أنثروبولوجيات الحَجْر (3) قَالَ عَالِمُ البنيوية الأنثروبولوجي الفرنسي "كلود ليفي ستروس" في كتابه "أصل آداب المائدة" ما يلي: "مَطبخ مجتمع ما هو بمثابة لغة تترجم بنيته بطريقة لا شعورية، وتكشف عن تناقضاته". تبدو هذه العبارة فصيحة وبالغة من عالم أنثروبولوجي مشهود له عالميا في حقل الانثروبولوجيا كمؤسس وملهم كبير. وما اهتمام منظر البنيوية بآداب المائدة والطبخ والتغذية لدليل على أنها قضايا أنثروبولوجية بامتياز حابلة بالرموز والدلالات، تفيدنا في فهم تاريخ المجتمعات المادي والذهني، كما تساعدنا في التقرب أكثر من بنياتها الثقافية والاجتماعية، بعيدا عن البحث في السياسة والاقتصاد، كما قال المؤرخ "جون ميشال بيزييه" (Pesez Jean- Michel): "فَمِنْ فرط دراسة أسعار الحبوب تناسينا في بعض الأحيان من كان يستهلكها". ونضيف له أنه تم نسيان أيضا كيف يستهلكها؟ وهذا ما سنهتم به في هذه المقالة. وتجدر الإشارة إلى أن اهتمام الباحثين والعلماء بهذا الموضوع ليس وليد اللحظة، وإنما هو قديم جدا من خلال كتب الطبيخ المعروفة في التراث المكتوب، ومنها أيضا جل كتب التاريخ العام والجغرافيا وكتب الرحالة والمناقب، كانت تقدم لنا شذرات ومعطيات حول الأطعمة والمواد الغذائية وأنواعها، وتمايز البلدان والأمصار في العادات الغذائية وتأثيرها على صحة وأجسام الناس، كما أشار "ابن خلدون" صراحة إلى ذلك في مقدمته حين يقارن بين سكان الشمال والجنوب في بلاد المغرب قائلا: "وتجد مع ذلك هؤلاء الفاقدين للحبوب والآدم من أهل القِفَار أحسن حالا في جسومهم وأخلاقهم من أهل التلول المنغمسين في العيش، فألوانهم أصفى وأبدانهم أنقى وأشكالهم أتم وأحسن". فابن خلدون يرى أن طبيعة الغذاء لا تساهم في بناء الجسم فقط، وإنما حتى في الأخلاق. وبذلك فالغذاء يحدد الكثير. أما بخصوص إخضاع قضايا الأطعمة والغذاء للتحليل التاريخي والأنثروبولوجي، فإنه ظهر بشكل صريح على صفحات مجلة "الحوليات" الفرنسية التي خصصت ملفا محكما في شتنبر 1961 لموضوع تاريخ التغذية، ساهم فيه عدد من المؤرخين والباحثين في حقول علمية مختلفة. ومن ثم ظهرت دراسات كثيرة لا يتسع المقام للخوض فيها، كلها كانت ترى أهمية التغذية في نسق الحياة والقيم والسلوك في تاريخ المجتمعات وتطورها، أهمها دراسات "جان لويس فلاندران" وصديقه "جان جاك هيماراندكيه"، اللذين طالبا بتاريخ للذوق. ولن يكون إلا تاريخا مطعما بالأنثروبولوجيا على حد قول "فرنسوا دوس". ماذا كان يأكل المغاربة؟ وكيف يأكلون؟ وكيف يعدون الأطباق؟ وما هي طقوس المائدة ورموزها وعاداتها؟ كل هذه القضايا جديرة بالاهتمام وبالسؤال الأنثروبولوجي. والمادة المصدرية والمتون التاريخية المتنوعة من وثائق ونصوص أدبية ومناقب ورحلات واثنوغرافيات كثيرة، زاخرة بآداب الموائد وفنون الطبيخ. فتعدد الثقافات والجهات وتنوع التضاريس وخصوبة التربة ووفرة الإنتاج في المغرب، عوامل أعطت خريطة غنية من الأطباق وأنواع المأكولات وأصنافها من أشجار وتمور وحبوب وزيوت ومشروبات وأنواع اللحوم وتعدد الأطباق بين المدن والجبال والصحراء، وكل هذه الأصناف والأنواع يتم إعدادها وفق عادات وتقاليد وحسب معايير ومقادير مضبوطة، وفي ظروف خاصة وسياقات مختلفة. مثلا، أطعمة الأعياد والمناسبات ليست هي أطباق الأيام العادية، ومأكولات المدينة ليست مثل مأكولات البادية والجبال، مأكولات زمن القحط والجوع ليست هي مأكولات الوفرة، كما أن غذاء الصيف ليس هو غذاء الشتاء. هذه الزخرفة البديعة المتشابكة يمكن تلخيصها في مفهوم شامل هو "الثقافة". وقد صدر حديثا كتاب مهم وقيم تحت عنوان "المغرب النباتي: الزراعة والأغذية قبل الاستعمار" للمؤرخ المجد "محمد حبيدة"، الذي تناول الموضوع من زاوية التاريخ والبيولوجيا، كاشفا أن المغاربة كانوا يتمتعون بثقافة غذائية سليمة مبنية على النباتات قبل ظهور "موضة" الدعوة إلى التغذية النباتية حاليا في بعض الأوساط الغربية. ولكي نقرب القارئ الكريم من بعض كنوز وأسرار هذه الثقافة الغذائية الشاملة، نقترح التركيز على نموذج واحد أو مادة واحدة لتوضيح الصورة أكثر. لذلك، وقع اختيارنا على كتاب مهم جدا، ومفيد للغاية، هو كتاب تحت عنوان "من الشاي إلى الأتاي: العادة والتاريخ"، من تأليف المؤرخ "عبد الأحد السبتي" والأنثروبولوجي "عبد الرحمان لخصاصي"، يضم حوالي 500 صفحة، من منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط سنة 1999. وهو عمل تاريخي وأنثروبولوجي رائد، بذل فيه مجهود كبير على المستوى المنهجي والضبط المحكم للمصادر التي اتسمت بالتعدد والتنوع والتكامل. كما أعطى الكتاب نظرة مغايرة في طريقة الكتابة والتأليف، وساهم في التجديد والإبداع من خلال حُسن التوفيق بين المصادر المغربية والأجنبية، المعاصرة والتقليدية، وأيضا بين التراث الشفهي والحكاية والأشعار والأغاني والصور. كل هذا أعطى للكتاب المزيد من الفرادة والمتعة في القراءة. الكتاب يعطي صورة عن تاريخ الشاي وظهوره في الصين وطريقة انتشاره في العالم، ووظائفه الكثيرة اقتصاديا وتجاريا، وقيمته الغذائية ثم الرمزية. ويرمي إلى تناول موضوع الشاي كطقس في تاريخيته، عبر جوانب رمزية تنتمي إلى مرحلة إرساء العادة الجديدة في المغرب، وكيف انتقل الشاي من القصر السلطاني إلى أوساط الفئات الشعبية وإلى جميع بيوت الناس. يتساءل الكتاب: ماذا يعني شرب الشاي عند المغاربة؟ فهو مشروب مقرون في المخيال الشعبي والذهنية المحلية بالجماعة والعائلة والأنس وحسن الضيافة. وهذه الصور الراسخة في الممارسة اليومية للمغاربة جميعا في مختلف الجهات والمدن، تكون مؤطرة بشبكة هائلة من الرموز والطقوس والعادات، ولاحظ كل من "عبد الأحد السبتي" و"عبد الرحمان لخصاصي" أنها شبكة تكون دائمة ومتسمة بالتطور ومحكومة بالمتغيرات الجهوية. على سبيل المثال، يكون طقس الشاي في مستويات عليا من الصرامة والإحكام في مناطق سوس والصحراء وشنگيط، وهو ما يتجلى في القصائد التي نظمها أدباء وشعراء تلك المناطق، الذين أسهبوا بشكل ملفت للانتباه في الصفات والحركات والخصال التي ينبغي أن تتوفر في "مقيم الأتاي". وهي شروط كثيرة، منها الحكمة والوقر والاتزان والاعتدال والتواضع، ثم النظافة وأناقة اللباس والهندام، وجاء الكتاب بنصوص كثيرة في هذا الصدد، كأن إعداد الشاي شبيه بالصلاة، فلا يعطى لمن هب ودب. كما يقترن الشاي في المتن الشعري والأمثال الشعبية بلغة الشهوة والرغبة والمتعة والغزل. فهو ليس مجرد مشروب، بل هو منبه، ويرتبط تناوله بطقوس خاصة. ويرى الباحثان حسب عدة مؤشرات أن جلسة الشاي كانت في المغرب، في مستواها الطقوسي، امتدادا لجلسة الخمر. إن تأليف هذا الكتاب انطلق من قصيدة شعرية مطولة، أنشدها شاعر من الجنوب في منطقة آيت باعمران سنة 1893 باللغة الأمازيغية، هو "إبراهيم أو الحسين نايت اخلف"، جمعها ودونها الضابط الفرنسي الحكيم "جوستينار". تعد هذه القصيدة نصا تاريخيا متميزا جمع بين جمالية مجلس الشاي وبين الوعي بسياق التدخل الاستعماري، كما أنها تحمل مضامين وأبعاد كثيرة. وهذا الشاعر يظهر من خلال قصائده أنه كان يتمتع بحس إبداعي نادر وجذاب، مما جعل "السبتي" و"لخصاصي" يهديانه مؤلفهما. وقد عمل المؤرخ أحمد التوفيق، وزير الأوقاف حاليا، على ترجمة ونقل القصيدة من الأمازيغية إلى العربية. فالشاعر تحدث في قصيدته عن وجوب الالتزام بطقوس الشاي وأدبياته، من مستلزمات وأواني وقواعد. ولكنه أيضا أعطى استعارات جميلة في الصور والوصف، حيث شبه "الصينية" بالشمس، و"البراد" هو القطب وسط السماء، والكؤوس هي النجوم، و"المجمر" هو الجحيم. وجلسة الشاي هي الكون الذي خلقه الله. كما وظف الشاعر أيضا حسه الإبداعي في تصوير الصينية كأنها نظام المُلك، فالبراد هو القصر، والشاي بمثابة ملك خرج من قصره، وعلى غرار السلطان، فالشاي يحب الرفقة ويطلبها، ويسهل الحديث، ويطلق الألسن بقدر ما يعقدها، محددا على هذا النحو وتيرة اللسان. وفي هذا الحفل ينتظر الناس المشروب في صمت مثلما ينتظرون خروج الملك، فالشاي يظهر إذن مثلما يظهر الملك خارج قصره، وآنذاك تلتفت إليه جميع الأنظار. ولا يشرع الحاضرون في الحديث حقا إلا عندما يبدأ البراد في ترديد أغنية المعطرة، وقد انحنى والتزم الصمت. هكذا؛ يلاحظ كل من "السبتي" و"لخصاصي" في كتابهما القيم أن الشاعر الذي عاش خلال القرن التاسع عشر وظف تلك الاستعارات بإحكام وإبداع ليبرز أن الشاي يعكس النظام الاجتماعي والسياسي، بما في ذلك كل القيم السائدة. وكان الأنثروبولوجي الفرنسي قرأ هذه القصيدة لشاعر مغمور في ساحل الجنوب المغربي، وبما أنها جدا (175 بيتا) أنشدت بطريقة عفوية أثناء جلسة شاي، فإننا نقدم هاهنا بضعة أبيات فقط، وهي منشورة في الكتاب، وننصح القراء بالعودة إليها، كما يضم الكتاب شعراء آخرين من مختلف مناطق المغرب. إٍفي يَاغْ لبراد غْ الكاس نْ جاج بينغ كو يَانْ إراياغ، إزري ميدن إلا غْ دَارْنْغ حوبين أغْ ميدن زودْ أگليد إغدْ إفوغْ زود لموحيبا ن زمان أور أكو إتبالان نْكِ المْقراج د البراد د الكيسان دوفوسْ نْزري غْ إمي دارْ تاسا دوول راحاغ گيسنتْ ترجمة هذه الأبيات إلى العربية كما يلي: يصبنا الإبريق في كأس زجاج فيتوق إلى قربنا كل الناس وتتجه إلينا كل الأنظار فيحبنا الناس كحبهم للملك إذا تجلى وكحب الزمن البادي لا يبلى تداولُنا السموفر والإبريق والكؤوس والأيدي عَبرنا من الفهم إلى الأحشاء وفيها وجدت قراري. إن الشاي في مغرب اليوم قد أصبح المشروب الأول في البلد، وبالرغم من تطور الصناعات الغذائية وتطور المشروبات الغازية والمنبهات الأخرى كالقهوة وغيرها، إلا أنه بقي يتمدد في المجتمع المغربي كمشروب وكعادة، ويحظى بطقوس كثيرة. يقاوم، ينافس ويتجدد باستمرار، فكلما اتجهنا صوب الجنوب المغربي وداخل الواحات الصحراوية، أصبح أتاي هو المهيمن الوحيد على عادات الأسر والأفراد داخل البيوت وخارجها، وتوسعت ثقافته لتشمل طقوسا وممرات إجبارية حابلة بالرموز والدلالات داخل المجمع وجلسات الشاي، حيث الصينية أو الطبلة تكون هي الخيط الناظم يرتب تسلسل الوجبات الغذائية. كما توسع سوق الشاي في المغرب مع تحرر التجارة وتوفر وسائل النقل البحري والجوي، وانتشار وسائل التواصل الفوري، وارتفع عدد تجار الشاي بالمغرب الذين يربطون علاقات متينة مع المنتجين للشاي في الصين. وكما كان دائما، فالشاي يتمتع بتمايز اجتماعي، فهو مشروب لجميع الطبقات، يوجد نوع خاص يشربه الأغنياء كما يوجد نوع آخر يشربه الفقراء.