بايتاس: ارتفاع الحد الأدنى للأجر إلى 17 درهما للساعة وكلفة الحوار الاجتماعي تبلغ 20 مليارا في 2025    "ما لم يُروَ في تغطية الصحفيين لزلزال الحوز".. قصصٌ توثيقية تهتم بالإنسان    إحباط عملية تهريب دولية للمخدرات بميناء طنجة المتوسط وحجز 148 كيلوغراماً من الشيرا    رابطة علماء المغرب: تعديلات مدونة الأسرة تخالف أحكام الشريعة الإسلامية    بايتاس: مشروع قانون الإضراب أخذ حيزه الكافي في النقاش العمومي    كربوبي خامس أفضل حكمة بالعالم    كمية مفرغات الصيد الساحلي والتقليدي تبلغ بميناء المضيق 1776 طنا    وهبي يقدم أمام مجلس الحكومة عرضا في موضوع تفعيل مقترحات مراجعة مدونة الأسرة    وكالة التقنين: إنتاج أزيد من 4000 طن من القنب الهندي خلال 2024.. ولا وجود لأي خرق لأنشطة الزراعة    بايتاس يوضح بشأن "المساهمة الإبرائية" ويُثمن إيجابية نقاش قانون الإضراب    نجاة مدير منظمة الصحة العالمية بعد قصف إسرائيلي لمطار صنعاء    توقيف القاضي العسكري السابق المسؤول عن إعدامات صيدنايا    بورصة الدار البيضاء .. تداولات الإغلاق على وقع الإرتفاع    خلفا لبلغازي.. الحكومة تُعين المهندس "طارق الطالبي" مديرا عاما للطيران المدني    احوال الطقس بالريف.. استمرار الاجواء الباردة وغياب الامطار    السرطان يوقف قصة كفاح "هشام"    الكلاع تهاجم سليمان الريسوني وتوفيق بوعشرين المدانين في قضايا اعتداءات جنسية خطيرة    قبل مواجهة الرجاء.. نهضة بركان يسترجع لاعبا مهما    "الجبهة المغربية": اعتقال مناهضي التطبيع تضييق على الحريات    في تقريرها السنوي: وكالة بيت مال القدس الشريف نفذت مشاريع بقيمة تفوق 4,2 مليون دولار خلال سنة 2024    جلالة الملك يحل بالإمارات العربية المتحدة    ستبقى النساء تلك الصخرة التي تعري زيف الخطاب    مدرب غلطة سراي: زياش يستعد للرحيل    العسولي: منع التعدد يقوي الأسرة .. وأسباب متعددة وراء العزوف عن الزواج    تحديد فترة الانتقالات الشتوية بالمغرب    نشرة انذارية.. تساقطات ثلجية على المرتفعات بعدد من مناطق المملكة    حصاد سنة 2024.. مبادرات ثقافية تعزز إشعاع المغرب على الخارطة العالمية    المغرب يفاوض الصين لاقتناء طائرات L-15 Falcon الهجومية والتدريبية    "زوجة الأسد تحتضر".. تقرير بريطاني يكشف تدهور حالتها الصحية    330 مليون درهم لتأهيل ثلاث جماعات بإقليم الدريوش    أبناك تفتح الأبواب في نهاية الأسبوع    المحافظة العقارية تحقق نتائج غير مسبوقة وتساهم ب 6 ملايير درهم في ميزانية الدولة    بيت الشعر ينعى محمد عنيبة الحمري    المنتخب المغربي يشارك في البطولة العربية للكراطي بالأردن    استخدام السلاح الوظيفي لردع شقيقين بأصيلة    إسرائيل تغتال 5 صحفيين فلسطينيين بالنصيرات    أسعار الذهب ترتفع وسط ضعف الدولار    كندا ستصبح ولايتنا ال51.. ترامب يوجه رسالة تهنئة غريبة بمناسبة عيد الميلاد    أسعار النفط ترتفع بدعم من تعهد الصين بتكثيف الإنفاق المالي العام المقبل    بلعمري يكشف ما يقع داخل الرجاء: "ما يمكنش تزرع الشوك في الأرض وتسنا العسل"    طنجة تتحضر للتظاهرات الكبرى تحت إشراف الوالي التازي: تصميم هندسي مبتكر لمدخل المدينة لتعزيز الإنسيابية والسلامة المرورية    الثورة السورية والحكم العطائية..    "أرني ابتسامتك".. قصة مصورة لمواجهة التنمر بالوسط المدرسي    المسرحي والروائي "أنس العاقل" يحاور "العلم" عن آخر أعماله    مباراة ألمانيا وإسبانيا في أمم أوروبا الأكثر مشاهدة في عام 2024    جمعيات التراث الأثري وفرق برلمانية يواصلون جهودهم لتعزيز الحماية القانونية لمواقع الفنون الصخرية والمعالم الأثرية بالمغرب    مصطفى غيات في ذمة الله تعالى    جامعيون يناقشون مضامين كتاب "الحرية النسائية في تاريخ المغرب الراهن"    هل نحن أمام كوفيد 19 جديد ؟ .. مرض غامض يقتل 143 شخصاً في أقل من شهر    دراسة تكشف آلية جديدة لاختزان الذكريات في العقل البشري    تنظيم الدورة السابعة لمهرجان أولاد تايمة الدولي للفيلم    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المؤسسة الملكية ومواجهة فيروس كورونا
نشر في هسبريس يوم 26 - 03 - 2020

قال الرئيس الفرنسي السابق جيسكار ديستان: "إنني أولي أهمية كبرى للطريقة، لأن الطريقة هي التي تمنح جمالية للفعل".
يهتم الباحثون في علم السياسة بتصرف المؤسسات السياسات في مرحلة الأزمات. دراسة تصرف المؤسسات الدستورية في مرحلة الأزمات تمكن من التعرف على كيفية اتخاذ القرارات في جحيم الفعل، كما أن هذه الدراسات تمكن كذلك من معرفة مدى قدرة الزعماء على فتح نافذة الفرص في مرحلة الأزمات.. ومن خلال فتح نافذة الفرص يعمل الزعماء والقادة السياسيون على تعزيز شرعيتهم من خلال الفعل والقدرة على تجاوز الأزمة.
أزمة كورونا جاءت في مرحلة حساسة من تاريخ الملكية بالمغرب، مرحلة تعمد فيها المؤسسة الملكية في عهدها الثالث، عهد محمد السادس، إلى البحث المتواصل عن شكل جديد للسلطة الملكية بالمغرب، يتميز بأسلوب وطريقة جديدة في ممارسة الحكم؛ فبعد التراجع عن الاحتفالات وبعض الطقوس والتركيز على الاختصاصات الدستورية والمظلة الدستورية، اهتم المتتبعون بالخلطة والوصفة التي ستركز عليها المؤسسة الدستورية من أجل الفعل في المرحلة الاستثنائية (تدبير مرحلة أزمة كورونا).
1)-المؤسسة الملكية وتجديد وسائل الفعل ما بعد دستور 2011
انتظر المتتبعون والمهتمون والمواطنون تصرف المؤسسة الملكية في مواجهة داء كورونا، وخصوصا أنها ومنذ دستور 2011 كانت قد أثبتت بقاءها تحت المظلة الدستورية.
المظلة الدستورية تمنح للمؤسسة الملكية مجموعة من الوظائف والمهام، وتحدد كذلك الوسائل الموضوعة رهن إشارتها من أجل تنفيذ هذه المهام والاختصاصات. كما أن الوثيقة الدستورية تمنح اختصاصات ووسائل للمرحلة العادية لتدبير الزمن العادي واختصاصات ووسائل لتدبير الزمن الاستثنائي. وأمام هذا التنوع في وسائل الفعل تعمد الملكية إلى اختيار الطريقة والوسيلة التي تناسبها وتميزها، وتتناسب كذلك مع الأوضاع والوقائع وتضمن المصلحة الوطنية واستمرارية الدولة.
المؤسسة الملكية كانت تعي أنها لا يمكنها أن تشتغل بنفس وسائل أسلافها، وأنه مطلوب منها الإبداع وتطوير الاحترافية المطلوبة من ملكية في الألفية الثالثة. الوسائل التي يمنحها النص الدستوري للمؤسسة الملكية تتمثل في مهام خاصة يمارسها الملك منفردا ومهام يمارسها بشكل مشترك مع باقي المؤسسات.
الاشتغال مع باقي المؤسسات الدستورية يعني أن تركز الملكية دورها باعتبارها حكم المصلحة الوطنية، وكذلك باعتبارها المؤسسة الوحيدة التي تحدد السياسة العامة للدولة وتترك للآخرين سلطة السهر على تنفيذها، خصوصا أن الاشتغال الجماعي للمؤسسات في التجارب الدولية أثبت نجاحه، وقد أكد ذلك الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند في كتابه "دروس السلطة" حيث قال: "إن أهم خلاصة خرجت بها من الإليزيه تكمن في التالي: إن من يمارس السلطة وحيدا ينتهي به المطاف وحيدا في الأخير".
المؤسسة الملكية في فعلها كذلك أفصحت من خلال مجموعة من السياسات العمومية التي أشرفت عليها سابقا من خلال المشاريع الكبرى عن خصوصية جديدة في الفعل..هذه الخصوصية الجديدة تمثلت في الإشراف على توقيع الاتفاقات التي تلتزم بها الأطراف من أجل التنفيذ.
هذا الإشراف هو ترسيخ لحضور المؤسسة الملكية كحكم للمصلحة الوطنية وكمحدد للسياسة العامة للدولة.. فمن خلال هذه السياسات العمومية التي كانت ترى المؤسسة الملكية أنها مهمة للبلد، كانت تضع التصور وتوزع الأدوار بين الفاعلين الذين من المفروض أن يعملوا على تنفيذ هذه السياسات العمومية.
من خلال هذه المشاريع والسياسات العمومية، لم تعتمد المؤسسة الملكية على سلطتها الرئاسية فقط من خلال التعليمات، (الظهير-التعليمات-الرسائل الملكية –خلاصات مجلس الوزراء)، بل اعتمدت على آلية حديثة رسخها التدبير الحديث الأفقي المعتمد على تلاقي الإرادات من خلال الاتفاقيات أو العقود.
هذا الحضور الجديد للمؤسسة الملكية في الألفية الثالثة كان يبرز طريقة للحكم سماها الباحث جون بيير كودان في كتابه المهم –الحكم من خلال العقود- وبالتالي كانت المؤسسة الملكية تفتح الطريق نحو الحكم من خلال الاتفاقيات والعقود، هذه الاتفاقيات تشرف على توقيعها المؤسسة الملكية حتى تضمن خروجها للعلن وتنفيذها الفعلي.
من خلال الاتفاقات كانت المؤسسة الملكية ترسخ الدولة الواحدة بدل الدولة المجزأة، إذ إن هذه الاتفاقيات والعقود كانت تجمع تنظيمات مختلفة تضم الدولة-المؤسسات العمومية-الجماعات الترابية-القطاع الخاص –وحتى بعض الشركاء الدوليين.
الاتفاقات والعقود لم تكن تتمتع فقط بقوة التقاء الإرادات وفي بعض الحالات بقوة العقد شريعة المتعاقدين، بل كانت هذه الاتفاقات والعقود كذلك تتميز بأنها موقعة في حضرة الملك، وبالتالي تتوفر كذلك على الدعم المالي والقانوني. الدعم القانوني يُّمكًّن هذه الاتفاقات والعقود من امتياز ركوب القطار السريع التشريعي، وكذلك ركوب القطار فائق السرعة التنفيذي، وفي حالة التعثر هناك مراقبات ومفتشيات ومسؤوليات مترتبة. الاتفاقات الموقعة في حضرة المؤسسة الملكية كانت تمتلك قوة، وبالتالي تمتلك كذلك قوة كقوة الشيء المدستر وقوة الشيء المقضي، وقوة الشيء المشرع وقوة الشيء المقرر.
الحكم من خلال الاتفاقات والعقود من طرف المؤسسة الملكية هو إبداع وابتكار جديد، فهو ليس تدشينا ولا افتتاحا، هو تعاقد بين الدولة ومؤسسات عامة وخاصة ومؤسسات وطنية ودولية. هذه الطريقة تحمل في طياتها حضورا للملكية التنفيذية والملكية البرلمانية، خصوصا إذا ما نظرنا إلى الملكية البرلمانية باعتبارها ترسيخا لمسؤولية الحكومة أمام البرلمان؛ فتوقيع الاتفاقيات أمام الملك لا يعني أنهم فقط شركاء في التصور أو يقبلون بالتصور، بل يعني كذلك أنهم مسؤولون عن التنفيذ أمام الملك (السلطة الرئاسية) وأمام المؤسسات السياسية والقضائية والرقابية إن اقتضى الأمر ذلك.
كما أن إبداع المؤسسة الملكية في الفعل لم يقتصر فقط على الفعل من خلال الاتفاقات والعقود بين الأطراف تحت إشراف وحضور المؤسسة الملكية، بل تواصل الإبداع كذلك من خلال ما سماه الباحث جون لويس بريكي "التواصل من خلال الفعل، تحديد أدوار وممارسات المهنة السياسية بشكل يومي"؛ وهكذا صارت الملكية تعتمد على التواصل من خلال الفعل وعبر الفعل.
قال بيير لازريف: "يجب شرح الأفكار من خلال الأفعال، والأفعال من خلال الأشخاص".. تركيز المؤسسة الملكية على الأفعال والمشاريع الكبرى والسياسات العمومية هو اقتناع راسخ لديها بأن القول ليس له نفس مفعول الفعل على الأجيال الجديدة (génération Et génération Z)) التي تثق بالأفعال والنتائج على الأرض، والنتائج التي تترك أثرا فعليا وحقيقيا على حياتها اليومية ووضعها الاجتماعي.
2)-المؤسسة الملكية ومواجهة فيروس كورونا
قال ميشال دوبري: "ليس للرئيس إلا سلطة طلب سلطة أخرى".. هذه المقولة التي أطلقها الأب الفعلي والروحي لدستور الجمهورية الفرنسية الخامسة كانت تعني أن مؤسسة الرئاسة الفرنسية عليها أن تجنح إلى جعل المؤسسات الأخرى تشتغل وتتحمل مسؤوليتها، وهذه الطريقة هي الطريقة التي انتهجتها الملكية في مواجهة داء كورونا.
يمنح الدستور للمؤسسة الملكية في الظروف الاستثنائية، وخصوصا بعد أن أعلنت منظمة الصحة العالمية أن فيروس كورونا هو وباء عالمي، مهام استثنائية ووسائل استثنائية يمكن اللجوء إليها، وطالب مجموعة من الباحثين بتطبيقها؛ ولكنها إن كانت تمنح إمكانية التقرير بحرية معينة، إلا أنها تغيب الاستفادة من الرأي والخبرة الجماعية. كما أن المغرب له تجربة سلبية مع فرض حالة الاستثناء (الانقلابات العسكرية والعزلة الدولية وغياب الحياة السياسية).. المؤسسة الملكية اختارت العمل إلى حد الآن تحت مظلة التدبير الدستوري العادي، وهنا تظهر المؤسسات الدستورية حنكتها وتجربتها وقوتها الذاتية وتميزها عن التجارب السابقة في المغرب.
كما أن طريقة التعامل مع الأزمات الكبرى من خلال النجاح والتفوق في صناعة الخلطة المناسبة تعني عمليا أن المؤسسة الملكية طورت بشكل كبير مهنتها السياسية في مواجهة الأدوار المطلوبة منها في مرحلة الأزمات (لباحث بركت في مقاله المهم "الحوار من خلال الأفعال").
الفيروس العالمي كان فرصة كذلك لتثبت فيه الملكية صحة الطريقة والإستراتيجية التي اتبعتها في تدبير البلاد في المرحلة العادية والمعتمدة على الخصوص على التواصل من خلال الفعل والإجراء، وإن كان هذا الفعل والإجراء يتدرج حسب تطور خطورة الفيروس.
اختيار التواصل من خلال الفعل ليس بالأمر السهل، بل يتطلب إستراتيجية تتجنب طريقة الحكم السهلة المعتمدة على القول والوعود والفعل القليل، والانتقال إلى إستراتيجية للحكم تعتمد على الفعل والإجراء والتواصل من خلالهما، ما يثبت تطور ونضج واحترافية في ممارسة المهنة السياسية.
وهكذا لم تجنح المؤسسة الملكية إلى استعمال الوسيلة التي يتيحها لها الدستور، والمجسدة من خلال خطاب موجه للأمة، فالرئيس الصيني اختار في بداية الأزمة التوجه إلى المواطنين لإخبارهم بأن الصين تعيش وضعية حرجة، واختار رئيس الوزراء البريطاني أن يخبر شعبه بأنهم سيفقدون أحبتهم، أما المستشارة الألمانية فاختارت التوجه للمواطنين من أجل إخبارهم بأن أكثر من ستين في المائة من المواطنين يمكن أن يصابوا بداء كورونا؛ وبالتالي اختار هؤلاء الرؤساء إستراتيجية تعتمد على التدخل المباشر للمؤسسة الرئاسية من أجل دفع المواطنين إلى التزام بيوتهم.
في المغرب وأمام أزمة كورونا، عمدت المؤسسة الملكية إلى التحرك بشكل غير مباشر ومن خلال تبني الإستراتيجية التي لخصها السياسي والدستوري الفرنسي ميشال دوبري، والمرتكزة على "ليس للرئيس إلا سلطة طلب سلطة أخرى"، (هذه الإستراتيجية تختلف عن الإستراتيجية التي اختارتها الملكية في مواجهة الربيع العربي، والتي اعتمدت على التدخل مبكرا وبشكل شخصي للملك من خلال خطاب موجه إلى الشعب).
إستراتيجية المؤسسة الملكية معتمدة على دفع كل المؤسسات الوطنية والمتنوعة إلى تحمل مسؤوليتها الدستورية والقانونية، من خلال الاجتماعات أو من خلال استعمال السلطة الرئاسية وإعطاء الأوامر للعمل على تجنيب البلاد ويلات داء كورونا، وجعل باقي المؤسسات تتحمل مسؤوليتها. وهكذا تحركت المؤسسة الدينية من خلال المجلس العلمي الأعلى، وأصدرت فتواها بإغلاق المساجد مؤقتا رغم بعض الأصوات المتطرفة التي ارتفعت لتعلن أن بيوت الله لا تغلق. ولكن المؤسسة الملكية كانت تجنح للشعار المكتوب داخل مدرسة البوليتكنيك في فرنسا، والذي مفاده "بالعلم والتفوق نبني الوطن"؛ وبالتالي تم الانتصار لصوت العلم (العلماء والأطباء أخبروا أن خطورة المرض تكمن في سرعة انتشاره وبالتالي يجب منع كل التجمعات كيفما كانت طبيعتها).
لم تخرج المؤسسة الملكية نظرا للأزمة لتحتل الصفوف الأولى، ولكنها كانت تلك المؤسسة التي تشرف على كل شيء وتحرك كل شيء ولكن من خلف الستار. المؤسسة الرئاسية في باقي الدول ذات اللون السياسي كانت ترى الفرصة سانحة لها لتصدُّر المشهد من أجل تسجيل أهداف سياسية على باقي الخصوم السياسيين في البلد، وترى الأزمة كنافذة لتهيئ الانتخابات المقبلة؛ بينما المؤسسة الملكية كانت تحس بقوتها وحياديتها السياسية وسلطتها باعتبارها حارسة المدى الطويل بقوة النص الدستوري، وبالتالي حافظت على هدوئها الإيجابي، وأثبتت للجميع أنها تمسك بزمام الأمر في مواجهة الفيروس اللعين، واحتفظت لنفسها بتحديد زمن الخروج إن اقتضت خطورة الأوضاع ذلك.
قال بيريكليس، السياسي ورجل الدولة اليوناني الذي توفي في سنة 429 قبل الميلاد بعد انتهاء إحدى المعارك وسقوط العديد من القتلى: "اليوم فقدت المدينة شبابها وفقدت السنة ربيعها"، وهي نفس المقولة التي أطلقها الرئيس الأمريكي لنكولن بعد انتهاء الحرب الأهلية الأمريكية وسقوط أكثر من خمسين ألف قتيل في ثلاثة أيام، حيث قال هو كذلك: "اليوم فقدت أمريكا شبابها وفقدت السنة ربيعها". هذا النوع من القادة كان يتباكى على الضحايا بعد انتهاء المعارك، والمؤسسة الملكية في المغرب ومن خلال الإجراءات الاستباقية كانت تجنح إلى تطبيق مقولة ايميل دوجراردان، التي مفادها "الحكم هو التوقع"، وعدم التوقع يعني الذهاب سريعا إلى الفشل؛ وبالتالي عملت المؤسسة الملكية على تحريك وتوجيه وقيادة باقي المؤسسات إلى القيام بالإجراءات الاستباقية التي تحمي البلد من تفشي الفيروس وسقوط الضحايا، بدل إستراتيجية البكاء على الضحايا.
إستراتيجية الحوار من خلال الفعل تعتمد على ترك الفعل يفتح الحوار: فتح الحساب، الاتصال برؤساء الدول، التعليمات، السلطة الرئاسية، ويفتح النقاش ويخلق الإجماع والارتياح. قال دافيد لويد جورج: "رجل السياسة هو شخص لا توافقه الرأي، وإن وافقته الرأي فهو رجل دولة". وأثبتت أزمة فيروس كورونا أن القليل من السياسيين في العالم استطاعوا النجاح في السيطرة على الفيروس وأثبتوا بالتالي أنهم رجال دولة حقيقيون وليسوا رجال سياسة محترفين.
يقول الباحث دافيد رونار: "تعتمد السلطة السياسية في الغالب على اللعب على الثلاثي المكون من (القول-الفعل-جعل الآخرين يعتقدون بإمكانية الفعل). ويعمل السياسيون كل حسب شخصيته وقدرته وحنكته على ترتيب الفعل السياسي، سواء من خلال القول الكثير والفعل القليل، أو من خلال الفعل ومن ثم توضيح هذا الفعل من أجل ترسيخ الطمأنينة والهدوء".
من خلال الفعل الهادئ والفعل الإيجابي تترسخ الثقة، خصوصا عندما يواجه البلد خطرا كفيروس كورونا، ما يتطلب الإكثار من جرعات منح الثقة، وبالتالي الابتعاد عن إستراتيجية التهويل. قال وينستون تشرشل: "أنا متفائل، لأنه بالنسبة لي يجب أن نكون متفائلين أحسن من أن نكون شيئا آخر". قال روني جيرارد: "عليكم أن تعلموا أن عليكم اعتناق التفاؤل عند تكاثر المخاطر". قال أنطونيو غرامشي: "يجب الدمج بين تشاؤم العقل وإيجابية الإرادة". والتفاؤل هو خاصية السياسي الذي يعمل ويبدع وينجح.
كما اعتمدت الملكية كذلك على ما يطلق عليها التعليمات. ولكن التعليمات يجب تفسيرها بأدوات علم التدبير والقانون الإداري. والتعليمات الملكية ما هي في حقيقة الأمر إلا توجيهات صادرة عن سلطة رئاسية إلى سلطات معينة من طرفها من أجل تنفيذ الأوامر التي تتطلبها استمرارية الدولة، والمحددة من طرف من يمتلك السلطة الفعلية لإصدارها حسب الوثيقة الدستورية.
كما أن التعليمات هي أوامر وتوجيهات من يمتلك سلطة تحديد السياسة العامة، ومن يمتلك سلطة التحكيم في تحديد المصلحة العامة، ومن يمتلك سلطة استمرارية الدولة إلى الهيئات المنفذة، أو التي تشرف على التنفيذ، من أجل تحميلها المسؤولية عن حسن التنفيذ ومحاسبتها بعد ذلك أمام المؤسسة المسؤولة عن التقييم والمراقبة حسب الوثيقة الدستورية.
المؤسسة الملكية يمنحها الدستور كذلك سلطة على المؤسسة العسكرية والأمن والداخلية والخارجية والمؤسسات العمومية الإستراتيجية والمؤسسات المحايدة، وبالتالي تحتاج البلاد في مرحلة التدبير العادي ومرحلة التدبير الاستثنائي بالخصوص إلى من يرسخ الدولة الواحدة (ضدا على الدولة المجزأة) التي تجمع وتشرف على كل المؤسسات كيفما كان شكل تنظيمها وتبعيتها، ونحتاج كذلك إلى من يقود هذه المؤسسات ويوجه فعلهما نحو التكامل، من أجل تحقيق الأهداف المشتركة، حتى نستطيع مواجهة فيروس كورونا.
3)-المؤسسة الملكية والطريقة الجديدة للفعل من خلال خلق الحساب الخصوصي
قال السياسي البريطاني طوني بلير: "أقول لكم وبصراحة إن مجتمعا ووطنا يعيش أزمة هو في أمس الحاجة إلى البناء من خلال الواجبات وليس من خلال الحقوق".
هجوم فيروس كورونا لم يصب فقط الأشخاص، بل وكذلك الاقتصاد والسوق، وبالتالي ارتفعت أصوات تنادي بتطبيق الفصل الأربعين من الدستور كما لو أنها كانت تريد إضافة هلع جديد إلى هلع كورونا (رد فعل الموظفين والعاملين على بيان النقابات قبل اللجوء إلى تعديله، أبرز مثال)، متناسين أن المغاربة يعتبرون الكلفة العمومية كنوع من الأعمال الشاقة، تفرض من طرف السلطة السياسية من خلال الدستور والقانون (كما أكد على ذلك الباحث روبير نوزيك) خصوصا إذا لم يتم إقناعهم بضرورتها وجدواها من خلال الحوار والتبرير القبلي.
المؤسسة الملكية كانت تعي أنها في حاجة إلى طريقة وأسلوب جديد، هذا الأسلوب والطريقة الجديدة من المفروض أن يتميز بكونه غير مباشر ويمرر بأسلوب سلسل؛ وهكذا عمدت الملكية إلى خلق حساب خصوصي وفقا للمادة السادسة والعشرين من القانون التنظيمي للمالية والفصل السبعين من الدستور المغربي، من أجل خلق حساب خصوصي خاص بفيروس كورونا. هذا الإجراء كان أنسب إجراء لأنه إجراء يعتمد على اختيار المؤسسة الملكية طريق المساهمة الطوعية والاختيارية، وليس طريق الضريبة المفروضة والقسرية، وبالتالي وكما يقول الفلاسفة فإن طريقة وضع الأسئلة تغير الأجوبة (بحيث تجاوزت المساهمات ضعف المبلغ المطلوب)، والحل تمثل في إبداع طريقة تعتمد على المساهمة وليس الضريبة وطريقة سلسلة. وهنا نتذكر المثل الفرنسي الشهير(Circulez,il n y a rien a voir-et personne n a rien
vu !)، وهو الإجراء نفسه الذي استعمله بذكاء رئيس الوزراء الفرنسي السابق ميشل روكار عندما أحدث ضريبة سماها المساهمة الاجتماعية المعممة، ما دفع الباحث الفرنسي ميشل كودت في كتابه "فرنسا الأخبار الجيدة"، والذي وصف فيه إصلاح روكار بإصلاح العباقرة الذين ينجحون في القيام بالإصلاحات الهادئة.
4)-المؤسسة الملكية وفيروس كورونا وحكامة الشعب الملك
يقول الباحث بيير هنري طفايوط في كتابه "كيف نحكم الشعب الملك": "في العصر الديمقراطي الفن السياسي يبدو غير نافع ومستحيلا ومضرا". من خلال هذا الكاتب يؤكد الكاتب أن الديمقراطيين يعتقدون أنهم اكتشفوا الحكامة الآلية من خلال حرية السوق أو من خلال التدابير الإدارية البيروقراطية العامة والغير مشخصنة، أو من خلال ما أكد عليه سان سيمون من خلال دعوته إلى الانتقال من حكامة الأشخاص إلى حكامة الأشياء، ولكن الوقائع أثبتت أن حكامة الشعب الملك تتطلب طريقة وخلطة ليس من السهل الحصول عليها دون إبداع وابتكار.
تدبير الدولة في زمن كورونا، مع وجود شعب ملك، يفرض البحث الجدي عن الطريقة والخلطة المناسبة التي تمكن من اجتياز حبل البهلوان بسلام. عندما نقول الشعب الملك، نعني به الشعوب الخمسة، أي الشعب-الدولة والشعب-المجتمع والشعب-الرأي والشعب -الطريقة والشعب-القصة أو الحكي.
الشعب -المجتمع هو مجموعة من الأشخاص الأحرار، بينما يتميز الشعب -الدولة بكون العيش المشترك داخل فضاء معين، هو في حاجة إلى تدبير من خلال القواعد القانونية، حتى نرسخ الشعب الحقوق وكذلك الشعب المستقبل من خلال المشروع والبرنامج الحكومي. ومن خلال شعار الشعب-الدولة تتجسد مقولة هوبس أن الدولة هي نحن في مواجهة الدولة هو أنا.
إذا كان الشعب-الدولة من المفروض أن ينشر قوانينه ومراسيمه ويتخذ قراراته، فإن المجتمع -الدولة من حقه أن ينتقد ويعترض على ما ينتجه الشعب-الدولة. هنا يبرز للوجود ما يطلق عليه الشعب-الرأي. الشعب -الرأي هو الذي قال عنه جون جاك روسو: "الرأي هو ملك العالم، وهو غير خاضع لسلطة الملوك، بل إن الملوك هم أول عبيد هذا الرأي".
الشعب هو كذلك انتخابات حرة ونقاشات مفتوحة وقرارات ديمقراطية وتقديم الحساب. ومن خلال هذه المسطرة يبرز الشعب-الطريقة.. أما الشعب الخامس فهو الشعب الذي لا يمكن تصنيفه، وهو شعب يملك قصة وحكيا واستثنائية (بيير روزنفلون في كتابه le parlement des invisibles) وهو الشعب-القصة أو الشعب الحكي.
حاولت المؤسسة الملكية التي كانت ملزمة بممارسة مهامها (ضمان استمرارية الدولة ومنع الفيروس من التفشي وتوفير العلاج للمرضى ومنع سقوط الأرواح مع الحفاظ على الحياة السياسية والديمقراطية العادية)، والتي تتطلب منها اتخاذ القرارات بالسرعة والفعالية المطلوبة تحت قصف فيروس كورونا، وبالتالي كانت ملزمة باختيار الوصفة التي تزاوج قدر الممكن بين حرية الشعب وفعالية السلطة.
خلطة حرية الشعب وفعالية السلطة تقتضي الخلط بين الشعوب الخمسة، ولكن من خلال تراتبية وخلطة تتغير وفق تطور الأوضاع في البلاد وقسوة وخطورة ضربات فيروس كورونا من خلال الترتيب التالي: الشعب-الدولة ومن ثم الشعب-المجتمع بالأساس، والقليل من الشعب الرأي أو إن صح التعبير التركيز على الشعب الرأي المساند والمدعم (نظرا لخطورة الأزمة التي تهدد الجميع)، أما الشعب -الرأي (الرأي المضاد) والشعب الطريقة والشعب -القصة أو الحكي فسيأتي دورهما، عندما تجتاز البلاد هذه المحنة بسلام ويقدمون لنا نقذهم ورأيهم حول طريقة تدبير الأزمة، لأننا عند ذلك سنكون قد انتقلنا من مرحلة تدبير المرحلة التاريخية والاستثنائية إلى مرحلة التدبير السياسي العادي (بعد القضاء على فيروس كورونا).
الخلاصة
قال السياسي الفرنسي البارز جورج كليمونصو: "من أجل اتخاذ القرارات يجب أن نتوفر على عدد غير مزدوج، وثلاثة عدد كبير"، ما يعني أن القرار السهل يحتاج فقط لشخص واحد). من خلال ذلك كان السياسي الفرنسي يوضح صعوبة اتخاذ القرارات في الأوقات العادية، فما بالك باتخاذ القرارات تحت القصف اليومي المستمر لفيروس كورونا.
قال الجنرال ورئيس الوزراء الفرنسي السابق بيتان في خطابه المنقول عبر شاشة التلفزة بتاريخ 31 أكتوبر1940: "لقد عملت في الماضي على التصرف كأب للأمة ولكن منذ اليوم سأتصرف كرئيس للأمة". المؤسسة الملكية تتصرف اليوم كمؤسسة للرئاسة وتستمد شرعيتها من المقتضيات الدستورية وتعمل على جعل كل المؤسسات الأخرى تشتغل وفق خطة تضمن الانسجام وتضمن تحقيق الهدف المشترك والمتمثل في القضاء على فيروس كورونا.
يقول الباحث روجي جيرارد شوارتزبورغ في كتابه "الدولة الفرجة": "إن العقل العمومي يمنح صفة الزعماء المميزين في مرحلة الأزمات، وذلك لأن هؤلاء الزعماء يستطيعون إخراج شعوبهم في مرحلة الأزمات من السياسة إلى التاريخ". وبالتالي فإن التاريخ اليوم يفتح بابه أمام الزعيم الصيني الذي استطاع قيادة بلده للسيطرة على الفيروس، لكن اللائحة مازالت مفتوحة تنتظر زعماء آخرين أثبتوا حنكة وتجربة في الاستعداد لمواجهة داء كورونا. بينما سيسجل التاريخ كذلك أن بعض الزعماء فشلوا في الانتقال من التدبير السياسي إلى التدبير التاريخي (إيطاليا).
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وانقسام العالم إلى معسكرين، معسكر للمنتصرين ومعسكر آخر للمنهزمين، تهكمت الصحافة الدولية آنذاك عندما أطلقت على الزعماء الذين قادوا بلدانهم نحو النصر اللقب الشهير "آباء النصر"، وأطلقت على الزعماء الذي حصدوا الهزيمة "آباء الهزيمة". وفي نظري فإنه بعد الانتصار على وباء كورونا سنكون كذلك أمام نوعين من الزعماء، "آباء النصر" و"آباء الهزيمة". ونتمنى أن يكون بلدنا العزيز مصنفا ضمن خانة آباء النصر.
في المغرب السياسة والطريقة التي تعاملت بها المؤسسة الملكية مع أزمة كورونا كانت سياسة مدروسة تبعث على الارتياح. يقول الباحث روبير فابر: "إن بعض الزعماء يعتمدون على الصورة حتى يقول عنهم الناس لقد رأيناكم في التلفزة، ويعمد آخرون إلى استعمال الراديو والخطابات حتى يقول عنهم الناس لقد سمعناكم". لكن المؤسسة الملكية كانت ترسخ طريقة وأسلوبا يترك انطباعا وخلاصة لدى الناس تتمثل في الارتياح الذي أبداه المواطنون للإجراءات المتخذة والمدروسة. وهكذا عمدت المؤسسة الملكية إلى ترك الأفعال تتواصل وتحصد النتائج الإيجابية. هذه السياسة وهذه الإستراتيجية كانت أكثر تهوية، وأكثر ارتباطا وفعالية ومباشرة في قيادة الشأن العام، خصوصا في مرحلة الأزمة.
كما أن هذه السياسة تفتح باب التفاؤل والأمل أمام وجود الخلطة المناسبة والطريقة المثلى لثنائية حرية الشعب وفعالية السلطة، باعتبارها الحل الوحيد لمواجهة المستقبل، من خلال التركيز على عملة الزمن الحديث المعتمدة على الثلاثية الذهبية(السرعة-الفعل-النجاح)، خصوصا أن مغرب ما بعد كورونا ليس بالضرورة هو مغرب ما قبل كورونا.
*باحث في العلوم السياسية والقانون العام


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.