عرف المغرب عبر مساره التاريخي الطويل العديد من الأزمات الاجتماعية، المرتبطة بالأوبئة والمجاعات، ساهمت فيها عوامل مختلفة، وأسباب عديدة، هزت في العمق البنى الديمغرافية والاقتصادية والاجتماعية للمغرب. وقد عُرفت هاته المحطات الأزموية التي عاشها المغرب بتسميات مختلفة: عام الجوع، عام الطاعون، عام بوكليب و عام البون وبونتاف. ويرنة... في سياق دراسة مادة البادية والمدينة والعولمة، يأتي هذا البحث المتواضع حول موضوع: "عام البون.. الأسباب، التجليات و التدابير"، والذي سنحاول من خلاله، القيام بإطلالة متواضعة على مرحلة معينة من تاريخ الأزمات والمجاعات بالمغرب، هاته المرحلة، هي ما عُرف لدى المغاربة بعام البون، أو بونتاف، أو يرنة،.. فما هي دلالات "عام البون" ودلالات باقي التسميات التي رافقته؟ ما أصولها ومفهومها؟ ما هو السياق التاريخي الذي حمل إلينا هاته التسمية "البون"؟ وما هي التجليات الأساسية لهذا العام –الأزمة¬ في الوسطين الحضري والقروي؟ وما هي التدابير التي رافقت هذا العام في المجالين القروي والحضري على المستويين الرسمي والشعبي؟ وكيف استطاع المغاربة تجاوز هاته الأزمة؟ وما هي مخلفاتها؟ هاته الأسئلة وغيرها، هي ما سنحاول الغوص والبحث فيها، من خلال محاور هذا البحث، بالاعتماد على ما تحتويه المكتبة المغربية، وما تختزنه الذاكرة الشعبية المغربية عن هاته الفترة العصيبة. المحور الأول: كرونولوجيا المجاعات و الأوبئة بالمغربالمحور الأول: كرونولوجيا المجاعات و الأوبئة بالمغرب منذ بداية القرن 18، تعاقبت على المغاربة سنوات ومراحل من القحط والجوع و الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، أدت في الغالب إلى هلاك مئات الآلاف من المغاربة، في هذا السياق, سنحاول استحضار كرونولوجيا هاته السنوات منذ منتصف القرن 18 ،التي كان منطلقها مع عام الجوع، هاته المرحلة هي ما تحدث عنها العديد من المؤرخين المغاربة، وعلى رأسهم الباحث محمد الأمين البزاز، حيث يرى أن هذه الفترة "كانت أشبه بكابوس عّمر طويلا، حيث باع المغاربة أبناءهم لإخماد نار الجوع، وكان أول عهد للعديد منهم بالسطو والتسول والبغاء، واضطر آخرون لافتراس الكلاب والقطط والخنازير". وسنحاول مقاربة أهم مراحل الأزمات والمجاعات و الأوبئة التي ضربت المغرب على الشكل التالي: - 1 ¬عام الجوع: كانت أولى أسباب هذا العام "الجوع" مع سنة 1766, حينما قام السلطان سيدي محمد بن عبد الله بتصدير 30 سفينة من القمح المغربي لكل من فرنسا واسبانيا والبرتغال، واستمر مخطط هذا التصدير حتى سنة 1774 ،وبموازاة ذلك ارتفع ثمن القمح بالمغرب لثلاث مرات، تلته موجة جفاف عارمة لعدة مناطق مغربية, وهو ما مّهد للمجاعة باجتياح المغرب مع توالي سنوات الجفاف خلال 1779 ¬1782 ،واجتياح الجراد لجل مناطق المغرب, مما جعل المغاربة يعيشون على خشاش الأرض، ويقضي العديد منهم حياته جوعا أو بتناول لحم الخنزير وبعض النباتات "المرة" مثل "يرنة"، التي ستصبح رمزا للجوع لدى المغاربة. - 2 ¬عام الطاعون: ضرب المغاربة مرض الطاعون خلال مرحلتين: الأولى خلال سنة 1798 ،ومن بين أسبابها وصول فوج الحجاج المغاربة عبر الجزائر من الشرق (التي كانت موبوؤة)، ومن ثم انتشر الوباء، وانتقل للعديد من مدن المغرب، ويرى المؤرخ محمد الأمين البزاز, أن الطاعون أفنى العديد من المغاربة ,وكاد أن يقضي على باقي المغاربة، الذين نجوا من المجاعة – عام الجوع¬ حيث كان يموت بالمدن حوالي 700 شخص يوميا جراء الطاعون، حيث أن مدينة تارودانت كانت تضم فرقة عسكرية تتكون من 120 جندي، لم ينجو منها إلا جنديين اثنين. وعلى مستوى البوادي المغربية، يورد المختار السوسي في كتابه المعسول، أن الطاعون أدى لانقراض أسر بكاملها، حيث لم يكن ينجو سوى شخصين من أصل . 500 المرحلة الثانية من الطاعون، تبدأ مع سنة 1818 ،والذي ُعرف ب "طاعون طنجة" حيث كان ميناء طنجة يتخذ نظاما صارما للمراقبة الصحية، قصد منع دخول المرض للمنطقة من جهة الشمال، لكن الذي حدث هو أن إدارة الميناء سمحت لأميرين من عائلة السلطان بدخول المدينة دون إجراء فحص، حيث انتشر الطاعون بين خدم العائلة الأميرية، و قضى على حياتهم محققا انتشارا قويا وكاسحا في شمال المغرب حتى سنة 1920 ،مخلفا وراءه الآلاف من الضحايا. ¬ ¬ 3-عام الكوليرا: ابتدأت هذه المرحلة مع سنة 1834 ،والتي أطلق عليها بعام بوكليب، حصدت أيضا الآلاف من المغاربة، لكن بروز هذا المرض كان بالجزائر قبل أن يدخل للمغرب، وتوالت هاته الكارثة أو المرض على رأس كل عشر سنوات، 1854 ¬-1858 ¬1868 ¬1878 ،وتراوحت أسبابه، مابين الحملات العسكرية الفرنسية الإسبانية على البلاد والتي كانت تجلب الوباء للمغرب، وكذلك وفود الحجاج المغاربة الذين كانوا يمرون في طريقهم البري عبر مصر وتونس والجزائر. ويلخص الناصري في كتابه الاستقصاء ما أصاب المغرب والمغاربة من جراء هذا الوباء بقوله: "تعددت فيها المصائب والكروب وتكونت منها النوائب و الخصوب، لا أعادها الله عليهم فكان فيها غلاء الأسعار... ثم عقب ذلك انحباس المطر, لم ينزل منه قطرة من السماء.. وهلكت منه الدواب والأنعام. وعقب ذلك الجوع ثم الوباء على ثلاثة أصناف، كانت أولا بالإسهال والقيء في أوساط الناس بادية وحاضرة ثم كان الموت بالجوع في أهل البادية خاصة، هلك منه الجم الغفير، وبعد هذا كله حدث الوباء بالحمى "التيفويد" في أعيان الناس وأماثيلهم فهلك عدد كثير". - 4 ¬عام البون: برز هذا العام سنة 1944 ¬1945 ، لكن مؤشراته ظهرت مع فرض فرنسا لحمايتها على المغرب سنة 1912 . ''منذ اندلاع الحرب العالمية الثانية سنة 1939م. وبعد انهزام فرنسا سنة 1940م ، أصبحت بعض المستعمرات و من بينها المغرب يشكل الجبهة الخلفية للحرب، حيث كان ينتج كل ما تحتاجه فرنسا من مواد غذائية، ومعدنية، ومواد الصناعة التقليدية.''. هذا الاستنزاف والاستغلال كانت له نتائج وخيمة جدا على اقتصاد البلاد وعلى المجتمع، حيث عانى السكان من المصادرات وسياسة التقنينات,والجوع والفقر الخ... ولمواجهة هذه الظرفية اتخذت عدة إجراءات من طرف الإدارة الاستعمارية لم تكن في صالح السكان وإنما جعلت الوضعية أكثر سوءا. لقد نهجت سلطات الحماية مسلكا جديدا في التعامل مع أزمة الغذاء، ففرضت نظاما جديدا لتوزيع المواد الاستهلاكية الأساسية عرف'' بنظام التموين'' إذ أصبحت المواد تقتنى بأوراق الإذن وذلك بشرائها، وسميت تلك الأوراق ''البون''. وتولت البلديات عملية التوزيع فوضعت دفاتر خاصة (كارنيات) أو بطاقات التموين ذات ألوان وأرقام، منها ما يتعلق بالزيت والبيض والسكر والشاي والقهوة والصابون والخضر كالبطاطس والوقود، ومنها ما يخص الأثواب والألبسة على اختلافها صوفا وقطنا وكتانا وخيطا، وكان التموين يوزع على المتاجر حسب الأحياء والدروب. وكانت إدارة التموين تغير لون البطاقة كل ستة أشهر، وكل تقطيع يصلح لاقتناء مادة واحدة. وقد سمي هذا العام ايضا بعام بونتاف، وعام الصندوق.. سنحاول لاحقا مقاربة دلالات ومعاني هاته التسميات المرتبطة بهذا العام. أ تحديد مفهوم "البون:" وتعني كلمة البون في القاموس اللغوي الدارجي المغربي "وصل"، حيث أخذت الكلمة على غرار العديد من كلمات الدارجة المغربية من الكلمة الفرنسية BON أو POUR BON والتي تعني باللغة العربية "ورقة لأجل" شيء ما، وقد أخذ المغاربة هاته الكلمة من صيغتها الفرنسية ووظفوها في الدارجة المغربية فتم نطقها "البون" بإضافة "ال" للتعريف، وهذا بحكم الغزو الثقافي الذي رافق الحماية الفرنسية واستعارة الدارجة المغربية لمجموعة من المصطلحات الفرنسية التي تم تحريفها بعض الشيء من خلال تداولها بين الناس. وكلمة البون تعني ذلك الوصل الذي يخول لحامله الحصول على المقابل المضّمن في البون أو الوصل، وهو الوصل الذي كان يوزع على المواطنين كإجراء ونظام لمواجهة الجوع من قبل النظام الاستعماري والمخزن المغربي، يمنح بموجبه لحامله كمية من المواد الغذائية وعلى رأسها الطحين "فارينا" و الزيت والأرز والقهوة. ب – التسميات المرافقة لتسمية عام البون: أطلق المغاربة على العام الذي أصابهم فيه القحط والجفاف والجوع تسميات مختلفة ومتعددة ، وتبرز هاته التسميات في سياق تعامل السكان مع هذه الظرفية، وكيفية تدبيرهم لها، والوسائل والمواد التي اعتمدوا عليها في ذلك، وكذلك ما خلفته هذه الفترة من أمراض وأوبئة، حيث كان المغاربة يؤرخون للزمن بأحداث كبرى عاشها المكان. من هنا سوف نحاول مقاربة مختلف التسميات التي صاغها المغاربة وأطلقوها على هذا العام. ب1عام بونتاف: سمي كذلك نظرا لبوار الفلاحة بسبب الجفاف، بحيث أن النباتات لم تنمو، الشيء الذي جعل الفلاحين يعملون على اجتثاثها ونتفها وإخراجها من الأرض لاستعمالها وطبخها ، ولذلك سمي بعام بونتاف. ب2 عام الصندوق: هاته التسمية ُعرفت على مستوى المجال الحضري (وزان)، وتم تداول هذا الاسم لأن الناس أو بالأحرى النساء عندما كنّ يهيئن الطحين والعجين لطبخه في الفرن، كن يضعنه في صندوق وُيحكمن إغلاقه، ومن ثم يذهبن به إلى الفرن، وهكذا إلى أن يعدن بالخبز كذلك في الصندوق، لأنه من كانت تهيئ عجينها وتضعه في الوسائل التقليدية (الميدونة أو الوصلة) تتعرض للسلب والسرقة نتيجة للجوع المستشري بين العامة. ب3 عام يرنة: هذا الاسم تم إطلاقه على عام الجوع، كما تم إطلاقه على عام البون، حيث أصبحت هاته النبتة "يرنة" رمزا للجوع لدى المغاربة، إذ كانوا يقتلعون جذورها ويقومون بطبخها (مفورة) وتناولها كوجبة لمواجهة الخصاص والجوع، وتتميز هاته النبتة بمذاقها المر، ورغم ذلك فقد سدّت الخصاص في زمن الجوع وأنقذت الآلاف من الموت المحقق. ب4عام التيفوس: هاته التسمية وردت في كتاب "اتحاف المطالع" لعبد السلام بن سودة، وهذه الكلمة هي ما يصطلح عليه بحمى التيفويد التي اكتسحت البلاد سنة 1945 ، حيث بلغ عدد من أصيب بها في المدن حسب تقرير إدارة الصحة العمومية 26290 شخص. وتجدر الإشارة أنه أطلقت على تلك الفترة الزمنية تسميات متعددة، عمل المغاربة من خلالها على تحقيب الزمن بمسميات تختلف من مكان لآخر، فسمي كذلك بعام خزو، وعام كرنينة، وعام حميضة، وعام حرودة ، وعام لحفا ولعرا... المحور الثاني: تجليات عام البون في الوسطين القروي والحضري: 1 ممهدات الاجتياح: مع بروز هذه الأزمة أو المجاعة، كان المغرب يرزح تحت الاحتلال الفرنسي والإسباني، منذ فرض الحماية عليه سنة 1912. وقد كانت القوى الاستعمارية تمارس سياسة الاستنزاف لثروات المغاربة، حيث تعمد إلى استصدار الأراضي الزراعية المهمة وتفويتها للمعمرين، ومع دخول فرنسا في الحرب العالمية الثانية سنة 1939 زادت عملية الاستنزاف بشكل أقوى، رغبة من فرنسا في تغطية نفقاتها المتراكمة من جراء خوضها للحرب العالمية الثانية، وترافق هذا الأمر مع موجات الجفاف والأمراض التي كانت تضرب المغرب خلال فترات متتالية، ما أدى إلى انخفاض الإنتاج بشكل كبير، وبالتالي دخول المنطقة في موجة أزمة خطيرة من الجوع والموت. ونظرا لكون الاستعمار كان يقسم المنطقة إلى مناطق عسكرية وأخرى مدنية، حيث كانت المناطق العسكرية تتمثل في تلك الجبلية، التي تميزت بشدة مقاومتها للاحتلال، حيث كبدته خسائر فادحة. أما المناطق المدنية فهي تلك التي خضعت بكل سهولة للاحتلال، فهاته الأخيرة كانت تحظى باهتمام دائم وبتموين مستمر حتى قبل أن تضرب المجاعة ضربتها، وأما المناطق العسكرية فلم تحصل على الدعم إلا بعد أن عرفت المجاعة أوجها.. وهنا نطرح سؤالين مهمين: هل تأخر قوات الاستعمار والمخزن في دعم المناطق العسكرية الجبلية هو انتقام من تلك المناطق على اعتبار أنها عرفت أشد أنواع المقاومة ضده؟ أم أن الاستعمار لم يكن على علم باستفحال المجاعة بين السكان في تلك المناطق الجبلية؟ "كانت السلطات الاستعمارية تتمادى في مصادرة ما تبقى لدى المغاربة من حبوب وغيرها، وتجمع التبرعات لفائدة ما أسمته "مليار التحرير" ويقضي بفرض إعانة لفرنسا، وهو أمر تأفف منه المغاربة تجارا وصناعا وموظفين، متألمين لضعف رواتبهم التي لا تتفق وغلاء المعيشة وارتفاع الأسعار، غير أن هذا لم يمنع قائد الرحامنة، وهي من المناطق التي ضربتها المجاعة بشكل أكثر غورا من تقديم شيك بمليون فرنك باسمه واسم قبيلته إلى المقيم العام لنجدة سكان فرنسا". العديد من العوامل ساهمت في تفاقم الأزمة، فبالإضافة إلى جشع وطمع المستعمر المتزايد، حل الجفاف بالمغرب مما أدى إلى تفاقم الأزمة و انتشار المجاعة، ومن ثم ارتفع عدد الضحايا و الموتى (كانت محاصيل القمح لا تتجاوز 5.0 قنطار للشخص فيما وصلت تقريبا 5.2 قنطار تقريبا في وقتنا الحالي). لقد كانت الأسر المغربية وخاصة في القرى لا تستهلك في المعدل المتوسط إلا 50g من الخبز في اليوم وهي الوجبة الأساسية لكل مغربي في تلك الفترة مع الإشارة إلى غياب المكملات فقليلا ما كانت الوجبة تتوفر على الخضر أما اللحم فتقريبا منعدم. وفي سياق إبراز بعض تجليات هاته الأزمة على مختلف المجالات، سنحاول مقاربة الوضع السائد آنذاك حيث أنحبس المطر وقام السكان بصلاة الاستسقاء في العديد من المناطق والمدن. على المستوى الفلاحي: نتيجة لتأخر التساقطات وقلتها تأخر الفلاحون في الشروع في عملية الحرث، ومع مرور الوقت وقلة التساقطات تقلصت نسبة مساحة الأراضي المعدة للزراعة، حيث لم تمثل سوى خمس الأراضي المزروعة. ومع انتشار أسراب الجراد "من ورزازات والتي بدأت تلتهم كل خضراء على الأرض فرتعت في أزهار اللوز بايمنتانوت وعاثت فسادا في تلك الربوع، ولم تسلم واحات درعة ومنطقة سوس على قلة من أنبتته أراضيها في هذه السنة العجفاء، من عبث الجراد بل قدرت المساحة التي غطتها سحائبه في سوس وحدها ب 100000 هكتار". على مستوى الموارد المائية: – مياه الشرب والسقي فقد عرفت العيون والآبار جفافا لا نظير له وكذلك انخفاضا كبيرا في صبيب الأنهار، "وقد خلقت قلة الماء هذه مشكلة كبيرة لسلطات الحماية سواء من حيث التزود بالماء الشروب، أو من حيث الحصول على مياه السقي، فأصدرت كثيرا من القرارات المتعلقة بجر المياه من العيون أو استغلال الفرشات المائية، أو ضخ المياه من الأودية والآبار نحو أراضي المعمرين" مما كان له الأثر الكبير والانعكاس الخطير على حياة السكان. وقد "خضعت المدن التي تعتمد في تزودها بالماء من قناة الفوارات، وكذا مدينة وزان لتحديدات صارمة في توزيع الماء غير ان الذي عانى من صعوبات شتى في التزود بالماء هم سكان البوادي الذين كان بعضهم يضطر لقطع مسافات طويلة لجلب الماء قد تستغرق يوما كاملا". على مستوى تربية المواشي: نتيجة لكساد الفلاحة وقلة الأمطار وجفاف الآبار تضرر قطاع تربية المواشي من كل هاته الإشكالات، "وفتك الموت فتكا سريعا بالبغال والخيل والحمير من جراء نقص الكلأ، حيث أصبحت المراعي غثاء من فرط الجفاف، وقل الشعير واضطر الناس إلى فتح الحقول أمام المواشي كما نضبت الاحتياطات من التبن.." . على المستوى الصحي و البشري: من يين النتائج والانعكاسات لما اصطلح عليه بعام البون أو المجاعة التي اجتاحت المغرب خلال تلك المرحلة انتشار الأمراض بشكل مخيف، "ففي الوقت الذي ُحرمت فيه إدارة الصحة العمومية مما يزيد على 50 في المائة من مستخدميها – أطباء وممرضون الذين ُجندوا في ساحات المعارك، ردي العديد عانت من مصاعب التموين بالأدوية والعقاقير، وكانت الأوبئة تعيش في أطراف البلاد، وتُ من سكانها، مما جعل التقرير السنوي لإدارة الصحة يعتبر سنة 1945 من أصعب السنوات التي مرت على هذه الإدارة وسنحاول إعطاء نظرة على أهم الأمراض التي شاعت بين السكان وهددت حياتهم بشكل كبير، كما سنبين أهم المدن التي شهدت أكبر عدد من المصابين كالتالي. ( ملاحظة: أشارت بعض الدراسات إلى أنه ينبغي مضاعفة هاته الأرقام أربع مرات ليطابق الواقع لأن إدارة الصحة لم تكن تحصي المناطق النائية والبوادي). لقد ارتفعت حالات العديد من الأمراض المرتبطة بالجوع وقلة النظافة، حيث حصد مرض السل أزيد من 8760 شخص، وعرف مرض الحصبة ارتفاعا ملحوظا، وقد أصاب مرض الرمد أزيد من 126911شخص، كما أن مرض الزهري ارتفع بحوالي 5000 حالة عن السنة التي قبلها. ومن النتائج البارزة لهذا التطور الصحي انتشار الجثث في العديد من الشوارع والأزقة، حتى أن الكلاب كانت تنهش الجثث المتهالكة والمنتشرة في كل مكان ونشير إلى أن هناك العديد من الدراسات والشهادات التي تشير إلى انه كان هناك العديد من الدواوير في البوادي التي قضى عليها الجوع والمرض بصفة نهائية. "وإننا لا نملك إلا أن نرجح الرقم الذي قدمته إحدى الدراسات المتأخرة عن سكان المغرب والتي تجعل عدد الهالكين في هذه المجاعة قريبا من 300000 ألف شخص. "المجاعة والهجرة القروية: في العالم القروي كانت المجاعة أقوى مما هو الحال عليه في المدينة ، فبفعل الجفاف، اضطر الفلاحون لبيع وتفويت أراضيهم بأثمان بخسة، أو استبدالها بالقمح. كما أن الأسر التي تعرضت للهلاك والموت تم الاستيلاء على أراضيها من طرف عائلات أخرى. وحتى تحد القوات الاستعمارية من التدفق على المدن حاولت ربط الفلاحين بأراضيهم، فأقرت ما سمي "بالملك العائلي" وهو ملك أرضي لابد منه لعيش العائلة، لا يقبل بيعه ولا تفويته أو رهنه (7هكتارات)، لكن هاته العملية باءت بالفشل نظرا لكون الفلاح قد فقد حيوانات الحرث، وكان الأمر يتطلب إجراءات وحلول عميقة، فحاول الاستعمار من جديد النهوض بالفلاحة عبر تحديث آلياتها وتقنياتها "الا أن هذه الإجراءات ارتطمت بمعارضة المعمرين، إذ من شأنها إن تفوت عليهم فرصة قضم المزيد من الأراضي الجماعية. ونتيجة للأوضاع المزرية التي عاشتها البوادي على جميع المستويات التي ذكرناها، انطلقت أفواج من القرويين في النزوح إلى المدينة كملاذ أخير للحصول على لقمة العيش، وكان الاستعمار يحاول جاهدا الحد من هاته الهجرة مخافة أن يقوم الوطنيون بتعبئة هؤلاء القرويين ضدها، وبذلك عملت سلطة الحماية على إحاطة المدن بحراسة مشددة، فأعادت المهاجرين إلى مواطنهم، فيما استغلت الأقوياء منهم من الرجال في الأشغال العمومية، وقامت السلطات الاستعمارية بمنع البلديات في المدن من توزيع أوراق (البون) للتموين على الوافدين الجدد. وعلى الرغم من كل هذا فإن الكثيرين منهم تمكنوا من الاستقرار بأحياء الصفيح المحيطة بالمدن. المحور الثالث: التدابير والإجراءات التي رافقت عام البون لمواجهة هاته الأزمة أو المرحلة التي اكتوى بنار جوعها و أوبئتها المغاربة، سوف نحاول مقاربة التدابير التي اتخذها المجتمع وكذا القوى الاستعمارية للحد من المجاعة كما سنوضح فيما يلي : 1 على المستوى الشعبي أو السكاني: اتجه الناس للبحث عن كل ما يمكنه ان يسد رمق العيش وان يقاوم الموت،لقد اضطروا إلى الاستعانة بالنباتات البرية ك (الكرنينة) و(الحميضة) و(البقولة)...لسد الرمق ومغالبة الجوع الكاسر، فالتجئوا إلى ما أنبتته الأرض من الأمطار الأولية من البقول والأعشاب، وأكلوا من خشاش الأرض، فقاموا بالحفر على جذور نبتة "يرنة" (البطاطا البلدية)، هاته النبتة التي كانت تغسل و تجفف تحت أشعة الشمس، ثم تطحن لاستخراج نوع من الطحين، يعجن و يطبخ كخبز، وقد كان هذا الخبز يسبب نوعا من الإسهال الحاد والذي كان بالنسبة للناس مقارنة مع حدة الجوع أهون و أقل ضررا. و يحكي لنا احد المسنين أن خبز يرنة بيعت في الأسواق كثيرا. أمام هذه الوضعية الغذائية المزرية، ابتدع الناس مجموعة من الوجبات بغية تعويض النقص الكبير في المواد الأساسية، ففي وجدة مثلا ثم ابتكار نوع من الخبز المرتكز على خليط من جذور النباتات والذي كان يسمى ب(تورتو). وبسوس ومنطقة الأطلس المتوسط أصبح الجراد المقلي والمشوي وجبة رئيسية و ذات أهمية كبرى. وبمنطقة المعمورة أصبحت نبتة الكمأ )الترفاس) الشبيهة بحبات البطاطس الصغيرة ذات قيمة كبيرة، حيت منعت سلطات الحماية استهلاكها و أمرت بجمعها و مقايضتها بقسيمة السكر. وأقبل المغاربة تحت طائلة الجوع على بلوط الغابات وفصوص الخروب، على الرغم مما كان يتربص بملتقطها من عقوبات لدى سلطات الحماية. كما رتع الناس بنهم في جماميخ الدوم وفي الإجاص البري وانتشروا في الأرض بحثا عن عساقيل أخرى مثل "تلغودة" و"كتارة" بالرغم من أن التمادي في استهلاكها كان يسبب تقرحات معدية قد تؤدي بصاحبها الى الموت. وفي إحدى الروايات الشفهية تحكي إحدى السيدات القاطنة بمدينة العرائش والتي بلغت من العمر عتّيا، أنها كانت من خادمات القصر الملكي آنذاك بمدينة تطوان، حيث في تلك الفترة "كانت الوصلة للخبز الخاصة بالقصر تطهى في الفرن وتحمل 60 خبزة وعند دخولها للقصر كان إفراد الشعب يستاؤون و يقولون : هم يدخلون وصلة الخبز ونحن ننتظر الطحين باللابريتا (البون) الله يجعلهم يأكلوا فيها السقطري (السم) "فقررت الأميرة للافاطمة الزهراء بناء فرن في القصر الملكي بالأعواد". وفي شهادة أخرى يحكي السيد "محمد الحنفي" المزداد سنة 1927 ،عاصر الحرب العالمية الثانية،كان يعيش في مدينة القصر الكبير و سنه آنذاك 18سنة، وكان يتنقل من المدينة إلى منطقة "حجرة النحل قرب مدينة أصيلة، مبينا أن "الأجانب والمستعمر يقشرون "الفرشي" من الأشجار، يحرقونه، يحكونه ويطحنونه ليصنعوا من رماده القهوة ثم يشربونها. ويضيف قائلا أنه بحكم سكنهم مع عساكر الفرنسيين، كان أكلهم يختلف عن العامة من الناس، كانوا يأكلون الأرز. ويستطرد قائلا وهو يتنهد "لكن سكان القرى كانوا يأكلون (كرسنا)، وكرسنا هاته هي نوع من العلف على شكل حبوب تختلط بالعدس، لا تستعمل إلا لتعليف البهائم، كانوا يبللونها، يبخرونها، ويصب عليها الماء حتى يزال عنها المذاق المر، يعرضونها لتجف تحت أشعة الشمس، يطحنونها ويعجنون على شكل خبز. وحتى يتبين لنا أمر حالة الضيق هذه، نضرب لذلك مثالا هو مادة السكر، إذ قلت واردات المغرب منه بسبب الحصار الاقتصادي الذي فرض على فرنسا، فبعد أن كان المغاربة يستهلكون شهريا 30000 طن من السكر، نزل هذا إلى 7000 طن شهريا . وأمام هذا النقص و تعذر الحصول على السكر، اتجه الناس إلى تحلية الشاي بالعسل أو التمر أو حتى أطراف الجزر في بعض الأحايين، واستعملوا حبات (سكارين) لتحلية الشاي، بل إن أحد المعمرين كان يوصي عماله باستعمال قطع الشمندر المجفف. ومس الخصاص مادة الخبز، إذ منعت سلطات الحماية على بني جلدتها صنع الخبز الرفيع و الهلاليات، أما المغاربة فإن وضعيتهم أصبحت جد صعبة أمام تعذر الحصول على الخبز، فقد قل القمح وأصبحت دكاكين باعته تموج بالبشر المزدحمين على الشراء. وأمام نفاذ مخزونات القمح واستنفاذ ما كان مدخرا بالمطامير، انتشر سكان البوادي بحثا عما يقيم الأود من النباتات و الجذور. وعانى المغاربة النقص في الأثواب، فدأب معظمهم على ارتداء ملابسهم، حتى كانت تتمزق أسمالا فوق أجسامهم، وتعدى الأمر ذلك حتى دفن الموتى بدون كفن، ونبشت القبور لاستخراج الكفن واستعماله كلباس. وقل من جهة أخرى الصابون وانتشرت الأوساخ، فتفاحشت الأمراض وتصاعدة وثيرة الأوبئة، وتكاثر عدد المصابين بالسل و الزهري و الرمد، لارتباط هذه الأمراض بالتغذية و النظافة. ومن التجليات التي صاحبت المرحلة، أنه أضحت القهوة و الصابون من مظاهر الغنى والتباهي حيث أصبح الأغنياء يأخذون صورا وهم يحتسون كؤوس القهوة وكأنها نياشين نصر بعد حرب طويلة، وفي المطابخ كان النساء يخلطن الحمص مع القهوة، ثم يدق الكل في المهراز بغرض مضاعفة الكمية، وعندما يسمع الجيران دقات المهراز يتسارعون لطلب كأس أو أقل من القهوة، و من هنا انتشر المثل القائل فرنك ديال القهوة تيعطر وجدة. وتحكي فضيلة 75 سنة المزدادة بجبل الحبيب بنواحي تطوان "أن أباها كان ذات مرة قد جلب من طنجة 9 خبزات ، فأوقفوه وشكوا في أنه أب ل 9 أولاد وحاولوا أخذها ليسدوا بها جوعهم، إلا أنه من شدة غضبه أكل الخبزات التسع بأكملها. وتضيف أن النساء كن يخفين الحمص في أحزمتهن خوفا من جمارك الأسبان في هذا السياق، وفي إطار محاولة الاستعمار والمخزن العمل على التخفيف من وطأة المجاعة ,وذلك عبر ما أسمته السلطات الاستعمارية بمكافحة الجوع عبر عدة آليات، " أقبلت سلطات الحماية على تحرير سوق اللحم بفعل ما أصبح يهدد الماشية من أسباب الهلاك، وفتحت المجال واسعا بذبح المواشي والاستفادة من لحومها في وقت كانت فيه البلاد ترزح تحت وطأة مجاعة طاحنة." وهكذا كان العديد من المغاربة يتخلصون من مواشيهم ويذبحونها ويوزعونها، وحتى لا تضيع تلك اللحوم ,عملت السلطات الاستعمارية على تكثيف عملية تثليج اللحوم للاستفادة منها في تمويل الجيوش ,وتوجيهها للاستهلاك الداخلي، وبذلك ارتفعت نسبة اللحوم المخزّن بشكل لافت. ومن جهة أخرى، قامت سلطات الاستعمار باستيراد القمح من الخارج وخاصة من الولاياتالمتحدةالأمريكية، حيث تشير الإحصائيات إلى دخول أزيد من 72 باخرة من مينائي البيضاء وأسفي، فعملت سلطات الحماية على إيصالها لمختلف المناطق "وكان ينال أهل البادية من ذلك وجبة شهرية تتراوح بين ستة كيلوات من القمح في المناطق التي تتوفر على بعض المواد المحلية التكميلية، وتسعة كيلوات في النواحي المجردة من كل مادة إضافية. وللإشارة فهذه المرحلة عرفت دخول ما يسمى(فرينة) للمطبخ المغربي لأول مرة. وكان يتم هذا التوزيع عبر نظام "البون" وهو وصل يسلم لكل رب أسرة يخول له الاستفادة كل شهر من هاته الكمية التي يختلف مقدارها من منطقة لأخرى، تكفي الأسرة أو لا تكفيها فذاك أمر لا يهم السلطات الاستعمارية. ومن الطرائف التي يحكيها أجدادنا في المناطق القروية أن الناس كانون يحصلون على زيت رومية في سياق الدعم –البون فكانوا يرمونها ويتخلصون منها بدعوى أنها زيت "غلالة" وذلك نظرا لأن قارورة الزيت كانت تحتوي على صورة "غلالة" ملصقة بها.. لأنه بكل بساطة، سكان البوادي لم يكونوا يعرفون أو يؤمنون سوى بالزيت البلدية وبكل ما هو بلدي. ومن التدابير التي كرست التمييز بين الأعيان والمقربين من السلطات الاستعمارية والمستعمر نفسه من جهة والعامة من الناس، أنه و نتيجة كثرة الطلب على المواد الأساسية خلال فترة تقنين المواد و توزيعها مقابل "البون"، كان المراقب و أعوانه من الشيوخ والمقدمين يحتكرون أوراق التموين لبيعها بأثمان مرتفعة جدا، أو لتقديمها مقابل خدمات في ضيعات المعمرين و مشاريعهم، و بهذا فإن عملية تقنين توزيع المواد الأساسية كانت تفتح الباب على مصراعيه أمام استغلال أوراق التموين لمآرب شخصية، و أمام الاغتناء والاحتكار والسوق السوداء، ثم إن التقنين لم يكن مفروضا بالشكل الذي رأيناه من التقشيش والتفتير سوى على المغاربة، ذلك أنه من بين أربع عشرة مادة أساسية مقننة، كان للفرنسيين كامل الحرية في الحصول عليها، ولم يكن يسمح للمغاربة بالحصول سوى على خمسة منها وبمقدار، وبينما كان الفرنسيون يحصلون مثلا على 500 غرام من الشكولاطة والكاوبل في سنة 1945، وهي سنة مجاعة مهولة لم يكن المغاربة يتوصلون سوى بالقليل من السكر والصابون. خاتمة: أكيد أن هذه المرحلة من تاريخ المغرب المأساوي قد خلفت في الذاكرة الجمعية المغربية العديد من الصور المظلمة المرتبطة بلحظات البؤس و الجوع و الأوبئة و المذلة و التردي الاقتصادي و الصحي، مرحلة أنتجت ثقافة جديدة – ثقافة الأزمة – و أنتجت معها تحركا اجتماعيا مرافقا لهذه الثقافة و لا يمكن أن نسير فقط في التجليات السلبية لهذه المرحلة، بل لا بد من الإشارة إلى أن الأزمة كانت لها جوانب إيجابية، أظهرت قدرة المواطن المغربي على التكيف مع الأوضاع الصعبة، وذلك باعتماده وجبات بديلة ترتكز على نباتات و مواد أخرى لم تكن تستهلك من قبل. كما أنه جادت قريحة المغاربة بإبداعات غنائية وشعرية زجلية، نذكر من بينها أغنية الحسين السلاوي الذي أبدع في وقت لاحق للمرحلة أغنية (حضي راسك) التي تطرقت لبعض مظاهر هذه الفترة، ونذكر أيضا بعض الأبيات الزجلية التي لامست جوانب من هذه المحطة من قبيل ومن بين ما أفرزته هذه الفترة كذلك أنها أذكت روح المقاومة لدى المواطن المغربي من خلال ربطه لها ببطش المستعمر وتسلطه باعتباره السبب الرئيسي لتجلياتها الأزموية عام البون فترة مظلمة حتى على مستوى الأبحاث والدراسات الاجتماعية نظرا لضعف التوثيق والتأريخ لها. فهل يمكن إرجاع هذا الخصاص لسياسة المستعمر في طمس الحقائق وإخفاء معالم كارثة إنسانية تسبب فيها ؟ أم أن هذا مرده لتقصير السوسيولوجيين المغاربة في تناول هذه المادة الغنية بأحداثها ؟