حكايات هنا وهناك ... قاسية مرة ، نتجرع الألم والمرارة والضياع ونحن نحكيها ، ولكنها أكثرعلقمًا لمن يعيشها. انتظار . ما زال الوقت مبكراً . وقفت أنتظر الحافلة لم يكن يقاسمني الإنتظار سوى سيدة واحدة كانت تقف بعيدة عني ، ممسكة مظلتها ، تتصفح عناوين صحيفة بدا لي نصفها مبللا بفعل حبات مطر كبيرة كانت تسقط بشكل متقطع منذرة -ربما- بقدوم عاصفةٍ ما. تفقدت عقارب الساعة المتراكضة في دائرة سجنها الأبدي ، شعرت وكأنها لا تتحرك. كراسي الإنتظار في المحطة كانت فارغة بشكل جعلني أشك انني أنتظر "الأتوبيس" المقصود . نسيت أن الأتوبيسات هنا ينتظرها الركاب بمواعيد محددة ، وأنا أتيت دون موعد. فلأتحمل تبعات ذلك . وحدكِ بلادي من يتقنُ تفاصيل.. الجراح. تذكرت "أتوبيسات" بلادي . تضيع ساعات وساعات تنتظر خلالها وصول الأتوبيس إلى المحطة / الموقف . انزعاج وقلق وتوتر. وكثيرا ما يختارالبعض البحث عن وسائل أخرى كحل وسط ، (وهذا- طبعا- بعد الدعاء إلى الله بنزول لعنته على كل متسبب في هذا التأخير). ومن تحدى وانتظر قدوم الأتوبيس فلن يكون أكثر حظا مِن ذاك الذي غادر المحطة.ازدحام كيوم الحشر ، وانتظار لِأُوتوبيسٍ مزدحم أشبه بعلبة سردين . كراسي متسخة مقطعة لا ترى منها الا أحشائها المعدنية الداخلية . الأرضية مهترئة تملأها ثقب كثيرة غطتها قطع كرطون. في فصل الشتاء يتسرب ماء كفيل بغسل أرجل كل الراكبين . وصيفاً ، حرارة تكفي" لشواء " أرجلك وأرجل كل الجالسين . آه مدينتي الجميلة المتعبة ، وحدكِ من يتقنُ تفاصيل.. الجراح. عاهاتك يا بلد . وبينما انا مطرق في بحر تفكيري ، أقلب صفحات الماضي القريب ، بين هدوء المكان "هنا " ، وازدحام واشتباكات المكان "هناك". إذا بصوت "الأتوبيس" المنتظر يستوقفني . وصلتِ الحافلة ، هممت بالركوب . وفي الباب سمعت صوتا متقطعا يناديني : - مِينِيرْ مينير(= سيدي سيدي..) هلا ساعدتني...لا أستطيع ركوب الحافلة ...ولا أملك بطاقة "الصعود" .. نسيت بطاقة الإشتراك ... ولا أملك ثمن تذكرة الركوب ؟ التفتت الى مصدرالصوت المتقطع خلفي ، بدت لي امرأة تشبه أمهاتنا البسيطات ودون أي تفكير قلت: - تعالي اركبي لا بأس سيدتي .. لكِ ما طلبتِ. اقتربتْ السيدة من سلم الحافلة القصير، همت بالركوب ، لم تستطع رفع رجلها على السلم ، كادت تنزلق .. حاولت مساعدتها. وبمجرد أن صعدت السلم سمعتها تردد بلكنة أهل الشرق "يا الله يا كريم ..يارب "... الله يفرج همي وهم المهمومين يارب ". لم اسألها عن اصلها وفصلها تفاديا ربما لأي ارتباك أو"خجل". تذكرت فقط أن هنا أيضا كما في كل مكان يكثر المهمومين "المتسولين" ويظهرون فجأة مثل الأفكار الغريبة التي تراودنا أحيانا . تذكرت محطات واسواق وشوارع بلادي ...هناك . تصادفك أعداد من المشردين المتسولين ، باتت صورهم وهم يقفون في مفترقات الطرق وعند الإشارت الضوئية يحملون "عاهاتهم" يستجدون من خلالها مساعدة "مالية" منظرا مألوفا...جدا. بعضهم تراه يمد يده للمارة ليطلب أكلا أو مساعدة أو حتى سجائر... وفي الحافلات تراهم يصعدون ليعزفوا او يغنون ، وحين ينتهون "يدورون" على مقاعد الركاب لجمع ما تجود به اياديهم...إن جادت بشيء!!! . وتذكرت أن هنا ايضا ، يركب الحافلات بعض "المتسولين" وتراهم - كما هنالك- يعزفون او يغنّون ليطلبوا أكلا أو مساعدة .والفرق بين هنا وهناك هو -فقط- أن هنا،عندما لا يحصل "المغني/ المتسول" على "المساعدة" لا يتوسّل كما يفعل المتسوّلون "هناك" ، فهو يستمر في العزف مبتسما و يواصل الغناء.لا استجداء..لا كلمات .. ولا يقول: "الله يهديك" .. أو "الله ارحم والديك"... بل يقف ينتظرالمحطة القادمة ، لينزل راضيا مرضيا !!. تذكرت مقاهي بلادي . تجلس لشرب فنحان قهوة ... تمر أمامك فتاة او امرأة ؛ تضع على الطاولة ورقة مكتوب عليها كلام معتاد تكاد تحفظه: أنا من (...) أرملة ..مات زوجي ..ترك لي أولادا.. لا عمل لي ...الخ الخ الخ. وحين تنتهي من توزيع الأوراق تعود بعد وقت قصير لتجمعها و.."الغلة " (طبعا) . ولكن ولأن "اللعبة" انكشفت وتآكلت خيوطها فلا تجمع المسكينة من فوق الطاولات الا نفس الورقة إياها. تحملها وتعود حزينة بائسة مشردة تعصف بها الحيرة...والأوجاع ... آهٍ ، كم كثرت عاهاتك والحكايات فيك يابلد... (فُوبيا) وخوف غير مبرر !. تحرك الأتوبيس وهو تقريبا لا يحتوي على أكثر من عشرة راكبا. اقتربت من كرسي خال . حييت سيدة عجوز كانت تجلس أمامي في الجهة المقابلة وجلست . لمحت طفلا يدخل الحافلة .. ملامحه "مغربية".اقترب منا ، وجلس أمامي قرب السيدة العجوز . وبحركة لم أعهدها اهتزت يد السيدة بشدة بمجرد أن جلس الطفل بجانبها، وسحبت حقيبتها اليدوية من جانبه. أسرع الطفل بإلقاء التحية.. وكأنه يستدرك الموقف. - صباح الخير سيدتي . وضعت العجوز يدها على حقيبتها وهي تلتفت إلي مصدر الصوت. التفتت اليه وبصوت خافت قالت: - صباح الخير. وضعت العجوز يدها الأخرى على حقيبتها وضمتها الى صدرها. بقي ذهني مشتتاً وأنا جالس إلى جوارهما . - يبدو أنها خافت منه . هكذا قالت فتاة كانت تجلس بجانبي مبتسمة ، تداعب حاسوبها الأنيق. اكتفيت أنا ، بأن حركتُ رأسي موافقاً لها دون أن أتكلم . أحسست كأن عرقا يكسو جبيني ...!! بدأت اُكلم نفسي في صمت بنبرة غضب. اتخيلني مخيفاً ... ثم أخذت أبتسم كالمعتوه. ربما هي أشياء عادية تحدث ... وأنا لم أتعود على ركوب الحافلات من قبل ... لقد تركت سيارتي اليوم عند الميكانيكي ..واضطررت لركوب "الأتوبيس ". للجنون هنا حكاية . بينما أنا غارق في موجة الأفكار والأسئلة استوقفني منظر سيدة أخرى متوسطة السن .. منظر استوقفني وقتها كثيراً. توقفت عن كل الأفكار والأسئلة وناظري موجه إليها. ملامحها "مغربية" . تنادي ابنها وتطلب منه أن يناولها تذكرة الركوب ، تُحرّف اسمه قليلا . هو لا يسمعها فتناديه: - مُو..مُو..مُوتْجي....(= محمد ) تساءلت : - أهو الاندماج ومشاكله ؟ أم هو فقط نداء امرأة يصعب عليها نطق كلمة " محمد ".!!؟ كنت سأسألها او حتى أعاتبها عن تحريفها لاسم لا يختلف اثنين على انه الأسهل في كل الأسماء نطقاً.. ولكن سرعان ما عدلت عن الفكرة. لم أكن في تلك اللحظة أقوى على مواجهة أحد أو ربما خشية من أن يزداد الموقف حدة ولا أستطيع حينذاك تحمل العواقب. رد " الجميل". وصلت الحافلة محطتي المقصودة ... هممت بالنزول و صدى "موتجي" لا زال يتردد بداخلي. وقفت المرأة العجوز بجانبي هي الأخرى لتنزل ...كانت لا زالت متأبطة لقيبتها اليدوية ، افسحت لها الطريق للمرور . - تفضلي سيدتي . - شكرا... سمعتها تتمتم. نزلتْ ونسيتْ مضلتها التي كانت قد وضعتها جنب كرسيها .. - سيدتي , سيدتي لقد نسيتِ شيئاً يخصك . سمعت الطفل إياه يناديها. لم تلتفت ولم ترد , ربما لأنها لم تسمعه أو ربما لانها لا زالت متأبطة لحقيبتها اليدوية وخائفة !!! سارت خطوتين أو ثلاث قبل أن يلحق بها ، أمسك بطرف فستانها . - سيدتي لقد نسيت مظلتك داخل الأتوبيس . الفتتْ اليه في انزعاج , مدتْ يدها المرتعشة.. امسكت المظلة , نفضتها بيدها ..ابتسمت في وجه الطفل . وراحت تنظر اليه بعينين زائغتين وهمت بالانصراف بعد أن شكرته. حرقة الأسئلة. سرت أجر قدميَّ وانا غير مصدق ما يحدث.. كنت أتساءل في حسرة وكأني أحاسب أحداً في عنف : - يا لسخرية الأقدار ... ألم يكن هو نفس الطفل الذي خافت على محفظتها منه ؟ نظرت بنظرة متحسرة من وجهي الحزين في اتجاه السيدة العجوز متساءلا مندهشاً . - هل كان يبوا لها الطفل بالفعل مخيفا أو ربما سارقا ...؟ - هل هذه نهايتنا هنا... هل نحن مخيفون لهذه الدرجة ؟ خطوت بعض الخطوات إلى الأمام . وكأني تذكرت أمرا ما ،أسرعت خطواتي في اتجاه السيدة العجوز وصلت اليها ناديتها : - سيدتي... سيدتي...هل تسمحين لي أن أسألك سؤالاً خاصاً. ؟ ألتفتت العجوز نحوي ، صمتت للحظة ثم قالت بلا رغبة واضحة في الكلام . - بالطبع ... لا بأس . وبدون أي مقدمات سألتها: - لماذا تَحسَّستِ محفظتك اليدوية ووضعتِ عليها يديك حين جلس الطفل قربك في الحافلة ؟ تجاهلت سؤالي بسؤال أخر . - ماذا تريد ؟ لا اريد شيئا سيدتي لا اريد سوى جوابا ينتشلني من قاع هذه الحيرة وهذا الحزن الذي ينتابي ، ينتشلني الى حقيقة بعض الأشياء أو اقل قليلا. لا اطلب منك شيئاً سيدتي ، كل ما اريده جوابا على سؤال حيرني كثيرا... جوابا حقيقيا يجعلني احيا بسلام وانسى هذا الألم الذي يحطمني. فأجيبيي سيدتي فأنا متعبٌ والأسئلة ترهقني: -- لماذا تَحسَّستِ محفظتك اليدوية ووضعت عليها يديك حين جلس ذاك الطفل قربك في الحافلة ؟ - ألأن شعره ليس أشقرا وعيناه ليستا زرقاوين...؟ أم -فقط- لأنه (يبدوا) لك .....مغربياً. ؟ قاطعتني بعد أن استدارت نحوي ، قائلة بهدوء وثقة عالية لم أكن أتوقعها : - نعم قد يكون ذلك هو الجواب على سؤالك.. فأنتم المغاربة أصبحتم تخيفوننا ! قاطعتها بحدة قائلا : -لماذا... وكيف أصبحنا نخيفكم ؟ توقفتْ عن السير قليلا وتطلعت في وجهي قائلة: - مِن فعل أفعالكم وما نقرأ عنكم في الصحف والمجلات. قاطعتها أنا الآخر قائلا : - الا تشاهدين -سيدتي- وتتحدثين إلا عن مساوئ البعض منا ، وتختبئين حين تُنشر محاسننا.أم أنه لا تصلك سوى الصحف التي تكتب عن بعض المراهقين هنا وحماقاتهم . أعيدي حساباتك سيدتي .وصححي معطياتك . فليس كل المهاجرين هنا "مجرمين "!! - كيف لا ..وماذا عن حالات السطو ، والسرقة ، والتحرش ، وتهم أخرى كثيرة تُوجه للمغاربة هنا . - نعم سيدتي. هي مخالفات فردية لا تختلف في دوافعها عن أية مخالفة يرتكبها هولندي آخر ، فكثير من الهولنديين يرتكبون نفس المخالفات ، فلماذا تنظرون لتلك الحماقات المرتكبة من بعض المراهقين من المهاجرين/المغاربة بشكل مختلف...؟ - أوليس هو نفس الطفل الذي خِفت منه هو نفسه الذي أعاد اليك ما نسيتِه في الحافلة ؟ خلاصة الحكاية....سيدتي. ما شاهدته اليوم سيدتي داخل الحافلة هو عالم مصغر لعالم كبير نعيش فيه ... طفل رأيناه معاً يدخل الحافلة .. فرحا كطير يفرش جناحيه للسماء ، يفتح عينيه في الشمس .. يحاول مبتسما أن يتعلق في حزمة ضوء ، يتأرجح كالصبيان . وأنتِ سيدتي تأبين إلا أن تتغلغلي في جراحات ذاكرة معتقة مثخنة بالجراح ... تغتالين بنظراتك كل خيوط الأمل المعلقة بأحلام الأطفال. تصنعين تُهما مقيتة قذرة تافهة جاهزة معلبة لم يسلم أي طفل مغربي إلا وألقيت عليه . ما كنت أدري أن خلف بريق جمالك المزيف "سيدتي العجوز" ظلمة حالكة ، فيها سيدتي تتوه كل أحلام الصبايا في الخلاص . ويبقى صدى البكاء المختنق ،هو صوت قصصنا المكتوبة هنا بمداد الأسى والألم .. سيتداولها جيل آخر قادم لامحالة و-حتما سيدتي- لا...ولن يشبهنا أبداً. هي حكايات هنا وهناك ... قاسية مرة ، نتجرع الألم والمرارة والضياع ونحن نحكيها ، ولكنها أكثرعلقمًا لمن يعيشها.