- ألا تملّ هذه الفتاة من العدو كلّ صباح؟ - مثلما لا نملّ نحن من شمّ "السيليسيون". - الناس فيما يعشقون مذاهب. - أكره الفلسفة. - لا عليك.. كانت مجرد جملة سمعتها فكرّرتها.. - يقولون أنها ابنة أحد البرلمانيين. - سمعت هذا أيضا.. أترك "حميدو" مع شمّ "السيلسيون" وما يعتقد أنه فلسفة وأنهض من مكاني متثاقلا غير راغب في فعل شيء وليس لديّ وجهة محددة. أمامي، قرب فندق الريف، تقف حافلة سيّاح. أخيرا، يبدو أن رزق الصباح قد أتى. أحمل في يدي بضعة إكسسوارت وتذكارات يفترض أن تمثل طنجة. طوال حياتي في هذه المدينة المجنونة لم أشاهد تذكارا واحد يعبّر عن هذه المدينة حقّا. إنهم يبيعونهم وهما، وأنا أول البائعين. لكن السياح لا يهتمون كثيرا لأهمية التذكار بقدر ما يهمهم أن يثبتوا أنهم زاروا مكانا ما فعلا. فجأة خطرت لي فكرة عرض الكتاب على أحدهم أو إحداهن، خاصة أنني سمعتهم يتحدثون بما أعتقد أنه لغة إنجليزية. أسرعت إلى الحفرة المعلومة التي لم تكن بعيدة لحسن الحظ وعُدتُ بالكتاب. كانوا منهمكين في عملية إنزال الأمتعة. لا يبدو أنه خيرُ وقتٍ لعرض الكتاب. أمرّ به عليهم وأنا أفرد صفحاته مُغريا وعيني على حارس الأمن الخاص الذي بدا منشغلا بعملية نقل الأمتعة ولم ينتبه لي لحسن الحظ. - وات إيز ديس؟ - هه ! - سي كوا سا؟ - آن ليفغ.. أمبوغطون مسيو.. طغي أونسيان.. - نو إنغليش؟ - نو مسيو.. فغونسي فغونسي.. - أوكي أوكي... ليت مي سي.. فواغ.. فواغ.. جو فو فواغ.. أمدّ له يدي بالكتاب بحذر. شابّ بشعر أشقر ناعم ينسدل على كتفيه، يقاتل كي يقول كلمة صحيحة بالفرنسية. يتصفح الكتاب بهدوء. تجحظ عيناه لهنيهة ثم يعود لهدوئه. أهذا اهتمام منه أم مجرد حركة عادية؟ - كومبيان؟ - 5 آلاف أورو..! لا أعرف ما الذي جعلني فجأة أرفع الثمن إلى هذا الحد الذي لا أصدقه أنا نفسي، لكن لحظة الجحوظ تلك تركت في نفسي أثرا لم أستطع تجاهله. ثم ما الذي لديّ لأخسره؟ هذا الكتاب إما يساوي ثروة أو يساوي ما تساويه أوراق الكلينكس التي أبيعها من حين لآخر وقد يكون ربحها أفضل منه. انفجر ضاحكا قبل أن تنتابه نوبة سعال حادّة، احمرّت معها عيناه، ثم قال : - نون.. نون.. طوا فو؟ - وي، جو سوي فو.. أعقد ساعديّ أمام صدري مصرّا متحدّيا. يواصل التصفح وكأنه يفكّر جادا في عرضي. هل غمزت الصنارة فعلا؟ هل يكون هذا الحدث نقطة تحوّل، وأستطيع أن أبدأ الحياة العادية التي حلمت بها دائما؟ - أوكي.. با دو بغوبليم.. مي جو فو ليغ (أريد أن أقرأه).. دومان لاغجون.. - لا لا.. لا يمكن أن تحتفظ به إلى الغد.. سلم واستلم.. أعطني المال الآن أو اتركني أذهب إلى حال سبيلي.. - أوكي.. تيان. يسلّمني الكتاب ببساطة ويستدير مغادرا. اللعين! أجاد بشدة لعبة التجاهل في اللحظة الحاسمة. الآن، إما أن أعزم أو أحْجِم. ناديته فالتفت. سلمته الكتاب، وأنا أقول محذرا: - دومان.. لاغجون - وي وي.. بيان سوغ كنت قد وضعت في ذهني خطة سريعة وهي المبيتُ في نفس مكان أمس، مما يتيح لي أن ألمحه بمجرد خروجه في الصباح. لحدّ الآن لا أصدق أن الأمر قد حدث فعلا.. أو بالأحرى قد يحدث. هل يمكن أن يسلمني المبلغ ؟ هل يثق بشخص تبدو عليه علامات التشرد؟ هل الكتاب مهم إلى درجة تجعله يتجاهل كل هذا ويدفع الثمن لي فعلا؟ أسئلة كثيرة جالت في ذهني وأنا أتوسّد كفي وعيني على حافلة السياح تلك، آملا أن يطلع عليه بسرعة ويوافيني بثروتي المرتقبة. مرت الأربع والعشرين ساعة وكأنها 24 يوما. في الثامنة صباحا بدأ الوفد السياحي يصعد الحافلة مزمعا القيام بجولة على ما يبدو. أقترب وأنا أنتظر ظهور صديقي الأشقر. يصعد الجميع وتغلق الحفلة بابها وتبدأ في التحرك. لا هذا غير معقول! هناك خطأ ما! أسرع وأقف معترضا طريق الحافلة فينهرني السائق آمرا بالابتعاد فآبى. ينزلُ ناويا إبعادي فأمسك بياقته مستعدا لشجار لا تهمّني نتائجه . ينزل بعض السياح ويسألونه عن المشكل فيجيبهم. يستمع منهم وهو لا زال ممسكا بعنقي أيضا، ثم يستدير لي صائحا: - لقد سافر هذا الذي تسأل عنه أمس ليلا بشكل مفاجئ.. قال لهم أن طارئا حدث له وأنه لن يكمل رحلته السياحية..هيّا ارحل قبل أن أضعك تحت عجلات هذه الحافلة وأدهسك.. هيا أيها المتسول.. "مْشي ن ال......" هذه المرّة لم أرد عليه، وتركته يدفعني بعيدا بقوة جعلتني أترنح دون سقوط. ذاهلا تماما، أحاول أن أستوعب إن كان ما يحدث حقيقة أم كابوس. هل تعرضت للخداع والسرقة بهذه البساطة؟ أنا ابن الشارع الذي لا يشقّ له غبار؟ هل يفرّط ذاك الأشقر في رحلته لو لم يكن الكتاب شديد الأهمية والقيمة؟ يا إلهي.. أيّ غبيّ أنا... ما العمل الآن؟ (يتبع) رواية "المتشرد" -3- .. وفاة حزينة ومفاجئة لمتشّرد وسط الشارع