من صندوق المكافحة والتضامن... إلى إقرار الضريبة على الثروة حقا إنها أزمة اجتماعية واقتصادية عالمية غير مسبوقة، قوامها فرض تدابير احتياط وحذر متعددة، خوفا من تمدد جائحة عالمية لفيروس "كورونا المستجد" الذي لا يرى بالعين المجردة، لتقوم بذلك حرب ضد عدو خفي قهر كبار الدول باقتصاداتها الهائلة، فرض على الجميع الاختباء منه، وتفادي لقاء غير مرحب به معه، بل أزم العلاقات الاجتماعية وفرض تباعدا بين الأفراد والجماعات، فبموجب حضوره المرعب أغلقت المدارس والمساجد والمقاهي والمطاعم والمسارح ودور السينما والملاهي وغيرها...أغلقت أيضا المصانع والمعامل إلا لماما لمن استمرار حركته يشكل ضرورة أساسية لتأمين الغذاء وبعض الحاجيات الضرورية. فبات إذن فيروسا بيولوجيا غير معروف المصدر حتى الآن، قهر مختلف الحكومات والأنظمة وسبب ركودا اقتصاديا وآثارا اجتماعية صعبة جراء إعلان حالة الطوارئ الصحية، التي جعلت أكثر من 60 في المائة من ساكنة العالم حبيسة البيوت باختلاف أنواعها وأشكالها...، كما تختلف الفنادق بنجومها، فهناك المجال الفسيح والجميل للبعض وهناك المجال الضيق الموبوء أصلا، أو المنعدم للبعض الآخر...، وما أكثرهم في زمن أزمة المساكن وتضخم ساكنة المدن الكبرى والمتوسطة وضيق المساحات العمرانية واتساع رقعة الفقر والحرمان، مقدما هذا الفيروس بذلك نفسه واسمه، عنوانا بارزا اليوم للعالم ملقنا له دورسا للتاريخ المعاصر، إذ إنه وفي تقييم أولي ظاهري برزت إلى الوجود أزمات اجتماعية واقتصادية جديدة تولدت عن هذه الأزمة الصحية المفاجئة. وهي الأزمة التي جعلت نساء ورجال الصحة والأمن والتعليم في الواجهة، جنودا محاربين لهذا العدو غير الطبيعي، وهنا برزت الحاجة إلى توفر مكانيزمات سير منظومة صحية قوية ومؤهلة، بل وبالأساس، تظل الحاجة ثابتة إلى بناء نظام تعليمي قوي، حي، منتج، مبدع ومبتكر، علاقة بأمن وأمان يتوقف عليهما استقرار النظام السياسي للدولة ومؤسساتها، لتكون المعركة القائمة اليوم ليست بسلاح الطائرات الحربية والصواريخ والقنابل بل بسلاح العلم بإيجابياته وسلبياته، والقدرة البشرية على العطاء والصبر والتحدي في مجتمعات لا بد أن تنعم بحس إنساني وطيد ووطنية صادقة وتضامن اجتماعي كبير. هكذا انطلقت بلادنا منذ الوهلة الأولى متخذة عدة إجراءات استباقية وطنية قوية للحد من امتداد هذا الوباء وانتشاره، فكان أول القرارات الصائبة والراجحة هو إحداث صندوق حساب خصوصي للخزينة لمكافحة فيروس كورونا (كوفيد 19) بقرار حكيم لصاحب الجلالة "رئيس الدولة المغربية" الملك محمد السادس، وبجرأة وتجاوب سريع للحكومة والبرلمان وباقي المؤسسات الدستورية، فكانت التبرعات والمساهمات سخية، عبر من خلالها جميع المواطنين والمواطنات أفرادا وجماعات وأرباب شركات، والفاعلين من كل المؤسسات والهيئات الوطنية المدنية والعسكرية عن الحب الكبير لهذا الوطن والاستعداد للتضحية من أجله بالغالي والنفيس. لتشكل هذه الظرفية الصعبة فرصة للتفكير الجماعي في ظل وضع مؤلم، له آثار سلبية عديدة على كل المستويات والأصعدة، لتتغير كل المعادلات في ظل هذه الأزمة وما بعدها، مما أبرز وبكل تجرد وبإيمان كبير أن تقوية المنظومة الصحية وتعزيز مواردها البشرية والمالية يعتبر ضروريا بل وأساسيا لكل الأنظمة في عالمنا اليوم، وبالتوازي هناك أيضا منظومة التربية والتعليم والتكوين التي تعد أرضية إنتاج الأطر البشرية المؤهلة، بل وهي المسؤولة عن تعزيز وتمتين حقول البحث العلمي والمعرفة والتطور والتطوير في كل المجالات... إن الواقع يبين أننا في وضع صعب بالنظر إلى حالة القطاعين المذكورين وميزانيتهما في الموازنة العامة للدولة، من خلال القانون المالي الذي تسعى الحكومة إلى تطويره سنة بعد أخرى تماشيا مع المتطلبات المتجددة، دون أن يحدث ذلك التطوير أمام تعدد الإكراهات الاقتصادية المعلن عنها كحاجز، وأمام الحرص الدائم على التوازنات الماكرو اقتصادية للأسف الشديد، مقيدين ومكبلين أنفسنا للأمر الواقع الذي يفرض عدم ارتقاء ميزانيتي الصحة والتعليم إلى مستوى التطلعات وحجمها، حتى نرفع التحدي وبلوغ التنمية المنشودة. إنه الاعتبار الأزلي الذي بنيت عليه صورة نمطية صعبة الفهم عن قطاعين اعتبرا غير منتجين، وهي النظرة المتجهة صوبهما كقطاعين يستهلكان موارد الدولة فقط !، وعلى الحكومة أن تقتصد ما أمكنها وتفتح الباب مشرعا أمام القطاع الخاص، مقدمة شبه استقالة من تدبير قطاعين حيويين بالغي الأهمية، استجابة للبنك الدولي وإملاءاته التقشفية التي فرضت على الدول السائرة في طريق النمو اقتصاديا واجتماعيا والعاجزة ماليا، منذ أكثر من 40 سنة قيودا للدين الخارجي، أدت إلى النتائج التي نعيشها اليوم للأسف الشديد. وعليه، ظل مسار قطار التنمية حبيس محطة الانطلاقة في عدة مجالات بل ويسير ببطء شديد محاطا بكوابح متعددة وأعطاب مختلفة، تتمثل في تراجع المنظومة التعليمية العمومية على كافة المستويات، التي أفرزت نظاما تعليميا طبقيا لا يضمن المساواة وتكافؤ الفرص، وكذا عجزا بينا للمنظومة الصحية التي أضحت هشة عاجزة على تأمين العلاج لجميع المواطنين والمواطنات بشكل عادل ومتساو، في ظل تشجيع القطاع الخاص الذي تغول وشكل لوبيا يمتص جيوب المضطرين كرها لاختياره، فأصبحنا نعيش في كنف واقع مرير بتمثلاته وقيمه، محكم بكوابح تنموية لن تنفك ونحن عاجزين عن الخروج من بوثقة اقتصاد معولم يسهم في تخلفنا أكثر من تقدمنا كمستهلكين لا منتجين. والرسالة اليوم واضحة، أننا أمام خيار أوحد لنمو طبيعي لهذين القطاعين الحيويين، ألا وهو خلق شراكة قوية بين القطاعين العام والخاص، عمقها اجتماعي نبيل وهدفها تنموي اقتصادي، يؤمن الفرص ويساويها بين كل أفراد وفئات المجتمع دون تمييز وتفاوت، كما ينص على ذلك دستور المملكة المغربية، ولا بد أيضا من تقوية ميزانيتهما بما يجعلهما أولى الأولويات، ومنه إلى رفع ميزانية الصحة من 5.4 إلى 10 في المائة من الناتج الداخلي الخام كما توصي بذلك منظمة الصحة العالمية، ورفع عدد الأطر الطبية باختلاف تخصصاتها إلى جانب تطوير البحث العلمي الطبي والتصنيع والابتكار في مجالي المعدات الطبية والأدوية. أما بخصوص منظومة التربية والتعليم فذلك أمر أكثر أهمية مما سبق، حيت إن الأساس التنموي يعتمد على مدخلات ومخرجات منظومة التربية والتعليم والتكوين، وأن المثال الحي الذي علينا بلوغه هو "العقل السليم في الجسم السليم" التقاء شاملا بين تأمين صحة الجسد وصناعة العقل البشري، لكل من جهته واختصاصه في ورش تكاملي بين الصحة والتعليم، ويظل التعليم الجيد سببا في الارتقاء الاجتماعي عبر ضرورة تكافؤ الفرص وتوازن ضروري بين القطاعين العام والخاص، وإلى إعادة الاعتبار للمدرسة العمومية بالدرجة الأولى، وبلوغ التلاقح الثقافي والتمازج الاجتماعي والطبقي، كما كان عليه الوضع قبل عقود، ليكون الولوج ميسرا للجميع، قادرين على الانخراط المعنوي والمادي، ليظل العنصر البشري ذا أهمية قصوى في هذه المعادلة، إذ إن بناء النموذج التنموي الجديد لن يتأتى إلا بسواعد وعقول بشرية مشجعه ومحفزة، متمتعة بالثقة ومتوفرة على الإمكانيات اللازمة للعمل والعطاء، مسلحة بحب الوطن والتفاني في خدمته بكل جد واجتهاد ونكران ذات. لهذا ولأجل ذلك وبحكم الواقع الحالي، وعلى قاعدة التضامن الاجتماعي العميق لعيش الجميع في الوطن الرحب والمرحب بكل مواطنيه ومواطناته بكل فئاتهم الاجتماعية أغنياء وفقراء، كل يجتهد لنصرة الوطن من موقعه وتصنيفه، وكل يؤمن بأن حقه من خيرات هذا الوطن مكفول، وأن الجميع يستحق العيش الكريم والأمن والأمان والاستقرار، ولهذا أكرم الله بعض عباده بالثروة وجعلهم أغنياء عبر تقسيم الرزق وتوزيعه، وجعل الله أيضا في الأرض أناسا فقراء في حاجة إلى الدعم، وذلك عبرة ذات دلالات من أجل إسهام الأغنياء لعيش الفقراء، بل من أجل استقرار وأمن الوطن المحتضن، ففرض الله الزكاة على عباده، ملزمون بها كأحد أركان الإسلام من جهة، وألزم النظام الاقتصادي الوضعي كل المواطنين والمواطنات بأداء الضرائب باختلاف أشكالها، وباختلاف الفئات الاجتماعية والاقتصادية من جهة أخرى، لتشكل الضرائب أهم مورد مالي للدولة، مما يعيد فتح النقاش وبالضرورة بعد خروجنا سالمين وانتصارنا على هذا الوباء اللعين، بشأن إصلاح النظام الضريبي، وإقرار العدالة الضريبية بجدية هذه المرة، دون ضغط من أية جهة أو تهديد من جهات أخرى، بعيدا عن كل المزايدات والحسابات الضيقة. والقصد هنا هو أن تلعب الحكومة دورها والبرلمان أيضا في حسم الأمر، وأن يكون الاستعداد والالتزام قاعدة أساسية لإنجاح كل القرارات القانونية، والأمل المنشود اليوم بعد ما عشناه من تضامن منقطع النظير وسخاء كبير بحس وطني غال أملته هذه الظرفية الاستثنائية التي تعيشها بلادنا، ودفعت إليه جائحة كورونا، التي من حسانتها أن قربت الغني من الفقير أكثر، وأعطت الدروس بأن المال قد لا تفيد في شيء في أوقات الأزمات الصعبة...، وأن العيش الآمن لا بد له من تضحيات معنوية ومادية، وأن الرفاه والبحبوحة لا بد أن يؤدى عليهما، تفاديا لنشوء حقد الاجتماعي ناقم، من جراء بناء طبقي هرمي غير متوازن، وذلك تأمينا للعيش الجماعي ودون حدوث الأسوء، تفاديا ل"ثورة الرعاع والدهماء" المنبثقة إبان الأزمات والكوارث والأوقات العصيبة، ليرسخ لدينا جميعا اليوم الإيمان بأنه لا بد من التصدي لأي توجه ليبرالي "متوحش" قاتل للإنسان والإنسانية. وعليه، ألا يعتبر صندوق مجابهة ومكافحة كورونا، الذي أقره ملك البلاد بنظرة ثاقبة لمعالجة وضع صعب، حيث تتحكم اليوم في بنيان الدولة أزمة صاخبة، أدت إلى انخراط قوي لجميع فئات المجتمع مسهمة في تمويله، ألا يعتبر هذا الأمر فرصة سانحة لتثبيت الأمر قانونيا، وترسيم هذا الصندوق الاجتماعي مستقبلا بأهداف أخرى، وجعل المورد الأساسي له هو إقرار وفرض الضريبة على الثروة، إيمانا بأن الغني معني بها اليوم، وأن فقير اليوم معني هو الآخر لما تتيسر أحواله المادية، من خلال دوران معادلة الإنتاج وتوزيع ثمار التنمية، عبر مدرج الارتقاء الاجتماعي، ليكون بذلك الجميع متساويا في أداء هذه الضريبة، في إطار عجلة دوران الحياة، فكم من غني أصبح فقيرا، وكم من فقير أصبح غنيا، ومنه سيكون هذا الصندوق حيا بمورده هذا، حتى يستغل جيدا في تقوية المنظومة الصحية ومنظومة التربية والتعليم، حيث عبرهما فقط نتخطى الكوابح ونرتقي في سلم التنمية البشرية، ونتميز كدولة راعية متمكنة من اقتصادها ومن ثرواتها، مستغلة جيدا لخزانها البشري الشاب الذي تحسد عليه. فهذا هو المغرب، الوطن الحر القوي، الذي نطمح إليه والذي نرجو بناءه من خلال تكريس الخيار الديمقراطي والتوزيع العادل للخيرات وتثبيت مبادئ العدالة الاجتماعية، مغرب قادر على الانتصار ضد أي خطر داهم كيفا كان شكله ونوعه، داخليا كان أو خارجيا، بعزيمة وإرادة الرجال والنساء والشباب، في رفع تحدي التنمية والتقدم الاقتصادي والاجتماعي عبر الإنتاج المحلي والاستهلاك الداخلي باكتفاء ذاتي، بقوة وفعالية مختلف المؤسسات والهيئات الوطنية، إنتاجا للقرارات الصارمة والحكيمة والقدرة على تنفيذها وتيسير قبولها والالتزام بها شعبيا بوطنية صادقة واعتزاز وافتخار بالانتماء والعيش المشترك. *نائب برلماني عن حزب التقدم والاشتراكية