لعله من الطبيعي أن تتعرض المجتمعات والأمم الحضارية للحظات صعبة سواء من خلال الكوارث الطبيعية المتمثلة في الزلازل والبراكين والأوبئة والفيروسات أو من خلال الحروب العسكرية والإبادة العرقية وشتى أشكال الاستعمار والتخريب، ولكن أخطر أزمة حضارية تعيشها المجتمعات البشرية تتجلى في غياب تربية الإنسان لمواجهة هذه التحديات ونعني بتربية الإنسان بناء الإنسان بناء شموليا كليا يؤهله للانتصار على كل الفيروسات بالوعي الطبي وبالتوازن النفسي وبالقيم الإنسانية المتحضرة وبالطاقة الإيمانية الروحانية. وأول ملاحظة يمكن تسجيلها في أزمة انتشار وباء فيروس كورونا أن المجتمعات المحصنة بمنظومة القيم الأخلاقية والعقلانية والإنسانية تمكنت من محاصرة الوباء بطريقة تضامنية وحلّت جميع الإشكالات والنتائج المأساوية سواء منها الاقتصادية أو الاجتماعية بروح إنسانية عالية حيث انقلبت اليوم المعايير وبات السؤال المركزي كيف ننقذ الإنسان من الموت ونواجه الفيروس القاتل من بعدما كانت العلاقات الدولية مبنية على سباق التسلح والتحكم في العالم من باب القطبية الأحادية والسيطرة على الخيرات الطبيعية للمجتمعات المستضعفة، وسبحان الله، تغيرت الأحوال وكأننا في كوكب آخر توقفت الحركة ورجعنا إلى ذواتنا من بعد ما دمرنا الأرض ولوثنا المناخ وحققنا النسب العالية في الاستهلاك وصنعنا الانسان العالمي العابر للقرات الذي لا يؤمن سوى بلذة الاستهلاك وإله المادة، انتجنا من أسلحة الدمار الشامل ما يمكننا من فناء العالم والقضاء على الوجود البشري ونشرنا الذعر العالمي باسم القطبية الأحادية وانتشينا بمقولات نهاية التاريخ وأردنا لحركة الزمن أن تنتهي لأننا بتنا نتحكم في ناصية الحركة التاريخية وقوانين تطور الأمم ... بل والخطير أصبحنا أمام قناعة عقلانية مفادها أننا وصلنا لمقام الألوهية لا نحتاج إلى الأنوار الربانية وإلى محبة الأنبياء فبنينا أسطورة الإنسان الإله الذي تتمركز فلسفة الحضارة حول ذاته وأعلنا للعالم نهاية الإله وأضفينا القداسة على شعارات أعطيناها صفة الإطلاقية. إنها العقيدة الجديدة والديانة المعاصرة ديانة عبادة النموذج الوحيد لتنمية هذا النموذج الذي يفرض علينا جميعا اتباع فلسفة واحدة قائمة على الاعتقاد أن تحقيق المعدلات الكبيرة في الاستهلاك هو الطريق الوحيد للدخول للحضارة الإنسانية التي لا أفق لها سوى نظريات الاستهلاك اللامتناهي غير المحدود. هذه الفلسفة التي أوصلتنا لحتمية تدمير الطبيعة بحكم أن امتلاك العالم يحتم الفلسفة الداروينية المؤسسة على عقيدة البقاء للأقوى وبما أن أعظم درس في عالم الطبيعة أنه لن يبقى في هذا الكون إلا الذي يمتلك منطق القوة تحول العنف إلى لذة فلسفية لصناعة الإمبريالية وهي الثمرة العلمية لسيكولوجية التدمير وروحانية الامتلاك وتحقيق نشوة الانتصار. وكم توهمنا بأننا ننتمي للعرق المتحضر الذي لم يختلط بدماء الشعوب البدائية الغارقة في الثقافات الأسطورية وقمنا بثورة عقلانية ادخلتنا للحداثة ولفلسفة الأنوار لنجد أنفسنا محاصرين بكثرة الثقافات وتنوع الديانات وتعدد المجتمعات فلم نجد بدا من صناعة حقول معرفية وأنتروبولوجية تعطينا شرعية إلغاء الآخر بل والتمدد في جغرافيته الفكرية والنفسية لينتهي بنا المطاف في مرحلة ما بعد العولمة التي كان من المفروض أن تكون محطة للأخوة الإنسانية وللمحبة الكونية بحكم انتهاء أسطورة الجغرافية وثنائية الذات والآخر لحتمية العيش المشترك في ظل خريطة العالم المتعدد. ومع ذلك، وللأسف الشديد بمجرد دخولنا لزمن العولمة، تبين أننا لا نقبل بالاختلاف عمليا لأننا لم نتربى على المحبة الإنسانية فانفجرت العلاقات على أرضية الخوف من الآخر وبتنا نشاهد جميعا عملية التدمير الإرهابي للآخر، بل وعودة شرعية قتل المخالفين لأنهم لا يستحقون شرف الانتماء للحضارة الإنسانية البرابرة الجدد وضربنا عرض الحائط بكل تاريخ النضال الحقوقي وكفرنا بالمواثيق الدولية، وبالفعل، لم يبق إلا إله القوة هذا الإله الجديد الذي جاء ليبشر الإنسانية بالرخاء والسعادة بالاستقرار وبالعدالة وبكل العناوين الجميلة، فإذا بنا جميعا نعيش التمزق النفسي وشتى الأمراض النفسية لدرجة أصبح فيها الإنسان مستعبدا مشيئا لا فرق بينه وبين عالم الأشياء لا قيمة له إلا بالإنتاج ويوم تنتهي طاقته الإنتاجية يرمي به في دار العجزة، بل انتشرت خطابات البعض أنه لا يطرح أي إشكال بأن يموت من وصل للشيخوخة بسبب هذا الوباء لأن الأولوية للشباب المنتج، بل وخلصنا أنه لا ,,,,, الاقتصاد ليموت الإنسان تمجيدا لعقيدة السوق. والمصيبة الأكبر أن إله القوة لا يتغذى بالمحبة والإيمان بل لا يمكنه أن يسيطر على العالم إلا من خلال تحويلنا لكائنات جنسية عبر بناء الانسان الجنسي العالمي الذي يبحث عن الكمال الروحي في المتعة الجنسية التي باتت بلا حدود وبلا غايات. فدمرنا العواطف وفككنا الاسر ودخلنا لزمن التصحر العاطفي والروحي وفقدنا المعنى في كل شيء ولم يبق للإنسان من متعة جسدية سوى عبر الاستهلاك الجنسي الذي يخضع للتحكم عن بعد لرفع درجة الحرارة الجنسية ليدخل العالم جميعا في سوق عبادة الإله طاعة للشركات الجنسية العالمية .. وفي هذا السياق، تمت صناعة الرموز الوهمية للتحكم في المخيال الاجتماعي للبشرية فباتت النخبة المسيطرة على الإعلام تتمثل في سيكولوجية صناعة العوامل الافتراضية، نتابع أخبار كبار الرياضيين والفنانين لدرجة الذوبان في العالم الوهمي حيث الوصول لمقام الفناء في الجسد الرياضي لفرقة رياضية توجد في الضفة الأخرى، ولكن الأساس أنها تحقق لنا لذة التماهي والنسيان والهجرة والغربة بل والاستيلاب لقطع المسافات الزمنية لنسيان الواقع، واقع فقدان المعنى ولذة الوجود والتصالح مع الذات. وأمام كل مركزيتنا وقوتنا وأنانيتنا وسيطرتنا على العالم سنكتشف أمام خلية فيروسية لا ترى بالعين أننا نخاف من الموت هذا الخوف الذي سيتحكم في العالم ليفرغ الكون من المتعة ومن كل أشكال اللذة ليبقى الإنسان مع نفسه محاصرا في ذاته غير قادر على مساءلة روحه لأن كل الأسئلة التي أنتجتها كورونا هي في العمق تساؤلنا حول علاقتنا بالكون وبالطبيعة وبالإنسانية وتضعنا أمام أنفسنا، بل وتساؤلنا حول مدى نجاح "النموذج التنموي" الذي أسسناه وبنيناه لقرون طويلة كيف تم قتل إنسانية الانسان ليتحول الى وحش قاتل يدمر كل شيء باسم القوة والتحكم والامتلاك. فرض علينا هذا الفيروس الكوروني أن نجلس في منازلنا ونحن لا نريد أن نجالس أنفسنا حتى الدين بقداسته لوثناه بأفكارنا المتخلفة وايديولوجيتنا المتطرفة، بل اخرجنا شبابنا في مظاهرات لذكر الله وهل هناك من جهل أكثر من توظيف الدين في خدمة تيارات الحقد وتخويف الناس من قبل مشايخ الجهل ممن يعبرون عن امراضهم النفسية بالترويج للإرهاب النفسي على عموم الناس بكون القيامة قريبة وكأن الله تعالى يتشاور معهم سبحانه وتعالى ومن المفارقات الغريبة انه في مقابل تسويق الخطابات الأسطورية باسم الدين. والعقيدة بريئة من ثقافة التخلف ونشر الأساطير الوهمية تناسلت بعض الخطابات المتطرفة التي تخاف من عودة الروح الدينية التي تسكن المغاربة مع العلم أنه في مرحلة الأزمات يجب أن يترفع الجميع عن الصراعات الإيديولوجية وتصفية الحسابات السياسية، لكي لا تؤثر هذه المعارك الهامشية على حقيقة المعركة التي يجب أن يشكل فيها الإجماع الوطني وراء القيادة الملكية الرشيدة فرصة لتقوية علاقة المجتمع بالدولة والدولة بالمجتمع ضمن إعادة بناء الشخصية المغربية بناء أخلاقيا وروحيا وتربويا بطريقة تمكننا جميعا من الوصول لمرحلة ما بعد كورونا بناء نموذج تنموي جديد قوامه الاعتقاد أن أغلى وأعظم رأسمال هو الإنسان المغربي الذي يحتاج للحصانة الحضارية الحقيقية التي تؤهله لمواجهة شتى المشاكل والتحديات كيفما كانت طبيعتها. واستسمح القراء الأعزاء لنختم هذه التأملات بالتساؤلات التالية التي تحتاج إلى تفكير مستقبلي: 1- الحضارات التي كانت تتكلم من موقع مركزيتها وسيطرتها على عالم التقنية باسم التفوق الحضاري والريادة العمرانية والإنسانية مطالبة بتعلم درس التواضع الأخلاقي لنفكر جميعا بحجم المعاناة الإنسانية. وكميات الدموع التي أدرفت والأرواح التي أزهقت بسبب فلسفة عبادة الرأسمالية المتوحشة التي جعلت من غاياتها الكبرى استبعاد الإنسانية لتستفيد الشركات متعددة الجنسيات التي باتت تتحكم في الدول والمجتمعات. ولذلك، فكل الشعارات التي سوقناها للعالم اليوم على محط التجربة ومن ذلك شعارات العقلانية المادية والحداثة المنفصلة عن القيم ... إلى غير ذلك من الشعارات التي تحتاج إلى مراجعة نقدية قائمة على ضرورة إعادة النظر في الفلسفة الأخلاقية المؤسسة لمختلف الأنماط الحضارية للمجتمعات البشرية، لنقطع مع كل الفلسفات المادية التي دمرت الإنسانية وأفرغتها من قيمتها الأخلاقية وتسميتها الرمزية والحضارية. 2- لعل عودة الروحانيات للعالم المتأزم يدعونا اليوم لنفكر جميعا في موقع الروحانيات في بناء الحضارة الإنسانية. إذ بالرغم من تاريخ العلمانية التي فككت المرجعيات الدينية وفصلتها دستوريا وسياسيا وقانونيا عن النظام العام للحياة ضمن الرؤية المادية للوجود التي اختزلت إشكالية العلاقة مع الدين ضمن التجربة المأساوية لسلطة رجال الدين ولهيمنة الكنيسة في المجال التداولي الغربي، فإن عودة الصحوة الروحية اليوم في جميع الأديان والمجتمعات والحضارات البشرية تؤكد بما لا يدع مجالا للشك اننا نحتاج لإعادة اكتشاف دور الطاقة الروحية في بناء التوازن النفسي للإنسان والحصانة الروحية التي تقوي الإنسان وتؤهله لمواجهة التحديات الفيروسية والكوارث الاجتماعية والضغوطات اليومية. وللإشارة، فعندما نتحدث عن عودة الروحانيات نعني بها الرجوع لعالم الطاقة الإيمانية بكل تمثلاتها الدينية ومرجعياتها الفلسفية بحكم أن الأصل في الإيمان لا يوجد فقط في الجغرافية الإسلامية، وإنما يوجد في عمق الفطرة الإنسانية كل مولود إلا ويولد على الفطرة كما أخبرنا الحبيب صلى الله عليه وسلم. 3- أكيد بأن الثمن الذي ستدفعه الولاياتالمتحدةالأمريكية بسبب تعنتها وخضوعها للتفاسير الدينية الأسطورية لوباء كورونا سيدفع العلاقات الدولية لإعادة النظر في مفهوم قوة الدول بحكم التحول التدريجي لاكتشاف الحكمة الشرقية والعمق الإنساني وخصوصا منه في العالم الصيني حيث تمكنت من تقديم نموذج الحضارة الأخلاقية التي ساعدت العديد من الدول في الوقت الذي باتت دول الاتحاد الأوروبي تتابع انتشار الجائحة في عقر ذاتها دون تدخل يذكر. ولعل هذه التحولات الأخلاقية في خريطة العلاقات الدولية سيصنع لنا مجتمعا جديدا يختلف عن مجتمع ما قبل كورونا من خلال ارتفاع نسبة الرغبة في البحث عن الحكمة الإنسانية واكتشاف العالم الآخر. 4- إن هذه الأزمة باتت تحتم علينا البحث عن المعاني الإنسانية في حياتنا وهو ما يسميه فلاسفة الدين بضرورة روحنة العالم لأن واقع الاغتراب الإنساني عن ذاته الذي أوصله للانتحار الوجودي يفرض علينا جميعا ومن خلال جميع الأديان السماوية والفلسفات الروحانية البحث عن أرضية مشتركة لإنقاذ العالم عبر مصالحة العقلانية مع الطاقة النورانية لتجاوز فلسفات الصراع ونظريات تدمير الطبيعة لبناء رؤية توحيدية تجمع في آن واحد بين الروحانيات وعالم القداسة والتكامل الروحي مع العالم الطبيعي لدرجة الشعور بالتواصل الأخوي مع عالم الكواكب والمجال الطبيعي دون صراع أو صدام. وعليه، فالعالم اليوم مطالب بمصالحة العقل مع النقل والإنسان مع الطبيعة والأرض مع السماء وعالم الغيب مع عالم الشهود. ولعل هذا الحنين للروحانيات في زمن الخوف سيوضح الطبيعة الدينية التي تسكن في جوهر هذا الكون والإنسان الحائر. ومع دعوتنا للرجوع للروحانيات، لا يجب أن نخلط الروحانيات بعالم الأساطير الدينية والثقافات الفلكلورية التي شوهت الدين وحوّلته إلى خطابات إرهابية تتحكم في نفسية الجماهير باسم الغضب الإلهي وأهوال جهنم، وصناعة شتى أشكال صور العنف النفسي التي لا تعكس في عمقها سوى الأزمة النفسية والانحطاط الأخلاقي الذي أنتجتها العقلية العربية الإيديولوجية التي تتغذى على العنف الطائفي والتصنيف الديني والإقصاء المذهبي. ولعل الرجوع للروحانيات لا يمكن أن يساهم في إعادة بث الأمل في أطروحات حوار الحضارات وحوار الأديان على قاعدة الإيمان بالله عز وجل، ولكن من داخل البحث عن الأرضية المشتركة القائمة على احترام الاختلاف وتقدير التنوع الثقافي والتعدد الحضاري، خلافا للخطابات الإيديولوجية التي تؤرخ للفقر الأخلاقي للخطابات الإيديولوجية والمنظومات السياسوية التي صنعت أكذوبة حتمية تدويل النموذج الوحيد باسم القداسة أو التقنية أو الجنس بحيث بمجرد ما يصل أي نموذج إلى مقام العولمة إلا ويعمل على فرض وتدويل فلسفته على العالم قهرا استبدادا واستعبادا... وتحية روحانية لكورونا لأن هذه الخلية الفيروسية استطاعت القيام بما ما عجزنا عنه حضاريا وإنسانيا.. فكرتنا أننا لا ننتمي للكائنات الطبيعية وذكرتنا بأنه لا يعقل أن يعيش الإنسان العبثية الوجودية، بل وفرضت علينا أن ننصت للغة الكون وهي اللغة الصامتة لغة التسبيح والهدوء والطبيعة والعصافير.... لغة البراءة لنوقف الحروب ولغة المحبة لنرجع لكينونتنا العاطفية ولغة الحكمة لنرتقي في المقامات التخلقية ولغة التنوع لنكتشف عوالم الشرق، ولغة الفلسفة لنبحث عن الحكماء في الأديان والحضارات الإنسانية. وكما فرضت علينا هذه الأسئلة، فرضت علينا كورونا أيضا سيكولوجية الخوف من الموت مما حرّك فينا الرغبة في عشق الخلود لأنه لا يعقل أن يموت الإنسان الحامل للنور الإلهي، هذا الإنسان الذي رجع لبيته ونسي أحلامه وانطفأت رغبته وماتت لذته إنه زمن البحث عن الله تعالى، زمن البحث في جوهر روحنا لنكتشف الجمال الإلهي والفطرة الإنسانية حتى نحلم جميعا بغد أفضل للبشرية لبناء حضارة المحبة والتضامن والقيم الكونية والروحانية الخالدة. *متخصص في الفكر والحضارة-كلية الآداب والعلوم الإنسانية الرباط