بعد أسبوعين من الحجر المنزلي شبه الطوعي، خرجت للعمل. على غير العادة ينتابني شعور غريب، هل هو الخوف من لقاء الناس أم إنه القلق من لقاء كورونا؟ كان الجو باردا يلسع الوجه. ولا غرابة في الأمر، فطقس أبريل في ألمانيا مزاجي. April macht was er will، هذا ما دأب الناس على قوله، ومعناه أن أبريل يفعل ما يشاء. ربما هذا الطقس مناسب لشربة العدس. وجبة لا نعرفها في المغرب على حد علمي، يمكن تهيئتها بالعدس الأحمر مثل الأتراك وبعض الدول العربية، أو كما يفعل الألمان بالعدس الأصفر المعروف في المغرب. بعد تهيئة العدس بالطريقة العادية، يتعين دعسه لتحويله إلى شربة، غير أن الألمان يضيفون إليه الخضر وقطع السجق. بعد تناول طبقين من الشربة، خرجت أطوي الطريق إلى محطة القطارات المحلية، S-Bahn. نوع من المواصلات يربط بين المدن وضواحيها، لا يوجد نظير له في فرنسا، ويختلف عما يطلق عليه الفرنسيون "ريجيونال". في ألمانيا تتميز بحرف S واللون الأخضر. فيما مترو الأنفاق يحمل حرف U باللون الأزرق. على غير عادته كان القطار شبه فارغ والناس حذرين في تعاملهم ويحافظون على مسافة الأمان، خاصة وأن إجراءات التباعد الاجتماعي التي أقرتها ألمانيا تمنع التجمع لأكثر من شخصين والتزام الحجر المنزلي قدر المستطاع. منذ تفشي الجائحة، بدأت أبواب القطارات في ألمانيا بكل أصنافها تفتح بشكل أوتوماتيكي، تفاديا لأي احتكاك حتى لا تنتشر العدوى. داخل القطار هناك ملصق يتضمن 5 نصائح: غسل اليدين باستمرار لمدة عشرين ثانية، وإذا تعذر ذلك يمكن استخدام المعقم. في حالة العطس والسعال، الرجاء وضع المرفق على شكل قوس لتفادي انتشار الرذاذ في المكان واستعمال منديل ورقي مع ضرورة التخلص منه مباشرة. العمل قدر المستطاع على عدم لمس الوجه. وإذا شعر المرء بالحمى ومشاكل في التنفس يرجى البقاء في المنزل وربط الاتصال بالدوائر الصحية. هل هي سخرية الأقدار أم إن الهوس والقلق يتربصان بالإنسان وقت الشدة؟ مباشرة بعد قراءة النصائح الخمسة، شعرت بوخز في الوجه، ولتفادي لمسه بدأت أقوم بحركات ميمية عل الوخز يذهب إلى حال سبيله، هيهات باءت كل المحاولات بالفشل، لم ينفعني سوى أن عقمت يدي بالقارورة التي بدأت أحملها منذ تفشي كورنا وحككت المكان بأظافري. كان القلق وما يزال يسيطر عليّ خوفا من الإصابة خاصة وأنني أعاني منذ مدة من حساسية الربيع التي تسبب لي ضيقا في التنفس. ماذا لو أصابتك العدوى يا محمد؟ تملكني خوف حقيقي، وأنا أرمي ببصري من نافذة القطار في البعيد بذكرياته. لا عليك سيصيبك ما كتب الله لك. هل هو كتاب حق لا ريب فيه؟ وماذا أنت فاعل يوم ترد الصحف لأربابها؟ أسئلة كثيرة تمر في رأسي، لم يضع لها حد سوى الصوت الآلي داخل القطار الذي نبهني بالوصول إلى محطة "غزوندبرونن". غادرت القطار والشعور الغريب ما يزال يتملكني، أرى الناس على قلتهم، وهم يمشون بطريقة غير عادية والكل يهرب من الكل. استئناف العمل في زمن كورونا ليس سهلا، خاصة في قسم الأخبار، وهو الوحيد الذي يعمل في المؤسسة بكاملها بعد توقيف جميع الأقسام. أخبار كورونا تسبب تخمة مزعجة. من كل أنحاء العالم تتساقط عليك الأنباء عبر الوكالات وعداد المراكز الدولية يحصي القتلى والإصابات. من حسن الحظ أن أول تقرير لي، كان يبعث على الأمل. تقرير حول إبداع أشكال جديدة من التواصل في ألمانيا في زمن كورونا، سواء من خلال تطوع شاب من أصول مكسيكية لتلقين التمارين الرياضية على إيقاع الموسيقى للسكان وهم في شرفات منازلهم، أو مغني التينور البولندي وهو يغني من شرفته لجيرانه، أو ممثلين ألمان يقرؤون مقاطع من كتب عبر الانترنت. إنه الإبداع في زمن الطوارئ. رب ضارة نافعة. وقد تكون هذه الجائحة فرصة لإعادة النظر في طريقة العيش والحياة. هي أمور كثيرة تحتاج إلى تقييم، من بينها التطوع والتضامن والصداقة. عما يبحث المرء في الصديق؟ هل على الند أو الظل أم إن الصداقة مثل الحياة تقتضي وقتها وتذهب إلى حال سبيلها؟ شعرت برغبة في تناول سائل ساخن، فكان شايا جلبته معي: مزيج من الزنجبيل والكركم. مواد صار الطلب عليها كثيرا مع هذه الجائحة. كنت في صباح هذا اليوم قد سمعت حوارا لأحد علماء الفيروسات، قال فيه إن كورونا ينتعش في الأجواء الباردة والحلق الجاف. تحذير جعلني أفكر في رمضان. فهل سنضطر إلى إفطار رمضان إذا واصلت الجائحة تفشيها؟ فجأة تلبدت السماء بالغيوم، ونزل مطر خفيف يغسل الشوارع عله يرفع البلاء عن البشرية. بعد التقرير الأول جاء تقرير ثاني عن إيطاليا هذه المرة ومأساتها مع الوباء. مشاهد قاسية والحِمام يفتك بها، ولا أجد إلا رثاء البحتري: دَعاها الرّدى بَعدَ الرّدى**فتَتابَعَتْ تَتَابُعَ مُنْبَتّ الفَرِيدِ المُنَظَّمِ. أصبح قسم التحرير خاليا بعدما كان يعج بالحركة. نجلس متباعدين عن بعضنا. وفوق كل مكتب ورقة، يكتب عليها كل زميل اسمه وتاريخ جلوسه على هذا المكتب. تذكرت النصائح الخمسة وجريت نحو المراحيض لغسل يديَّ وتعقيمهما. صار المرء مهووسا بطقوس الغسل والتعقيم؛ تعقيم اليدين ومكان العمل. لاحظت أن بشرة يديَّ صارت جافة، ربما بسبب كثرة التعقيم، لذا بدأت أزاحم زوجتي في استعمال كريم لليدين. وهو عبارة عن مزيج من زيت الزيتون والبانثينول. وجع مغاربة العالم مزدوج. فإلى جانب تتبعهم أخبار البلد الذي يعيشونه فيه، يتعين عليهم أيضا متابعة أخبار البلد/الأصل. وتبقى الإنترنت سبيلنا الوحيد في التقاط الأخبار وتتبع عداد كورونا. فجأة يصدح صوت الزميل المنتج أصلان. محمد من فضلك التقرير رقم ستة وثلاثون. أوكي عزيزي عزيزي، لم تجد سوى تقرير آخر عن كورونا. إنه يومي الأول وقد أتخمتني أخبار هذا الوباء. فرد بنكته الكوميدية شوف لك شي تقرير عن الرقص، ما أحوجنا للفرح. أسلمت أمري لكورنا وهذه المرة في تركيا. كانت الساعة تتخطى السادسة بقليل من الوقت، عندما كنت أشاهد تصريح مسؤول وزارة الصحة المغربية وهو يرمي في وجهنا تطورات الجائحة في المغرب. عدد المتعافين 29 وعدد المتوفين 39. صار هذا الطقس قاسيا لتتبع أخبار هذا الفيروس اللعين. طبعا إلى جانب هذه الأخبار يعج فيسبوك بأخبار كثيرة، منها الصحيحة ومنها المزيفة ومنها صنف آخر يصعب أن تصنفه. فتقرأ مثلا أن ممثلة كويتية تطالب برمي الوافدين المصابين بكورونا في الصحراء، بدل معالجتهم في المستشفيات الكويتية. خبر يصيبك بالغثيان. ويصر فيسبوك المغربي أن يرمي في وجهك بعض الأخبار القاسية، من قبيل: "توفي البحار حسن علاق، الذي تعرض للإهانة من طرف عدد من الأشخاص الذين قدموا أنفسهم على أنهم مراسلين صحافيين، إثر غرق قاربه، ليلة الأربعاء، ببحر لالة فاطنة ضواحي مدينة اسفي خلال رحلة صيد". خبر جعلني حزينا خاصة بعدما شاهدت الفيديو الذي يتعرض فيه "باالحسوة" للإهانة على يد أشخاص قدموا أنفسهم كصحافيين. هكذا أصبحت الصحافة في المغرب. سلوكات تصر أن تسفه جهودا عظيمة يقوم به المغرب لمواجهة الجائحة. كانت عقارب الساعة تشير إلى العاشرة والنصف ليلا حين استأذنت منتج الأخبار الزميل أبو فرات وغادرت الغرفة، في اتجاه قطاري S2 لينقلني إلى قريتي خارج برلين. متعب وصداع خفيف في الرأس، والخوف من الإصابة حاولت أن أبدده بقنينة المعقم التي أحملها معي. نصف ساعة يصاحبك فيها هدير القطار والصوت الآلي الذي يذكرك بالمحطات وأمامك ملصق النصائح الخمسة بالألمانية والانجليزية. طلة أخيرة على أخبار فيسبوك، ليطالعك عتاب خفيف للشاعر والصديق حسن نجمي، وهو يعايد صغرى أميراته الثلاث: "عيد ميلاد سعيد، ابنتي العزيزة شامة نجمي. 21 شمعة مضيئة ومضاءة، وأنتِ هناك في برلين الجميلة. إن شاء الله، تمر هذه الجائحة ونلتقي مباشرة، وليس من خلف شاشاتنا الهاتفية الصغيرة. والأمل أن نتخطى جميعا، في المغرب وألمانيا، وفي العالم كله، هذه اللحظات الصعبة في مواجهة كورونا. أجمل التهاني، عزيزتي وحبيبتي شامة. أراكِ دائما موفقةً وناجحةً ومتألقةً". القطار والناس حذرون مرة أخرى، والخوف يتربص بالنظرات على أمل أن يكون الغد أفضل وأن تسمع أخبارا جميلة تلخصها قولة محمود درويش "سنعتاد، ثم ننسى، ثم نصبح بخير كأن شيئا لم يكن". وليسمح لي المتنبي "على قلق كأن كورونا في حلقي" برلين فاتح أبريل 2020