يكن في الحوزات مشروع واضح للبناء يرسُمُ حدود الوُسْعِ، وصراعات القوى العالمية، وضغوط السياسة العالمية، وقسمة الأقوياء للمقومات الإستراتيجية، ومتطلبات الدولة الحديثة،كان من علماء الحوزات الشيعية أمثال آية الله باقر الصدر وآية الله مطهري مستبصرون بالعصر استبصارهم بالنصوص. لكن الذي فجر الثورة بقيادة الإمام الخميني هو العقل التقليدي المستظهر بشعبية المساجد والحسينيات وروافد الحوزات"[6] ،ولما غابت المرونة واختلط علي الثورة منطق الدعوة والبناء بمنطق الهدم والتقويض[7] لم تنجح في رهان طمأنة الجوار،لاسيما عند رفعها المبكر لشعار "تصدير الثورة" فاحتاج الأمر إلى تبديد مخاوف الكثيرين الذين رأوا في الشعار إرادة لتصدير بضاعة الطائفية ملفوفة في ثياب الثورة،وإلى تبديد المخاوف الآنية من الدور الإيراني في العراق،ومن مساندة النظام الدموي السوري الذي يقتل شعبه لمجرد مطالبته بالحرية، والثورة الإيرانية اليوم تقف في مفترق طرق،إما أن تأكل الثورة أبناءها ،فتنطوي الثورة تحت جناح الدولة،ويحكم البلاد طبقة من رجال الدين باسم"ولاية الفقيه"التي هي محل خلاف فقهي وسياسي معروف بين النخب الإيرانية،والأخطر هو أولا الحيلولة دون انتقاد الناس "للولي الفقيه" بما يشبه إضفاء صفات القداسة عليه، وبما يعنيه ذلك من إحالة- ولو غير مقصودة – على مفهوم العصمة،وثانيا :غياب الحكمة عن الكثير من خطابات الرئيس،فيما يبدو أنه يعمل بمبدإ واحد (وهو العزة) من المبادئ الثلاثة التي رسمتها الثورة في بداياتها لسياستها الخارجية:العزة والحكمة والمصلحة،وثالثا:تدخل أجهزة كالحرس الثوري في تدبير الاختلاف بين الدولة والمعارضة،وبعد أن اشتد عود الثورة وتجاوزت أسئلة الوجود والتأسيس لا يدري المرء ما الحاجة إلى مثل ذلك الجهاز، ورابعا: غياب الإدراك العميق لمعاني ظهور أجيال شابة جديدة لا تسعى إلى التخلص من الدين ولكنها تسعى إلى ممارسته بمرح دون تجهم أو اكفهرار أو تنميط للمجتمع،بدون هذا ،وبدون توسيع مجالات الحرية لن يتأتى لإيران باتباع سياسة"الإجماع القسري" تقوية جبهتها الداخلية في وجه المؤامرات الخارجية التي تحصي عليها الأنفاس وتتسقط الأخطاء والزلات والعثرات.
"العدل والإحسان" وفلسفة الثورة وإعادة البناء
يخرج القارئ لأدبيات"العدل والإحسان" بنتيجة فحواها أن تمة تصورا عاما وخريطة طريق لعملية التغيير الجذري وإعادة البناء،تصور يقتضي بسطُه رسم أمور:
1. تأصيل الجهاز المفاهيمي:أولى عبد السلام ياسين أهمية قصوى لمسألة المصطلح حتى لا تلتبس المفاهيم فيحدث التخبط في الحركة،لذلك اشتهر عنه إقامة فروق بين كلمتي"الثورة" و"القومة"،أولا من منطلق تاريخي "فالمسلمون في تواريخهم يستعملون كلمة "ثورة" للدلالة على خروجٍ عنيف بغير حق. .ويستعمل مؤَرِّخونا كلمة "قومة" للإخبار عن الخارجين على الظلمة بحق. وكلمة "قومة" موحية بالقوة والثبات والثقة. لذلك نستعملها تميزا في الاصطلاح لنَنْتَقِدَ أساليب العنف وحرق الناس وبقْرَ بطون النساء وإطفاء السجائر في عيون بني آدم وما إلى ذلك من إفناء الطبقة البائدة وتسليط المخابرات"[8]،وثانيا من منطلق تقييم تجربة ثورية عنيفة سعت إلى إفناء خصومها وهي تجربة الثورة الروسية،إلا أنه بعد أن يشترط النهج السلمي لا يجد مانعا من استعمال الكلمتين"الثورة"و"القومة"،هذه الأخيرة ليست عملا انقلابيا،ولا بوسع تنظيم واحد أن ينجزهاوينسبها لنفسه فهي عملية طويلة وشاقة تشترك كل فعاليات المجتمع في تحقيقها.
2. ضرورة مراعاة الخصوصية: ولكن بشكل لا يعيق مبادرات التغيير بدعوى الخصوصية نفسها،فلا يجب حصر"أسلوب الإزالة ولا مسار المناورة السياسية في صورة واحدة لاختلاف الأحوال في الأقطار، وتقلبها في الأزمان. وقد يكون العمل المسلح والحرب الأهلية بين المسلمين أبعد هذه الصور عن المنهاج النبوي. بل ذلك كذلك لا شك"[9]،والحديث هنا عن الاختيار الابتدائي التي يتعين أن يكون سلميا أما إلجاء الثوار إلى السلاح كما حدث في ليبيا فشيء آخر.
3. توجيه الغضب الفطري:" يكون الغضب الفطري البشري على الظلم، الغضب المختزن في نفوس المحرومين، الطاقة الفاعلة التي تحمل في ثناياها المبعثرة امكانيات الثورة"[10]،ولطالما استُغضِبت شعوبنا عندما صُودر حقها في اختيار من يحكمها،وعندما حُرمت من الحريات الأساسية التي كفلتها شرائع الأرض والسماء،وعندما نُهبت أموالها وهربها المستبدون،والإمام الشافعي رحمه الله قال:"من استُغضِب فلم يغضب فهو حمار"؛ لذلك دعت"العدل والإحسان" في البدايات الأولى لتأسيسها إلى أن تحتل الاعتبارات التفصيلية لغضب المستضعفين مكانها في فكر الحركة الإسلامية وشعاراتها وتخطيطها لتعبئة الأمة،لأنها تمثل في المجتمعات العربية والإسلامية القوة المعارضة الأكثر تنظيما ،والأوسع قاعدة شعبية،فتتكلم"لغة الخبز اليومي والأجور، والصحة، والسكن، والمدرسة، والكرامة، وتفصل كل هذا لرجل الشعب، المستضعف القاعدي تفسر له لم يجب أن يغضب، وكيف ومتى، ومع من"[11]،وحذرت من ترك الغضب الفطري الطبعي يقود المعركة لوحده بدون ضوابط أخلاقية مما سيؤدي إلى بروز التصرف الغضبي المُحطِّم[12].
إن الغضب للمستضعفين حافز مُعتبر وأسمى منه حافزالغضب لله،فيتفرغ القلب لعبادة الله وتأليهه وحده عندما يتفرغ من شواغل الرزق وذلك بأن يحصل الإنسان على كفايته و سبيلها هو العدل في القسمة،ومن شواغل القهر والاستعباد بأن يحصل على حريته وكرامته وسبيلهما العدل في الحكم،ولذلك" ينبغي أن لا نكون من البلادة بحيث ننتظر قومة مجردة للحافز السامي وحده، ولا أن نكون من السطحية بحيث نترك الحوافز الدنيا تقود المعركة، المحسنون المتجردون لله قلة عددا، والعضل اللازم للقومة غذاؤه الغضب الطبعي"[13]،ومهمة الإسلاميين هي "أن يحقنوا الغضب الشعبي بجرعات إيمانية. وبلقاء الحافزين، وبقيادة الاعتبار الإحساني، وهيمنته، وجدارته وقدرته على ضرب المثال، نرتقي بالحركة عن مستوى الغضب الجماهيري إلى مستوى القومة لله"[14]،ستوفر الثورة الشغل والخبز لا شك ولكن ليس بالخبز وحده يحيى الإنسان،وهنا يبرز الضابط الثاني من ضوابط"القومة" هو ضابط الالتزام التام بالشرع (وحيثما كانت المصلحة فثم شرع الله)، بالإضافة إلى الضابط الأول وهو التعفف الكامل عن سفك الدماء[15] .
4. الواقعية واجتناب المزايدات الشعارية:الواقعية من حيث ضرورة الوعي بالعقبات التي تواجه عملبة إعادة البناء بعد قيام الثورات،أما الشعارات فما لا يُترجم منها إلى أعمال يُسهم في تغميض الأحوال على الناس، ومن أكبر الثغرات غياب تصور متماسك لما بعد الثورة، وتعويض البرنامج بالتفاؤل الطليق وبالأحلام المجنحة،ولذلك حذر ياسين الإسلاميين أنفسهم من الانزلاق إلى المزايدات الشعارية "فيوهموا المسلمين أن "الحل الإسلامي" مفتاح سحري وتعويذة ملكوتية وعملية غيبية يتبخر أمامها شياطين التخلف وأبالسة البؤس وفراعنة الظلم. لا يوهمونهم أنها رُقية مطهرة تُذْهِبُ أرجاس الماضي بين عشية وضحاها، وتبرئ الوضع المريض من عاهاته، وتحمل الأعباء عن الكواهل، وتطعم الجائع اليومَ قبل غد. لا يوهمونهم أن الملائكة تتنزل أفواجا بالرحمة العاجلة لمجرد أن الملتحين الصادقين أمسكوا زمام الحكم وجلسوا على مِنصة السلطة.لا يوهمونهم أن "الحل الإسلامي" دَوْرة كَفٍّ تأتي من سماء العجائب بالنعيم تُدِرّه على الخلق، وبالرخاء والأخوة والكفاية والقوة بلا تعب.بل يلزم أن يُعْلِموهم ويعَلِّموهم أن "الحل الإسلامي" للمشاكل المعيشية التي حولها تَحْمَى السوق السياسية هو اجْتهادٌ وجهاد مدعُوٌّ للمشاركة فيه لا للتفرج عليه واستمطار بركاته كل مسلم غيور على دينه، وكل ذي رصيد خلقي ومروءة وقدرة وعلم"[16].
5. العفو والصفح(اذهبوا فأنتم الطلقاء): التصور القبلي لطرق إعادة البناء يلزمه أن يدرك الحاجة الملحة للكوادر والطاقات العلمية والفنية والفكرية والسياسية والاقتصادية وإن تَلبَّست ببعض الظلم والفساد قبل الثورة،يقول عبد السلام ياسين:" الفكرة الأولى التي تسكن النفوس الغازية المنتقمة هي فكرة مطاردة أعداء الأمس تَلبِيَةً لِشَهْوة تُضَرِّم نارَها الأحقاد. وهي فكرة يجب أن يفر منها أصحاب المشروع الإسلامي فرارهم من الطاعون. لذا يجب أن تسطر الصفحة الجديدة بمداد العفو و التجاوز. لنصابر ونفاوض العقليات المتمردة التي يستهويها العنف وليتمكن كل واحد من تغيير ما به واللحاق بركب التجديد وإعادة البناء"[17] وإن أي ثورة إن جاءت" تُنَحِّي ذوي الكفاءات، وذوي الغِنَى والخبرة، ورجالَ التجربة والاطلاع، بمجرد أنهم ساروا شوطا أو أشواطا مع تيار الفتنة الجارف، لا يكادُ يبقى في يدك إلا عروق بلا حياة، وجِذْعٌ بلا فروع، وشجرةٌ صماءُ ميتة، لا تُورِق، ولا تُزْهِرُ، ولا تُثْمِرُ"[18].
وتدرك "العدل والإحسان" أيضا الحاجة الملحة إلى"العفو الاقتصادي"، فإذا كان لابد من تفكيك جماعات الضغط الاقتصادية الإقطاعية فلابد كذلك من الحيلولة دون تحطيم الجهاز الاقتصادي الموجود إذ أن "المحافظة على حياة الناس وحماية المال المشترك وتزويد البلاد بجهاز اقتصادي متين سيدعونا إلى تطبيق سياسة اقتصادية تتناغم فيها الصرامة الأخلاقية مع متطلبات الضرورة الواقعية دون المساس بالمبادئ الأساسية. .لابد إذا من تعبئة وتهذيب الحياة العامة مع التحرز من الرخاوة البلهاء. فرغم أن ركب التنمية لا تقوده الأوامر العسكرية، إلا أن صفحة التسامح الجديدة يجب أن تفهم الجميع أن عهد الاستخفاف بالقانون قد ولى إلى غير رجعة ،ستفرض مرحلة التقشف الضرورية للإقلاع الاقتصادي وركام المشاكل الموروثة عن الزور أن يكون للتعبئة والتهذيب الأخلاقيين - بعد فترة العفو اللازم- الحزم حين اتخاذ القرار.،ستضطرنا الحاجة الملحة إلى الاستثمارات المنتِجَة وتخوف الرساميل الأجنبية النافرة من المخاطرة دون ضمانات قوية -إضافة إلى فضيلة العفو الجوهرية في الإسلام- إلى تحمل الأموال المشبوهة،لكن إذا علمنا أن الرأسمال الأجنبي والمهارة الأجنبية رغم ضرورتهما لا يمكن أبدا أن يعوضا الادخار المحلي والمهارة البلدية فسندرك مدى الحاجة المطلقة إلى مداراة الرجال والأموال"[19].
خلاصة القول،إن ما تشهده منطقتنا الإسلامية من ثورات يظهر الحاجة الأكيدة إلى "علم ثورة" متحرر من إسار التجربتين الفرنسية والروسية،ويمكن لأفكار"العدل والإحسان" أن تكون جزءا من ذلك العلم الذي يحضر فيه الدين بقوة،وغدا يوم الجمعة عنوانا لهذا الحضور،فبعد أن وظَّفه المستبدون سياسيا وأحالوه إلى يوم لتقديم آيات الولاء والإخلاص ودعوة الناس للخضوع لبيعات القسر والإكراه،أحالته الشعوب إلى:جمعة للغضب وأخرى للزحف،وأخرى لسلمية الثورة،وأخرى للرحيل،وأخرى للحسم،وأخرى للموت ولا المذلة،وأخرى للاستبشار بسقوط بشار،وأخرى للنصر،وأخرى للمحاكمة والتطهير،ليصدق في يوم الجمعة قول رسول الله –صلى الله عليه وسلم- (خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة)[20].
******
[1] هود/
[2] الأنبياء/25
[3] محمد حسين فضل الله، "الاجتهاد وإمكانيات التجديد في منهج التفكير"، مجلة المنطلق، عدد 111، ربيع 1995، ص: 82.
[4] محمد جواد مغنية، الخميني والحكومة الإسلامية، ص: 60- 61
[5] هيكل،مدافع آية الله
[6] العدل ص 47
[7] انظر:العدل ص 47
[8] نفسه 236
[9] عبد السلام ياسين،الإسلام والقومية العلمانية،ص 292
[10] المنهاج النبوي
[11] نفسه
[12] أنظر نفس المرجع
[13] نفسه
[14] نفسه
[15] نفسه 389
[16] العدل
[17] الإسلام والحداثة ص 234
[18] إمامة الأمة 34
[19] الإسلام والحداثة ص283
[20] صحيح مسلم


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.