المنتصر السويني يقول ميشيل كروزيي: «إن الفشل المتكرر للإصلاحات يعتبر خطرا على المجتمع، لأنه يستهلك الوقت ويبذر الموارد». قال لوران فابيوس، الوزير الأول الفرنسي السابق، عن القانون التنظيمي للمالية لسنة 1959: «إنه مشروع تقنقراطي، تمت صياغته بعقلية ضد البرلمان». فتح الدستور الجديد في المغرب الباب على تفاؤل معين لدى المغاربة، ولكنه لم يبدد التخوف الذي كان لديهم من المستقبل، إذ رغم أن الدستور الذي صوت عليه المغاربة تضمن إيجابيات عديدة، فإنه حمل في طياته قواعد تنظيمية تفسر وتكمل القواعد الدستورية، صوت عليها الشعب دون أن يعرف مضمونها، مما جعل الدستور يستبطن في حقيقة الأمر مشكلة، لأن مجالات مهمة من الدستور تركت تحت رحمة الإدارة المغربية المحافظة وتقنقراطي المحكمة الدستورية من أجل مراقبة مدى احترام المشاريع للوثيقة الدستورية، إذ سحبت مجموعة من القواعد المكملة للدستور من الشعب المغربي لإبداء رأيه فيها، وفوض أمرها إلى الإدارة والتقنقراط للتصرف فيها، مما خلق تخوفا كبيرا لدى المغاربة من المجهول الذي حمله النص الدستوري، خصوصا وأن هذه النصوص، ونظرا إلى طبيعة موضوعها وأهميته، قد تحمل في طياتها طريقا آخر للدولة المغربية وللعلاقة بين السلط ولكيفية تدبير الدولة لشؤونها غيرَ الطريق الذي وضعه الدستور الذي صوت عليه الشعب المغربي (وفي هذا السياق، نستذكر التصريح الشهير لميشيل دوبري لمجلة "الإكسبريس" الفرنسية والذي قال فيه "إن إصدار بعض القوانين التنظيمية قد يتجاوز في أهميته تغيير الدستور"؛ وهي نفس الاستنتاجات التي توصل إليها الدستوري لويس فافيرو في مقالة له تحت عنوان "الدستورية الجديدة" كما يتبين من قوله: "إن الدستور، مع وجود القوانين التنظيمية والمحكمة الدستورية، يفقد طابع الاستقرار والوضوح والنهائية". هذه الضبابية كان من الممكن تبديدها من طرف التقنقراط الذين يملكون زمام المبادرة في صياغة القوانين التنظيمية لو التزموا فقط بروح الدستور الذي حاز على المشروعية الشعبية، وعملوا على الاستفادة من التجارب الدولية، كما قال المفكر ديسرائلي: "إن من يعرف بريطانيا فقط لا يعرف بريطانيا"؛ وكما قال أيضا السياسي الفرنسي ألان لومبير: "نقارن تجاربنا بالآخرين لنعرف ومن ثم نقارن لنفهم، وفي الأخير نقارن لنتحرك". هذه المقارنة والاستفادة من التجارب الدولية لو تمت لفتحت المجال أمام المغرب ومؤسساته لتحقق قفزة نوعية نحو الأمام، ولكن نوعية النصوص التي تمت المصادقة عليها بعد دخول الدستور حيز التنفيذ كانت، في غالبيتها، نصوصا محافظة من الماضي، وعوض أن تحمل الدستور وتحلق به إلى الأمام عملت على سحبه إلى الوراء ضدا على تطلعات الشعب المغربي. ولكي نوضح ذلك عمليا، سنحاول أن نقوم بدراسة نقديه لمشروع القانون التنظيمي للمالية، خصوصا وأن الأمر يتعلق بالقانون التنظيمي للمالية الذي يضع أسس الميزانية والمحاسبة والتدبير الحديث للدولة والعلاقة بين المؤسسات الدستورية، كما أنه كان من المفروض إعادة النظر في النص التنظيمي للمالية القديم، الذي أثمر فقط عن تدبيرٍ أوْرَث المغاربة تراكم العجز السنوي والمديونية والبطالة والفوارق والريع. منذ أن قامت فرنسا بإصلاح قانونها التنظيمي، بدأت بوادر داخل وزارة المالية المغربية بتهييء المجال من خلال مجموعة من المنشورات والمراسيم وتغيير بعض فقرات القانون التنظيمي الحالي بغية القيام بإصلاح جذري، وهو الإصلاح الذي تأخر بمدة تتجاوز العشر سنوات. وكان لا بد من انتظار الأزمة المالية لسنة 2013 وضغط المؤسسات الدولية حتى نسرع من مسلسل إصلاح القانون التنظيمي للمالية، رغم أننا نعرف مسبقا أن إصلاح هذا القانون يشكل أهمية كبرى بالنسبة إلى الدولة التي توجد في أزمة ناتجة، بالأساس، عن المديونية والعجز المستمر والتحملات المستقبلية الناتجة عن شيخوخة المجتمع، وكذلك عدم توفرها على الوسائل الضرورية لإنعاش الاقتصاد وإقرار المنافسة، وعجزها عن لعب دورها في التضامن الوطني والاجتماعي. لقد أثبتت التجارب الدولية أن المديونية والأزمة الاقتصادية لهما سبب واحد وأساسي يتمثل في النفقة العمومية، لأن الهم الأساسي للسياسات العمومية، منذ استقلال المغرب إلى الآن، كان هو خلق نفقات جديدة دون الاهتمام بتقييم هذه النفقات أو قياس مردوديتها، بالإضافة إلى عدم تقييم السياسات السابقة. الفساد والريع والتوسع المستمر الذي عرفته السياسات العمومية في المغرب، أنتج توسعا في التدخل العمومي، وأثمر بالتالي ارتفاعا في النفقات العمومية. إن هذا المستوى من الإنفاق العمومي الكبير، والذي تجاوز دائما مستوى المداخيل، عمل على تعميق المديونية، مما جعل من هذه المديونية وخدمة الدين نفقات جديدة قد تعمل في المستقبل على شل الفعل العمومي. كما أنه من غير المجدي اتهام الأزمة الاقتصادية أو التدبير الحكومي لحكومة من الحكومات السابقة، كما يحلو لبعض السياسيين القول، لأن الأسباب أعمق وأبعد من ذلك؛ كما لا يمكن، أيضا، توهم أن الحل يكمن في الرفع من الضرائب أو في عودة النمو (كما يصرح بذلك كافة المسؤولين الحكوميين والسياسيين في بلدنا)، لأن الضرائب والنمو لا يغيران من مستوى الإنفاق العمومي والذي هو، في حقيقة الأمر، أصل الأزمة. إن الطريقة التي ترسخ بها العجز المستمر في المغرب ليست وليدة أسباب ظرفية بل وليدة أسباب بنيوية بالأساس، لهذا فإن إعادة النظر في كيفية تدبير الدولة لمواردها وإمكانياتها تشكل مسألة مهمة وحيوية تستدعي فتح نقاش وطني، للتفكير في أحسن السبل لإعادة النظر في السياسات العمومية المتبعة وكيفية إقرارها وتمويلها وتقييمها. لهذه الأسباب مجتمعة، فإن مشروع القانون التنظيمي للمالية يلعب دورا مهما في تحديد مستقبل البلد، وبالتالي فإنه لا يمكن أن يمر مرور الكرام دون أن يُفتح نقاش وطني حوله، ذلك أن تغيير القوانين التنظيمية مسألة قد لا تتكرر في تاريخ الأمم إلا في لحظات متباعدة. ولكن قراءة متأنية لمشروع القانون التنظيمي الذي صادق عليه المجلس الوزاري تسمح بتسطير الملاحظات التالية: 1) المهام الجديدة للبرلمان في الرقابة والتقييم بحاجة إلى تجسيد في مشروع القانون التنظيمي للمالية يحدد الفصل السبعون من الدستور أن البرلمان يمارس السلطة التشريعية، وأنه يصوت على القوانين ويقيم السياسات العمومية، مما يعني أن سلطة البرلمان بدأت تنحسر عن صياغة القوانين، لصالح الجهاز التنفيذي الذي صار صاحب الحق الفعلي في المبادرة التشريعية، وتتجه إلى التصويت فقط على القوانين ومن ثم حيازة سلطة مراقبتها وتقييمها. إن الثورة التدبيرية، التي تجتاح العالم، قد شرعنت الاتجاه إلى أشكال قانونية مجزئة وغير عامة، وكذلك الاتجاه إلى التعاقد لإنجاز الأنشطة العمومية. إن الحكامة العمومية الجديدة، التي تدمج ما بين القانوني والاقتصادي، قد دفعت بالبرلمان إلى تبني شكل العقلانية المادية بدل شكل العقلانية الشكلية. وكان من نتائج هذا التوجه الجديد أن البرلمانات في غالبية دول العالم قد بدأت توجه اهتمامها واشتغالها إلى المراقبة والتقييم. وفي هذا السياق، نظر الحقوقيون والباحثون في القانون العام الحديث مثل دانييل موكل الذي تحدث عن مرحلة الانتقال من القانون الإداري إلى التدبير العمومي الجديد، والتي تشكل الأرضية القانونية للحكامة الجديدة؛ كما أن الباحث الفرنسي جاك شوفاليه تحدث بدوره عن التغيير العميق الذي يعرفه القانون في الدولة الحديثة، من خلال بروز الدور المهم للفاعلين الاقتصاديين والمنظمات غير الحكومية، مما أنتج تخلي الدولة عن دورها في إنتاج القاعدة العامة ودورها في التوجيه الاقتصادي، وبالتالي فإنها (الدولة) لم تعد وحدها من يضع القواعد القانونية، وصارت تتجه إلى صياغة تجارب وأهداف قابلة للقياس والتطوير من طرف مجموعة من الفاعلين، وتسير بالتالي نحو نوع من التدبير الذي يعتمد على الحكامة بدل الإنتاج الأحادي للقاعدة القانونية. * باحث في السياسات العمومية