كان المغرب دوما ودوريا على أساس مصنفات تاريخية ومصادر ودراسات حديثة لباحثين مؤرخين مغاربة وأجانب، وجهاً لوجه مع جوائح طبيعية كانت بأضرار بليغة على موارده الطبيعية ووضعه الديمغرافي، من شدة فتكها بكل شيء دون استثناء. ويكفي من أجل فكرة خاطفة أن ما عرف عند المغاربة بالطاعون منذ العصر الوسيط كان يدفعهم أحيانا لبيع أبنائهم وأنفسهم غرب البلاد هرباً من الجوع والهلكة، كما جاء في دراسات تاريخية قاربت الموضوع في علاقته بمغرب العصر الحديث. وغير بعيد وحول ما أصاب مغرب نهاية القرن التاسع عشر من آفات طبيعية ارتبطت بفترات جفاف ترتبت عنه مجاعات رهيبة، يكفي التأمل في ما جاء في نص معاصر رصد ما حصل جنوب البلاد وغربها: "قد وقع الجوع الشديد.. وصار الغلاء الكثير في الجنوب.. واشتد الجوع على الناس حتى يأكل الناس الحشيش والربيع والنبات والنخل.. ومات جل الناس بالجوع في الطرقات.. وافترق جل الآباء عن أولادهم وهربوا عنهم وكذلك أزواجهم.. من شدة ما نزل.. حتى أن بعضهم يأكل بعضا، وقد يجد الناس دياراً واقفة وأهلها في داخلها ماتوا كلهم.. وأكلت الناس الجيف والميتة.. من شدة القحط والجوع. وهربت الأقوام للجبال ومواضع العيون والأشجار.. وكثر الهرج والقتال بين الناس يقطعون الطرق ويهجمون على المنازل". وفي علاقة بفترة البلاد المعاصرة زمن الحماية، تعرضت البلاد لمجاعات قاسية ارتبطت بوضع جفاف، يتبين أنه بنيوياً لِما أوردته المصادر المغربية عنه منذ العصر الوسيط على الأقل. ولعل جفاف مغرب النصف الأول من القرن الماضي توزع على ثلاث محطات، ما حصل بعد سنة من معاهدة فاس وما شهدته البلاد نهاية الثلاثينات من نفس الفترة، وقد عرف في تقدير بعض المؤرخين ب"السنة المخيفة"، لِما كانت عليه المواد الغذائية من نقص كبير بسبب الجفاف. أما مجاعة أواسط أربعينات القرن الماضي ثالث ما ضرب البلاد خلال نصفه الأول، فقد كانت نتاج جفاف قاتل ورد عنه أنه رغم تكرار المغاربة لصلاة الاستسقاء لم ينزل المطر. فقلت مساحات الزرع والماء في الأودية والآبار والعيون، وتضررت الماشية وأصيبت بأمراض أتت على قطعان كبيرة منها. مجاعة رهيبة تحضر في ذاكرة المغاربة باسم "عام البون" و"عام بوهيوف" و"عام خمسة وأربعين" في إشارة لسنة 1945 حيث أواخر جحيم حرب عالمية ثانية، كانت بخطورة وتأثير على عدة مستويات عمقتها عملية نقل مواد غذائية إلى جبهات قتال بفرنسا في إطار ما عرف ب"المجهود الحربي". واقع كان بأثر بليغ على وضع المغاربة الغذائي والاجتماعي والصحي، لشدة ما حصل من جوع عصف بجهات البلاد مع تفاوتات محدودة. ولقلة قوت المغاربة بالبوادي- يصعب تكوين فكرة شافية عنها بخلاف المدن إثر ما حصل من مجاعة، في غياب وثائق من شأنها تسهيل تتبع أمر جائحة من حيث امتدادها وانتشارها وضررها وتأثيرها- هاجر منهم عدد كبير باتجاه المدن، التي ظهرت بها مراكز توزيع الخبز و"الحريرة"، حيث كان يتم إطعام المحتاجين منهم وهم صفوفاً أمامها، نفس الشيء حصل مع توزيع قدر بسيط من الحبوب عليهم. وكان مما ترتب عن هذه المجاعة من شدة وقعها ظهور جملة أوبئة بسبب ضعف المغاربة الفيزيولوجي، حيث ظهر وباء "الحمى الراجعة" التي تسربت من حدود البلاد الشرقية. ومقابل حوالي خمسين ألفا من المغاربة الذين توفوا بسبب مجاعة 1944، كان عدد من توفوا منهم بسبب مجاعة عام "بوهيوف" حوالي ثلاثمائة ألف. وفي نص عن الجائحة ورد: "كانت هذه السنة جافة.. قاسى المغرب فيها شدائد وألونا من المصائب جوعا وعريا". ولعل من شدة أثر وقسوة هذه المجاعة، باتت بالنسبة للمغاربة حدثاً لتحقيب زمنهم، فنجد في روايتهم الشفوية من يقول هذا وقع قبل "عام الجوع" وذلك وقع بعدها. والثابت من خلال دراسات تاريخية ومناخية أن سنوات 1944- 1945 كانتا شديدة الجفاف والقحط، ومما زاد من تأزيم الوضع ما أصاب البلاد من أسراب جراد عبر الجنوب باتجاه الشمال أتت على ما كان من يابس. ولم تسلم حتى الماشية من المرض بسبب لظروف بئيسة وقاسية مناخيا، خاصة ما عرف ب"جدري الغنم" الذي شمل عدة مناطق من البلاد ومنها تازة. ويصعب القفز عما كان للحرب العالمية الثانية من أثر في ما حصل، خصاص في جبهات القتال الفرنسية بأوروبا جعل المغرب يساهم في توفير مواد غذائية داعمة في إطار ما عرف ب"المجهود الحربي الفرنسي"، ما أثر بشكل كبير على مخزونه من الحبوب بعدما أقدمت سلطات الحماية الفرنسية، على إفراغ ما كان بالبوادي من كميات مدخرة لدى الفلاحين. وعلى إثر ما حصل من جفاف خلال هذه السنة الرهيبة وبسبب ندرة المواد الفلاحية ارتفعت أسعارها، حيث يذكر نص معاصر حول هذه الجائحة: "كان الغلاء المفرط الشديد سنة 1945، حيث بلغت الخبزة من الشعير الذي هو جل معيشة أهل.. نحو ألف فرنك". وقد دفع وضع المغرب هذا بسبب المجاعة، لجملة إجراءات إدارية أقدمت عليها سلطات الحماية الفرنسية في إطار ما عرف ب"مكافحة الجوع". منها تحرير سوق الغنم من أجل استغلال لحومها قبل هلاكها كما ورد في دراسات حديثة، وثانيا ما عرف ب"معجزة القمح" وهو ما ارتبط بعملية توزيع هذه المادة ومعها أيضاً الخبز و"الحريرة". مع أهمية الإشارة لِما حصل بسبب ظروف مناخية واجتماعية صعبة، من نزوح وهرب من منطقة لأخرى ومن جبال وبوادي إلى مدن. بحيث ورد في دراسات ذات صلة أن أعدادا كبيرة من أهل الريف هاجرت باتجاه فاس غير مبالية بحدود فاصلة بين منطقة خليفية في الشمال ومنطقة سلطانية في الجنوب، ونفس الشيء من الهجرة سجل من مناطق الجنوب باتجاه الرباط والقنيطرة وغيرها. وورد أنه بسبب ما حصل من أوبئة إثر هذه المجاعة، كان الموتى من المغاربة يتساقطون بين طرقات المدن وفي ضواحيها، وعلى مسافات طرقات رابطة بين مدن وبوادي لدرجة قيل إن الكلاب كانت تنهش جثثهم دون قدرة على تدخل. مع أهمية الإشارة إلى أنه ليست هناك أرقام دقيقة لمن هلك، بسبب هذه المجاعة الرهيبة. وإلى حين أرشيف شاف وكاف لمقاربة الموضوع وفهم ما عاشه المغرب وعانى منه المغاربة خلال هذه الفترة، من المفيد الإشارة لوثيقة هامة بعنوان "قحط في المغرب معركة الحنطة"، وقد نشرت بالمنطقة الخليفية تحديدا بتطوان بعد سنة من الجائحة، لا شك أنها ارتبطت بالسلطات الإسبانية وباستعلاماتها التي سمحت بتداولها بين الناس لتلميع صورتها على حساب فرنسا. ومن الإشارات التي يمكن التقاطها منها ما ورد حول نزيف بشري حصل من بلاد الريف باتجاه مدن الشمال، فضلاً عما تضمنته الوثيقة حول تأخر أمطار سنة 1944 وجفاف 1945 الذي قالت عنه أنه لم يعهد له مثيل، دون إغفالها لظروف حرب عالمية ثانية كانت بمصائب وبأثر شديد على بلاد وعباد. ختاماً وإبرازا لشدة ما حصل بسبب مجاعة 1945، ورد في نصوص بحث مغربية أن مغاربة هذه الفترة لم يجدوا أمامهم سوى الطبيعة فضاءً رحباً للبحث عن أقواتهم، من جذور نباتات وما كانت تحتويه الأرض من مواد مثلما يعرف ب"الترفاس" (شبيه بالبطاطس) وكان بانتشار واسع غرب البلاد وبغابة المعمورة خاصة ولا يزال. فضلاً عما كانوا يقتاتون منه بمناطق جبلية يكثر بها نبات "الدوم" وخاصة جذور هذا النبات ومكونه الداخلي، ما ينتشر ويعرف في بوادي منطقة تازة الجبلية ب"الجمار". ناهيك عما اقتاته المغاربة بسبب هذه المجاعة الطاحنة من نباتات مثل "كًرنينة" و"حميضة" و"خبيزة"، مع ثمار شجرية غابوية مثل "الخروب" و"البلوط" وغيرهما. وجدير بالإشارة إلى أنه في مثل هذه الظروف الصعبة كان المغاربة يجدون في أسراب الجراد التي تضرب البلاد موازاة عادة مع الجفاف وجبة اتسع نطاقها، بحيث كان يجمع في أكياس ثم يطبخ مع الماء والملح وينشر لتجفيفه قبل أن يصبح جاهزاً للأكل. *مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث.