من قلب الدهشة، وعناصر أخرى، نشأ التفلسف. وأحب الناس الحكمة. لعل جائحة كورونا أن تكون أصابت جميع الناس بالدهشة المرعبة، والقلق المخيف، والرعب، والريبة... واضطرب قادة العالم في التعامل معها، والتفاعل. بيد أن القليل منهم من تعامل معها بالحكمة. وقد قيل على الدوام إن الإنسان أحكم الكائنات التي تدب على الأرض! وهو الأعقل.. جميل جدا أن للامتحان شواهد. لعل رجال السياسة مهرة، يحبون طعم الثريد، ولذلك فكروا في دوران آلات المعامل، وما حسبوا حسابا للأرواح التي تموت. كيف تحل المعضلة، صد زحف جائحة كورونا أو ضمان الطعام لكل فم، لضمان البقاء في نعيم السلطة؟ فأمسكت بتلابيبهم الحيرة التي تلتهم الطمأنينة. أما الكتاب، والمفكرون، والشعراء فلهم فسحة من الزمن لتأمل الظاهرة، الجائحة، وانعكاسها على سلوك الناس، وميل الناس نحو التعايش مع اللحظة، التصارع مع العادة، اكتشاف الذات، ترويضها.. ولو أنه من الصعب فرض التعليم على ذلك الكائن المقلد، المسن.. وهذا النص واحد من نصوص شرع يكتبها المفكر المغربي الأمريكي من جامعة نيو إنغلند بولاية ماين، أنور مجيد، يتأمل عبرها هذا الضيف الآثم فعله! أهو ابن مختبرات الإنسان، أم تراه فاكهة انقلاب السحر على الساحر، أم هو درس تلقنه الطبيعة لمن يريد أن يمارس عليها الاستبداد وعلى أبناء جلدته؟ يقول أنور مجيد عن الكتابة في زمن الكورونا: "وأخيرا تمكنت من كتابة مقالة عن آثار جائحة فيروس كورونا. لقد كان للجائحة بكل مراحلها آثارها التي تُحيّد وتصرف عن كل شيء، إذ جعلتني أشعر بالضياع فيما يتعلق بالطريقة التي تمكنني من فهم كل هذا الحدث الجلل. وها أنذا أبدأ بهذا النص." **** العلاقات الخطرة بينما نجلس مجتمعين في منازلنا، معزولين خلف جدراننا عن التهديدات الكامنة في الخارج، أتساءل عما إذا كنا وصلنا إلى معلم آخر في تجريدنا من إنسانيتنا كعقاب ذاتي. مثل الكثيرين من الذين كانوا مهووسين بالأخبار والقراءة والإبحار عبر الإنترنت في جميع أنحاء العالم الرقمي، شعرت بالرعب من المشاهد المروعة -التي تعاينها مخلوقات سريالية ترتدي ألبسة تحميها من مخاطر المواد السامة الخطرة- لأشخاص لاهثة الأنفاس، ازدحمت داخل وحدات العناية المركزة، وبعد ذلك يتم تخزينها (وقد أسلمت الروح) في شاحنات مبردة ملحقة بجدران المستشفى. إن الذعر الناجم عن عدم معرفة ما إذا كنا سننقذ أو ندان ويقضى علينا –كما نقف أمام ألوهية جديدة يبدو أنها لا يثير اهتمامها البتة أحد على الإطلاق في عالم مصمم لتعزيز السيطرة البشرية على الطبيعة- قد انطبع على كل الوجوه. وفي خضم هذه الفوضى العالمية، وهذا الخواء، تبقى الوصية الوحيدة التي تهم الجميع هي المسافة الاجتماعية. من خلال الحفاظ على ستة أقدام أو مترين بين كل فرد والآخر؛ وبذلك يلقى الفيروس حتفه إذ يصل إلى الطريق المسدود، وسوف يتم غسله، في نهاية الأمر، من حياتنا بالماء والصابون، أو عبر جرعات منتظمة من مطهر اليدين، تاركا وراءه دمارا عظيما وأضرارا لا تحصى في المجتمعات. والسؤال الذي يطرحه كل واحد على نفسه ويشغل الجميع هو ما الوضع الذي سنعود إليه، وذلك بالنسبة للذين سيحالفهم الحظ منا، وسيبقون على قيد الحياة بعد مرور هذه المجزرة الفيروسية. فلكل واحد منا منبر خاص يتكهن عبره عن نوع المستقبل الذي ينتظرنا. هل ستعود المتاجر الإسمنتية أو القرميدية للعمل كما في السابق أم ستتم جميع عمليات التسوق الضرورية للحياة اليومية عبر الإنترنت؟ هل سيبقى العمال في منازلهم ويعملون عن بعد، مما يوفر على شركاتهم جميع أنواع النفقات العامة، أم سيعودون إلى حجراتهم ومكاتبهم للعمل على مسافات آمنة من بعضهم البعض؟ وماذا عن التلاميذ والطلاب، من تلاميذ الصف الأول في المدارس إلى طلبة الدكتوراه في الجامعات –هل سيعتادون أيضا على الدراسة عبر الإنترنت، والتواصل مع الأساتذة من منازلهم، والتخلي ببساطة عن الحرم الجامعي لفائدة مشاريع أخرى؟ أم أنهم سيعودون إلى أقسامهم ومختبراتهم، ويستأنفون صداقاتهم وأنشطتهم المعلقة؟ ويتوقع البعض أن المصافحة والتقبيل ستصبحان من الآن شيئا من الماضي غير الملائم للصحة. من يجرؤ على السفر، بل والأهم من ذلك أية دولة ستفتح أبوابها للسياح الباحثين عن المتعة من دون التوفر على نوع من جواز الحصانة؟ وسيتعين وضع ماسحات ضوئية جديدة عند نقاط الدخول (بالموانئ والمطارات) لتحديد الإرهابيين الذين يحملون فيروسات وبذلك سيضع هذا الطوق الصحي حدودا جديدة. قد يعتقد البعض أن هذا هو حسابنا الذي طال انتظاره لأننا خربنا الكوكب وعيننا أنفسنا سادة عليه بلا منازع. لن أعترض على هذه الفكرة، وأوافق هذا الرأي –هناك شيء ينذر بالسوء، ونحن نشاهد السباق اليائس للعثور على علاج أو لقاح لإبقاء الفيروس التاجي بعيدا وصده، وإعادة فتح عالم الأعمال كما كان عليه الأمر من قبل. ألم يكن لدينا ما يكفي من جميع الأنشطة غير الأساسية التي تفقر حياتنا حتى نضيف إليها القشور والزّبد، أو الهراء والابتذال؟ بيد أنه لم يسبق أن توفرت لنا لحظة أفضل من هذه اللحظة أبداً للتفكير في نوع الحياة التي نريد إعادة بنائها بعد أن يتبخر الفيروس تحت شمس الصيف الحارقة، ولكن الشيء الوحيد الذي لا يمكنني تصوره والتفكير فيه هو حياة قائمة على المسافة الاجتماعية. ما زلت أتذكر الوجه القلق لشاب مغربي يرد على سؤال أحد الصحافيين حول هذا الطقس الجديد. "أريد أن أقبل أصدقائي وأسلم عليهم يدا بيد". نعم، ربما بدأت المصافحة كضمانة على السلامة والأمان، وبالفعل من المحتمل أن تكون سلاحا بيولوجيا في زمن الجائحات الفيروسية، لكنها لا تزال أحد الطقوس القليلة التي تربط البشر عبر مجموعة من واسعة من الاختلافات. إن تبديل ضرب الكوع، وركل القدم بالمصافحة والقبلات والعناق لكفيل أن ينزل بنا إلى رتبة مخلوقات روبوتية بدون روح ولا مشاعر. ومن المفارقات أنه في الوقت الذي اكتشفنا فيه أن البشر في حاجة إلى اللمس من أجل رفاههم، يدفع بنا الفيروس إلى المزيد من الاغتراب والوحدة. أتمنى بكل قوة، أن لا نعرف هذا المصير أبدا. أما يعني أن تكون إنسانا أن تكون في خطر؟ لقد كان الأمر على هذه الشاكلة على الدوام. ولن يغير من ذلك قيد أنملة أي قدر من المسافة الاجتماعية، والنظافة، واتباع نظام غذائي معين، وممارسة الرياضة. إن الخيانات والأمراض تلاحقنا منذ لحظة خروجنا إلى نور الوجود. وللموت مليون طريقة ليحط الرحال عندنا في أي وقت وحين. إننا نتغلب على هذا القدر الشائك من خلال الترابط، واللعب، والغناء، واللمس، وكسر الخبز. يجب أن يدفعنا هذا الوباء إلى القيام بالمزيد من هذه الأنشطة كلها، وليس إلى التقليل منها. يجب أن نتحلى بالشجاعة لنكون بشرا، ونثق ونحب، ونتجنب البحث عن المزيد من استراتيجيات التجريد من الإنسانية. إن العلاقات الإنسانية على الدوام، إلى حد ما، خطرة، لكنها أفضل بكثير من حيوات العزلة داخل أقفاص خيالية من الهواء غير الملوث. دعونا نتخلص من هذا الفيروس، ودعونا نستمر في ممارسات طقوس النظافة الصحية العادية (غسل اليدين بانتظام، والسعال في الأكمام، وارتداء قناع للحيلولة دون إصابة الناس، وما إلى ذلك)، ولكن دعونا أيضاً نعانق بعضنا البعض، ونمشي يدا في يد خلال الوقت الممنوح لنا على هذه الأرض.