بعد الإجراءات التي اتخذتها الدولة لمواجهة تفشي فيروس كورونا أقبل الناس بشكل غير عاد على اقتناء المواد الغذائية بوفرة وخزنها في حالة من الذعر. هذه الوضعية أرجعتنا إلى سنوات "الحزة" التي كان يعرفها المغرب من حين لآخر. شكلت المجاعة والأوبئة جزءا من الأحداث الكبرى والوقائع الهامة في تاريخ المغرب، أولاها المؤرخون المغاربة اهتماما كبيرا، إذ لا يخلو كتاب من كتب الإخباريين المغاربة من الإشارة لهذه الظواهر المثيرة للاهتمام والتي تركت ندوبا في حياة المغاربة قديما، إذ لا يمكن أن تمر المجاعة في صمت: فوضى سرقات قلاقل اجتماعية تردي الأخلاق ووفيات بالجملة، يتناقل الجميع أخبارها ولها تأثير على مسار الدول، تؤدي إلى قيام أو سقوط دول. استعمل المغاربة عدة ألفاظ للدلالة على المجاعة، فقد استعملوا الحزة للدلالة على الفترة التي تلي فراغ المخازن من الحبوب وتسبق بداية المحاصيل الجديدة، كما استعملوا لفظة "بوهيوف" للدلالة على المجاعة الكبرى والتي تمتد منذ الخريف إلى بداية نضج محاصيل السنة المقبلة، لكن أحيانا تكون المجاعة جزئية. تضرب منطقة دون أخرى وقد تكون المجاعة الكبرى، تشمل كل المغرب "الحزة" هي الفترة التي تلي نقص الغذاء قبل نضج المحاصيل الزراعية وهي مرحلة من مراحل الخصاص الغذائي الذي كان يعرفه المغرب من حين لآخر وبشكل يختلف بين البوادي والمدن. فالخصاص الغذائي مكون هيكلي في تاريخ الأمن الغذائي بالمغرب. مخاطر المجاعة حاضرة دائما حتى لو كانت هناك سنة فلاحية جيدة، فالحروب والجفاف والأوبئة حاضرة وعلى الأبواب دائما. يمكن أن يجتمع الجفاف والطاعون، لكن لن يجتمع الطاعون مع الحرب. زمن الطاعون أو الجفاف تحضر الفوضى. فالجفاف تتبعه مجاعة وغالبا ما تتزامن المجاعة مع الأوبئة. الجفاف يعني بالنسبة للمغاربة المجاعة حتما وقد تتكرر لسنتين متتاليتين. عموما فالجفاف قد يضرب كل سنة من أربع سنوات. في السنة الفلاحية العادية جل العائلات تجتاز السنة دون مشاكل غذائية سواء في البوادي والمدن، إلا بعض العائلات الفقيرة التي تبدأ آثار "الحزة" تظهر عندها في شهر أبريل وماي أي شهرين قبل أن تنضج المحاصيل، إلا أنه بفضل التضامن والاقتراض العيني تجتاز السنة وتسد رمقها. يرتبط الإنتاج الفلاحي بالبنية الفلاحية المعتمدة أساسا على الرعي وزراعة بعض الحبوب والأغراس في المناطق التي تعرف استقرارا. والرعي هو الغالب ويعتمد أساسا على الترحال لكن الأمراض والجفاف لا يهدد فقط الإنسان وإنما يهدد الماشية وهي أولى الضحايا أضف إلى ذلك أن الماشية التي يعتمدها السكان في التغذية على لحومها وألبانها، منهكة بفعل الترحال للبحث مناطق الرعي "ألمو" صيفا و"أكدال" شتاء وللمغاربة عادة غذائية مرتبطة بأكل المسنة وترك الصغيرة للتكاثر، وقد سعوا إلى تطوير سلالات معروفة إلى يومنا هذا وهي سلالة تيمحضيت والدهرة، وسلالة السهوب الشرقية. يشكل الجنوب الشرقي للمغرب استثناء إذ يعرف استقرارا في المنتوج الغذائي لوجود تقاليد السقي المنتظم، والذي يعطي أمنا غذائيا مستقرا لسكان هذه المناطق وذلك لموقعها وراء جبال الأطلس التي توفر لها الماء للسقي والشرب، ويشكل حاجزا يحميها من انتقال الأوبئة التي تدخل إلى شمال المغرب من أوروبا وهذا ما يفسر التحركات السكانية من الجنوب الشرقي إلى المناطق التي تكون قد أفرغت من سكانها بسبب الوفيات المرتبطة بالمجاعة أو الأوبئة، ومن المنتوجات التي تحقق الاكتفاء الذاتي لهذه المناطق التمور والحبوب والخضروات التي تقوم بزراعتها في أحواض الواحات، وقد تعود السكان العيش على القلة. المجاعة مرتبطة في المغرب بالجفاف وتبدأ مباشرة بعد نهاية الصيف وأول المتضررين الماشية، مع الجفاف يكون المنتوج ضئيلا فيلتجأ الناس منذ الصيف إلى التقشف لمواجهة الفصول المقبلة خاصة الشتاء، الماشية تبدأ في النفوق منذ فصل الخريف. في الشتاء تبدأ الوفيات في صفوف البشر وأغلبها تتم في هذا الفصل لانعدام الطاقة في الجسم وانخفاض درجة الحرارة، لكن أخطر اللحظات الصعبة تحظر عند تزامن الأوبئة مع المجاعة كما حدث مع أواخر الدولة السعدية، والتي كانت سببا في سقوطها وفي زمن قياسي رغم أنها من أقوى الدول في زمانها. لإبعاد خطر المجاعة والموت طور المغاربة استراتيجيات لمواجهتها حيث يلتجئ السكان القريبين من السواحل إلى جنبات البحر للعيش على الصيد كما يلتجئ سكان الجبال إلى الغابة للاقتيات. يأكل الناس ما هو متوفر في الطبيعة حيث تلتجئ النساء إلى البحث عن النباتات البرية وجذور الأشجار وطهيها في بخار الماء، أما الرجال فيعمدون إلى اصطياد الحيوانات البرية، لكن انهيار قوى الرجال بسبب الجوع تجعلهم لا يقوون على مطاردة الوحوش بعيدا ويكتفون بنصب الشراك وقد يأخذون الطرائد من الحيوانات: يصطادون الأرانب والخنازير البرية والطيور لسد الرمق. يبدأ الناس في إعداد خبزة "الحزة" "الخبيزة" التي لا تزال تحتفظ بمكانتها في المائدة المغربية إلى يومنا هذا. تبدأ المجاعة في التناقص مع حلول في فصل الربيع أي بداية نضج النباتات البرية وقرب نضج المحاصيل الزراعية. تنتهي المجاعة مع وصول محاصيل السنة الجديدة. لتجاوز وضعية الحزة التجأت المدن إلى إنشاء مخازن جماعة تسيرها الدولة كما هو الشأن بالنسبة إلى مدينة مكناس هري "اسوا ايني" التي لها دلالتها بالأمازيغية ولها مراعيها داخل السور تسمي "أكدال "بالأمازيغية في كل من مكناسفاسالرباط ومراكش، كما طورت البوادي التي تعرف الاستقرار أساليب التخزين الفردي والجماعي من سلال ومطامر وهري، وهي وسائل خاصة بكل عائلة لكن بعض المناطق في سوس، كانت لها مخازن جماعية بمثابة أبناك لا تقوم بالتخزين فقط وإنما تقوم بالسلف العيني يرد عند جمع محاصيل السنة المقبلة. ولم يكتف المغاربة بالتخزين بل قاموا بتجفيف وتحويل أغذية قابلة للتخزين فقد صنعوا الكسكس انطلاقا من دقيق الحبوب، يكمن الاحتفاظ به بعد تجفيفه، والكسكس غذاء الأزمة كما يقال، يلتجئ إليه المغاربة أوقات "الحزة" وارتبطوا معه بعلاقة روحانية إذ لا يسمح بنثر حباته على الأرض، إلى يومنا هذا تتناوله جل العائلات يوم الجمعة، إضافة إلى الكسكس قاموا بتجفيف التين في شكل شرائح وطوروا أكلات يمكن خزنها لوقت الحزة ك "الخليع". كان شيوخ القبائل في البوادي والزوايا في المدن يقومون في أوقات "الحزة" بتقديم المساعدات الغذائية، ففي البوادي رغم ضآلة المنتوج كانت لديهم فكرة عن تدبير المتوفر: إما أن يأكل الجميع أو يموت الجميع في إطار عمل تضامني، يقوم شيوخ القبائل بفتح المخازن الشخصية في وجه المحتاجين وتقوم الزوايا بنفس الدور وقت "الحزة"، بل إن "الحزة" هو سبب وجودها فهي تقوم بإعادة توزيع ما جمعته من الأتباع على الجوعى والمريدين وقت المجاعة، فمريدوها كانوا جوعى قبل أن يتحولوا إلى مريدين، يقومون بالذكر في انتظار ما سيقدم لهم من أغذية. لفظة الزاوية لفظة أمازيغية تعني (ش. ذ. تاويث) بمعنى (كل وخذ معك) ومن أجل تسهيل النطق في الدارجة المغربية تنطق زاوية التي تكتب وتنطق بالفصحي المغربية الزاوية. تمتلك الزوايا أراضي زراعية ونفوذا قويا يمتد إلى نهر السنغال (التيجانية) وأخرى تمتد إلى غرب الجزائر وتندوف (الزاوية الوزانية –دار الضمانة)، أثناء الخصاص الغذائي و"الحزة" يتوافد كل جائع على الزاوية ويكثر أتباعها الذين ينتظمون في جلسات للذكر والسماع في انتظار ما سيقدم لهم من أغذية. تمثلات الناس عن المجاعة تختلف بين البوادي والمدن ففي البوادي لا يعطى للمجاعة أو الجفاف أي تفسير، فهي تدخل ضمن المعتاد خاصة أنها تحل بهم على الأقل مرة كل أربع سنوات. فهم يواجهونها كما يواجهون الطبيعة من حرارة مفرطة وشتاء بارد أو فقدان عزيز، بينما في المدن تعطى لها تفسيرات غيبية يرجعونها إلى كونها عقاب إلهي بسبب تدني أخلاق الناس وابتعادهم عن القيام بالواجب. لا يمكن أن نتكلم الآن في مغرب اليوم عن "الحزة" أو الخصاص الغذائي بسبب وباء كورونا لوجود معطيات جديدة لم تكن حاضرة في القديم، فالدولة الآن قامت بتأمين الغذاء قبل اتخاذ إجراءات الحجر الصحي.