الذكرى العشرون لاعتلاء الملك محمد السادس عرش المغرب ليست لحظة عابرة في تاريخ الملكية وتاريخ المغرب، بل هي لحظة مهمة لتقييم الحصيلة والوقوف على المنجزات والنواقص، وهي لحظة كذلك من المفروض أن تحدد خارطة الطريق بالنسبة إلى المستقبل. الخطاب الملكي الموجه إلى الأمة ينتمي إلى الخطابات السياسية التي تستمد قوتها من الوضع السياسي لملقي الخطاب، وعلى اعتبار أن ملقي الخطاب يوجد على رأس الدولة ويمارس مهام أساسية ومركزية، فإن انتظارات الجمهور والمتلقي كبيرة. لهذا، يعتقد مجموعة من الباحثين أن خطاب رئيس الدولة يجب أن يكون ساميا وذا مكانة نوعية رفيعة يعكس المكانة الأساسية والإستراتيجية التي يحتلها صاحب الخطاب في هرم الدولة، هؤلاء الباحثون يؤكدون كذلك أن خطاب رئيس الدولة لا يجب أن يشبه خطاب باقي السياسيين في البلد. خاصية زمن الخطاب الذي تزامن مع مرور عشرين سنة على اعتلاء ملك المغرب العرش وخاصية طبيعة ملقي الخطاب جعلتا الكل ينتظر خطاب من الخطابات الكبرى، التي تطرح الأسئلة الكبرى وتقترح الحلول الإستراتيجية، التي تعمل على رسم خريطة الطريق بالنسبة إلى الدولة ككل. الخطابات الكبرى من المفروض أن تثبت القدرة على تفكيك الواقع وشرحه، وعلى الرغم من أن الواقع من طبيعته عصي على الفهم ولا يخرج ما في جعبته مرة واحدة، وبالتالي يصعب الجزم بإمكانية الإحاطة بكل تفاصيله، فإن الخطابات الكبرى عليها أن تثبت النجاح في تفكيك طلاسم الواقع. 1 طبيعة الخطاب الملكي الموجه إلا الأمة ينص الفصل الثاني والخمسون من الدستور على أن: للملك أن يخاطب الأمة والبرلمان، ويتلى خطابه أمام كلا المجلسين، ولا يمكن أن يكون مضمونه موضوع أي نقاش داخلهما؛ وهو ما يعني أن هذه الخطابات تشكل في واقع الأمر وسيلة من الوسائل التي تتوفر عليها الملكية من أجل ممارسة مهامها الدستورية. وعلى الرغم من أن الدستور لم يتطرق للقوة القانونية للخطابات الملكية، ولم يحدد شكل تنزيلها، فإن التنصيص عليها دستوريا يعني أن الخطاب الموجه إلى الأمة هو خطاب موجه إلى الجميع.. وبالتالي، لا يمكن اعتباره كأي خطاب سياسي مجرد إعلان للنوايا؛ بل هو خطاب موجه إلى المؤسسات الدستورية بتراتبيتها والسلطات المخولة لها، كما أن الخطاب الموجه إلى المواطن هو خطاب من الممكن أن يحمل التزاما وخريطة طريقة من أعلى سلطة في البلاد إلى المواطن العادي. لهذا، فان المواطن العادي من المفروض أن يعتبر الالتزامات الواردة في الخطاب هي حقوق تنتظر التنزيل داخل آجال محددة من طرف المؤسسات الدستورية أو من طرف الإدارة. الخطاب الموجه من طرف الملك إلى الأمة، وعلى اعتبار أن الأمة من المفروض أن تضم الكل من المواطن العادي إلى المواطن الأول (ويتذكر الكل أن ديغول رفض إخبار مجلس الوزراء بفحوى خطاب كان سيوجهه للشعب الفرنسي، مباشرة بعد اجتماع مجلس الوزراء)، تعني أن الالتزامات الواردة في الخطاب الملكي هي التزامات تلزم الأغلبية البرلمانية والحكومة. تلزمها انطلاقا من السلطة الدستورية التي يمارسها الملك وتلزمها انطلاقا من أنها واردة من سلطة التعيين، وبالتالي تعتبر أوامر رئاسية من المفروض العمل عاجلا على تنزيلها.. وإذا كان القانون، كما قال بولاتيموس، يمتلك خاصية أنه يأمر يمنع أو يعاقب؛ فإن خاصيات الخطاب الملكي بالنسبة إلى المؤسسات الدستورية هو ثنائية التنزيل والتنفيذ، على اعتبار أنها أوامر رئاسية نابعة من أعلى سلطة في البلاد. 2 الخطاب الملكي الموجه إلى الأمة والشعب الاجتماعي مضمون الفصل الثاني والأربعين من الدستور يجعل من الملك ليس فقط ممثلا للشعب المصوت (الشعب الذي ذهب إلى صناديق الاقتراع وصوت فعليا)، والذي من خلال تصويته اختار الأغلبية البرلمانية وهذه الأخيرة اختارت الحكومة (الشعب-الدولة)، بل يجعل الملك ممثلا كذلك للشعب الانتخابي الذي لم يصوت، وكذلك الشعب الذي اختار عدم التسجيل في اللوائح الانتخابية (الشعب-المجتمع). وحيث إن المغرب يعرف عزوفا كبيرا عن التسجيل في اللوائح الانتخابية وعن التصويت، فإن هذا العزوف يقلص بشكل كبير الكتلة الناخبة الفعلية، ويجعل بالتالي من المؤسسات السياسية مؤسسات ذات تمثيلية ضعيفة، نتيجة لمجتمع في غالبيته لا يثق في الطبقة السياسية، وبالتالي هو شعب في غالبيته غير مهتم بالشأن العام. هذا العزوف الكبير يوسع قاعدة عدم المهتمين بالشأن العام والمهمشين اجتماعيا والمحتجين، وبالتالي وكما يقول بيير داردو وكريستيان لافال في كتابهما "العقلية الجديدة للعالم"، إن السياسات العمومية المتبعة انتهجت طريق الإقصاء الاجتماعي وعملت بالتالي على توسيع جبهة الذين يعتبرون أقل من المواطنين (sous-citoyen)وكذلك فئة الذين لا يعتبرون مواطنينcitoyen) (non-، الشيء الذي ساهم في توسيع جبهة الرفض وتقليص جبهة الشعب القانوني والانتخابي (المصوتون فعلا). وبالتالي، فإن الملك يجد نفسه مطوقا بمسؤولية دستورية كبيرة، اتجاه الغاضبين والمقاطعين والمحرومين وغير المستفيدين من السياسات العمومية، وبالتالي من المفروض أن يصحح أخطاء السياسات العمومية الزبونية وأخطاء السياسات العمومية الإقصائية والفراغ القاتل الذي يتركه عدم تنزيل سياسات عمومية، مما يجعل المؤسسة الملكية باعتبارها تجسد الزعامة المؤسساتية معنية بتنزيل السياسات العمومية الجديدة والمنتظرة والمطلوبة من طرفي الشعب الاجتماعي الغاضب والمقصي والمنسي، من خلال استعمال سلطاته الدستورية. عالم الاجتماع المغربي بول باسكون سبق له أن أكد أن شرائح مهمة من المجتمع المغربي لا تعبر عن نفسها بشكل مباشر كطبقة اجتماعية منظمة، لأنها لم تصل بعد إلى تلك الهوية السياسية وبالتالي تترك المجال للآخر للحديث باسمها، وهذا الآخر كان في غالب الأحيان هو المؤسسة الملكية. توسع جبهة الرفض يعمل فعليا على شحن أجندة الممثل الأول للأمة والمواطن الأول أي الملك، وتفرض عليه التحرك العاجل من أجل مد اليد إلى جبهة الرفض من خلال الحوار والتواصل والوعود والالتزام، وبالتالي من المفروض أن يخصص الخطاب الموجه إلى الأمة مساحة مهمة بالأساس تخصص لخارطة الطريق المتوقع تنفيذها من أجل إدماج جزء كبير من جبهة الرفض والعمل كذلك على إصلاح وتحسين وتوسيع السياسات العمومية التي استفادت منها جبهة الزبناء السياسيين المرتبطين بالمشروعية الشعبية المقلصة (الحكومة والبرلمان) والذين يمثلون شريحة عريضة من جبهة الانتخاب. أزمة التمثيلية المنقوصة والضعيفة للمؤسسات المنتخبة في البلاد تمنح الفرصة الذهبية للملكية لملء الفراغ، من خلال تعزيز العلاقة ما بين الملكية والشعب الاجتماعي، تعزيز العلاقة ما بين المؤسسة الملكية والشعب الاجتماعي يجعل المؤسسة الملكية مطالبة بالتدخل من أجل معالجة أزمة التمثيلية من خلال حل الأزمة المرتبطة بفعالية الفعل العمومي وبالتالي البحث عن نموذج تدبيري جديد ونموذج تنموي جديد. 3 الخطاب الملكي الموجه إلى الأمة والبحث عن تعزيز الشرعية التدبيرية الملك محمد السادس، قبل توليه عرش المغرب، أرسله الملك الراحل الحسن الثاني للقيام بتدريب بالمفوضية الأوروبية في بروكسيل(سنة 1988)، ضمن ديوان السيد جاك دولور. دولور ليس شخصية عادية؛ بل شخصية بصمت التاريخ العالمي، ويعتبر مهندس الوحدة الأوروبية والمستشار الفعلي الأول للرئيس الفرنسي السابق فرانسوا ميتران، ويعتبر الرجل كذلك من مهندسي الطريق الثالث إلى جانب الزعيم البريطاني السابق طوني بلير وأنطوني كدينز. التدريب الذي قام به ولي العهد آنئذ تزامن مع حدثين أساسين بالنسبة إلى جاك دولور: الحدث الأول أنه كان يكتب المسودة الأولية للكتاب الأبيض الذي سينشره سنة 1993، والمتمحور حول (النمو-المنافسة-التشغيل). أما الحدث الثاني فيتمثل في كون الرجل كان قد اتخذ موقفه النهائي من الاشتراكية الفرنسية، وبدأ يوجه سياسة النقد إليها علانية؛ بل وسيعمل الرجل على هندسة ما أطلق عليه بالطريق الثالث، من خلال كتابة افتتاحية الكتاب الذي سيصدره طوني بلير وأنطوني كدينز (فيما بعد)، والذي حمل عنوان الطريق الثالث، وفي هذه الافتتاحية سيقول جاك دولور بالواضح إن سياسة الحماية الاجتماعية التقليدية عملت على تشجيع التبعية واللامسؤولية. الطريق الثالث هو طريق التقنيات التدبيرية المعتمدة على النتائج ونظريات التدبير العمومي الجديد. بصمة التجربة والخبرة ونوعية التكوين والتدريب حملها الخطاب الملكي الموجه للأمة حيث حمل هذا الخطاب طابع الخطاب الحداثي والديناميكي، من خلال توجهه للخبراء والتكنقراط والنخب الجديدة والجيل الجديد (new generation)، من خلال استعمال ثورة في التبسيط، ثورة في النجاعة، ثورة في التخليق، تحديث أساليب العمل والتحلي بالابتكار والاجتهاد في التدبير العمومي.. هذه التقنيات التدبيرية ليست تقنيات محايدة، بل إنها تقنيات حملتها نظريات التدبير العمومي الجديد، والتي في غالبيتها تنهل من النظريات النيولبيرالية، وبالتالي حمل الخطاب ضمنيا هوية التدبير الحديث والهوية النيولبيرالية. حديث الخطاب عن هذه التقنيات الحديثة المقتبسة من نظريات التدبير العمومي الحديث منح للخطاب الملكي هوية ذلك الخطاب الخبير. الخطاب الخبير ذو الحمولة التكنوقراطية حمل في طياته رسالة إلى الديمقراطية مغلفة بأدوات تكنقراطيه، مفادها أن عدم قدرة المؤسسات الديمقراطية على إيجاد الحلول هو في حقيقة الأمر عجز للديمقراطية، وأمام عجز الديمقراطية فإن البديل جاهز ويعتمد على التقنيات التدبيرية وتشجيع المبادرة الخاصة والانفتاح، وبالتالي الدولة الفاعلة والدولة التدبيرية والتكنوقراط الجدد. الخطاب الخبير والخطاب التكنقراطي يستهدف تجاوز العجز السياسي والديمقراطي وغياب الحلول.. وبالتالي، فإن الملكية باعتبارها تمثل الزعامة المؤسساتية، وباعتبارها ضامنة استمرارية الدولة، تمهد الطريق وتعبدها من أجل الانتقال من المنطق الديمقراطي (الذي يرسيه دستور 2011) إلى المنطق التكنقراطي (الذي يرسيه الخطاب الملكي والقانون التنظيمي للمالية والمؤسسات الدولية ونظريات التدبير العمومي الجديد)، هذا الانتقال لا يمس بالمقتضيات الدستورية وبمحتوى الفصل السابع والأربعين، بل يبتكر حلول من داخل المظلة الدستورية، من خلال التكنوقراط. الملكية تريد تدبيرا تكنوقراطيا أمام عجز المؤسسات المنتخبة، وبالتالي من الممكن بعد أن يقترح الخبراء والتكنوقراط الحلول منح الوصفة المقترحة قوة سياسية من خلال الإجماع؛ وهو ما يسهل تسويقها على مستوى المؤسسات وعلى مستوى المجتمع. إذا كانت الديمقراطية تعتمد على البحث عن الحل الوسط، فإن الوصفات التكنوقراطية المستندة على الإجماع تحجب الواقع الخلافي والتناقضي الذي يجتاح المجتمع وتخفيه من خلال التضامن والوحدة. وكما قال كورين كوبان، عندما نمتلك الخبرة التكنوقراطية يفرض الإجماع وإلا ما معنى امتلاكنا للخبرة. 4 الشروط الضرورية لترسيخ الملكية الوطنية والمواطنة إذا كان النضالات الأممية قد شرعنت ورسخت المواطنة المدنية منذ القرن الثامن عشر، ولم تكتف بذلك بل وعملت كذلك على تعزيزها بالمواطنة السياسية في القرن التاسع عشر، واستكملت القافلة مسيرتها من خلال ترسيخ المواطنة الاجتماعية في القرن العشرين؛ فإن سياسة التقويم الهيكلي المتبعة من طرف المغرب منذ الثمانينيات والتعثرات التي عرفها المسلسل الديمقراطي بالمغرب لم تعمل فقط على تهميش العقلية الديمقراطية بل وعملت كذلك على ضرب المواطنة الاجتماعية، من خلال ترسيخ الفوارق الاجتماعية في توزيع الخدمات وفي ولوج الخدمات المتعلقة بالشغل والصحة والتعليم، مما عمل على تشجيع العقليات الاجتماعية الإقصائية والتي تصنع أعدادا متزايدة من السكان الأقل من المواطنين(sous-citoyen)ومن السكان غير المواطنين(non -citoyen). وبالتالي كانت هذه الفئة التي تطمح إلى ولوج صف المواطنة تنتظر من الخطاب الملكي إجابات مقنعة عن كيفية الارتقاء بهم إلى مستوى المواطنة في المغرب من خلال البرنامج التنموي القادم، خصوصا أن ملامح البرنامج التنموي المقبل والمعتمد على الإصلاحات التدبيرية للفعل العمومي كانت تجاربه العالمية سيئة على مستوى المواطنة الاجتماعية. وفي هذا السياق، يؤكد الباحث الفرنسي روبير كاستل أن الإصلاحات التدبيرية كان لها تأثير جد سلبي على المواطنة الاجتماعية، لأن المواطنة التي ترسخها نظريات التدبير العمومي الجديد على المستوى العالمي ليست مواطنة مبنية على مشاركة المواطنين في تحديد الصالح العام والخاص بكل مجتمع سياسي بل هي فقط تجند دائم من طرف الأشخاص من أجل الالتزام في إطار شراكة وتعاقدات مع شركات وجمعيات من اجل إنتاج كل ما يخدم المستهلكين. تأكيد الملك في خطابه على دور الملكية الوطنية والمواطنة، التي تعتمد القرب من المواطن، وتتبنى انشغالاته وتطلعاته، وتعمل على التجاوب معها كانت تعني أن الملك يتوخى إصلاحات تأخذ بعين الاعتبار انشغالات وتطلعات المواطنين وتعمل على التجاوب معها. ترسيخ الملكية الوطنية والمواطنة هو أفق جد إيجابي وإن كانت تعترضه مجموعة من الصعوبات. إن تجاوز هذه الصعوبات يتطلب الانتهاء من بناء دولة القانون، والانتقال إلى الدولة القانونية، حتى نرسخ التصالح الذي تقيمه هذه الدولة بين المواطن والشخص الاجتماعي، والذي يستهدف أفقا يتم فيه دمج الشخص الاجتماعي في المواطن. كما أن ملكية وطنية ومواطنة لا يمكن تنزيلها على أرض الواقع دون إقرار المجتمع المقروء والذي يعتمد على مشروع معرفة فعلية للعالم الاجتماعي والميكانيزمات التي تتحكم فيه وتؤطره، على اعتبار أن المجتمع المقروء هو من يمكن الأشخاص من التموقع داخل المواطنة الحقيقية كما يؤكد على ذلك بيير روزنفلون، ووحده المجتمع المقروء من يفرز لنا المواطنة الحقيقية ويساعدنا على ترسيخ الملكية الوطنية والمواطنة. وبالتالي، فإن الملكية الوطنية والمواطنة ما زالت تتلمس طريقها نحو تنزيل المشروع المجتمعي، الذي ينخرط فيه الكل ويستفيد منه الكل بالتساوي. 5 الخطاب الملكي يوضح الملامح العريضة للنموذج التنموي أكد الخطاب الملكي على تحفيز المبادرة الخاصة وعلى الانفتاح وعلى تنافسية المقاولات والفاعلين المغاربة، وعلى الاستثمار الخاص، الوطني والأجنبي، وعلى إطلاق برامج جديدة من الاستثمار المنتج. كما ركز الخطاب على ضرورة الرفع من نجاعة المؤسسات، وتغيير العقليات لدى المسؤولين. وشدد الخطاب كذلك على أن القطاع العام يحتاج، دون تأخير، إلى ثورة حقيقية ثلاثية الأبعاد تعتمد على ثورة في التبسيط، وثورة في النجاعة، وثورة في التخليق، مع ضرورة التحلي بالاجتهاد والابتكار في التدبير العمومي. تركيز الخطاب الملكي على هذه المصطلحات وهذه المفردات ذات التفسير الحقيبة (أي أنها تحتمل تفسيرات متعددة) هو في حقيقة الأمر إعلان فعلي عن ملامح البرنامج التنموي الجديد، تشجيع المبادرة الخاصة هو مبدأ ضمنه الملك الراحل في الإصلاحات الدستورية لسنة 1996، وهو إصلاح ذو حمولة اقتصادية كبيرة، ويعني تأكيد الهوية الليبيرالية للمغرب من خلال مقتضيات دستورية، الجديد في عهد محمد السادس هو التقدم للأمام، من خلال تبني طرق التدبير الحديثة، على الرغم من أن هذه الطرق الحديثة في مجملها قد صادق عليها المغرب من خلال الدستور المالي الجديد والذي رسخ كذلك الهوية النيولبيرالية (الوزارة -البرنامج -المشروع والمؤشرات وأثر السياسات العمومية، الهوية النيولبيرالية) للمغرب، على الرغم من أن هذا الدستور المالي لم يجد طريقه إلى التنزيل الفعلي وبالتالي لا يزال الدستور المالي السابق هو سيد الموقف (الوزارة -الكتابة العامة- المديرية- القسم- المصلح- الهوية الكينزية العشوائية) والذي كان يعتمد على نهج الكينزيانيزم. ميشيل فوكو سبق أن أكد على دور النيولبيرالية في شرعنة المؤسسات السياسية من خلال المبادئ الاقتصادية للسوق الحر، ولكن صعود التيارات السياسية المرتبطة بالنيولبيرالية، لم يتم كما في السابق من خلال الدفاع عن السوق كدين لا محيد عنه بل تم من خلال الترويج لتقنيات التدبير باسم الفعالية وباسم دمقرطة أنظمة الفعل العمومي، وكل ذلك باسم الحداثة وكما يؤكد برينو جوبير فإنه باسم تقنيات التدبير الحديث تم الانتقال بهدوء من التدبير الكينيزي إلى التدبير النيولبيرالي. تركيز الخطاب الملكي على هذه الخطوط العريضة يفتح الطريق أمام نموذج تنموي، ذي هوية نيولبيرالية ويعتمد على تقنيات التدبير الحديث ويشجع المبادرة الخاصة، ويركز على الانفتاح على الرأسمال الوطني والأجنبي وعلى المنافسة، ويتبنى التبسيط والنجاعة والابتكار، وهو نموذج يبقى من داخل النموذج الاقتصادي المعتمد منذ سياسة التقويم الهيكلي في بداية الثمانينيات والمسمى نموذج تشجيع الصادرات، مع العمل على تطعيم هذا النموذج بالمستجدات التي عرفها هذا النهج على المستوى العالمي من خلال تطعيمه وتدعيمه بتقنيات التدبير الحديثة، وهكذا يكون الخطاب الملكي قد حدد الملامح الأساسية للنموذج التنموي ولم يتبق للجنة المرتقب تشكيلها إلا تدوير الزوايا وصياغة الخطوط التنفيذية والإجرائية. الخلاصة من خلال خطاب العرش الأخير، يتضح أن الملكية في عهد محمد السادس تحاول أن تتجاوز الثنائية القديمة المعتمدة على (الملكية -الرعايا) لترسم لها صورة جديدة معتمدة على ثنائية (الملكية-المواطن)، ترسيخ الثنائية الجديدة يتطلب منها كذلك الانتقال من شكل للتواصل إلى شكل آخر للتواصل ومن قيادة مؤسساتية إلى قيادة مؤسساتية جديدة، وتعرف الملكية في إطار العهد الجديد أن نجاحها السياسي مرتبط بشكل وثيق بخلق وتحديث العلاقة الجديدة بين الدولة والمجتمع، وعلى الرغم من أنها مسألة صعبة ولكنها تمكن الملكية من الاعتماد على الشرعية التاريخية والشرعية التدبيرية والشرعية المواطنة. من عادة الملكية استعمال ما يطلق عليه بالريع الرمزي (الدين-الوفاء للعرش-التضحية-الصبر-......) وكذلك الريع المادي (توزيع الأراضي-المغربة-الخوصصة-الإعفاءات الضريبية-التوظيفات -.....)، من أجل تدبير العقد الاجتماعي وتوسيع قاعدة المشروعية الشعبية، إلا أن انخفاض فعالية وتأثير الريع الرمزي من جهة وتقلص الريع المادي يجعلان الملكية تبحث عن تعزيز مشروعيتها وتوسيعها من خلال تنزيل ملامح تدبير عمومي جديد وملامح برنامج تنموي جديد، وتستهدف الملكية من خلال ذلك تعزيز شرعيتها التدبيرية والتنموية وتعزيز تعاقدها مع المجتمع، من خلال تنزيل الملكية الوطنية والمواطنة. من خلال الخطاب المتسلح بالخبرة والتقنية، تحاول الملكية إنتاج وصفات تدبيرية وتنموية تستمد قوتها من الإجماع الذي من المفروض أن تستند عليه. الوصفات التدبيرية والتنموية تمنح الملكية أسلحة جديدة قوية أمام مؤسسات ديمقراطية منتخبة من طرف أقلية ونخب سياسية معزولة وغير قادرة على الإقناع وعلى إنتاج الحلول وخلق الفائض.. وهكذا، جسد خطاب العرش الأخير ما سبق أن أكد عليه الباحث كورين كوبان، من أن خطاب السلطة الذي يحمل الطابع التقني هو خطاب يوجه رسالة أساسية مفادها التالي: خطاب السلطة-خطاب سلطة الخبراء-خطاب الإجماع الإلزامي. *باحث في المالية العمومية