يتحدث الجميع عن الدخول الاجتماعي والسياسي ببلادنا، وكأنه محطة لاستئناف العمل والوظيفة بعد أيام من الراحة والاستراحة والعطلة السنوية، والحال أن هذا الدخول في التقاليد الاجتماعية والسياسية الدولية، تخطيط استباقي وتقويمي وإعداد قبلي لشروط وظروف إعطاء انطلاقة جديدة للحياة السياسية والاجتماعية، يعاد فيها النظر في مجموعة من الاختلالات والعثرات التي اكتنفت سنة من التدبير والتي تم تشخيصها وتنقيطها في مخرجات الإنجازات والمشاريع والإجراءات المتخذة. فهل خرجنا فعلا بخلاصات من الموسم السياسي والتشريعي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي السابق، وبرمجنا مخططات وعمليات للإصلاح والتقويم ومنع تكرار الأخطاء نقدمها بين يدي الموسم الجديد في خطوتنا الأولى نحوه والمسماة دخولا. لا شيء من ذلك قد حدث، باستثناء خطابي جلالة الملك بمناسبتي عيد العرش وذكرى ثورة الملك والشعب، حيث تم التنبيه إلى ضرورة التعبئة الجماعية لإنجاح استحقاقات المغرب التنموية، من خلال مجموعة من العمليات التي تشكل أرضية صلبة لدخول اجتماعي وسياسي مختلف يستحضر كل نقط الضعف في نماذج التدبير لرهاناتنا التنموية ويروم القطع مع الانتظارية وضعف المبادرة في السياسات العمومية، ومع السلوكات السياسية التهميشية والإقصائية التي ساهمت في تكريس معاناة المواطنين، وقلة فرص الشغل والعمل، وإحباط الشباب، ومفاقمة التفاوتات الاجتماعية والمجالية بين الفئات والجهات، وتآكل المقاولات الإنتاجية والنخب الاقتصادية والسياسية، وبالتالي تهديد الاستقرار الاجتماعي للبلاد. لم يكتف الخطابان الملكيان بتشخيص حالة سنة من التدبير، بل عمدا إلى اقتراح خارطة طريق لمبادرات واضحة للخروج من دوامة الانتظارية، من خلال اقتراح مداخل هي نفسها ما ينبغي أن يسم الدخول السياسي والاجتماعي الجديد. ونذكر بهذه المداخل بعجالة، المدخل الأول مدخل تنموي يروم إعادة النظر في النموذج التنموي القائم وتحيينه ومراجعته، والعمل على إخراج نموذج تنموي جديد يتناسب مع متطلبات المرحلة الجديدة للتنمية المادية والبشرية الوطنية، وبما يضمن تجاوز الانحباسات والعقبات، وبمقاربة تشاركية وإدماجية، وبنخب من الكفاءات الجديدة من مختلف المجالات التي أحدث لها جلالته لجنة خاصة بهذا النموذج، سيقوم بتنصيبها في الدخول الجديد.والمدخل الثاني سياسي يتمثل في مجموعة من العمليات على رأسها تكليف رئيس الحكومة بتقديم مقترحات لإغناء وتجديد مناصب المسؤولية الحكومية والإدارية بكفاءات وطنية معتبرة من حيث الكفاءة والاستحقاق، والحث على التنزيل السليم للجهوية المتقدمة والتطبيق الجيد والكامل لها، للرفع من الاستثمار الترابي المنتج. والمدخل الثالث مدخل اجتماعي يروم العمل على انبثاق عقد اجتماعي جديد تنخرط فيه جميع المكونات السياسية والنقابية والجمعوية وعموم المواطنين، بهدف العمل على ضمان استقرار اجتماعي بتحسين ظروف عيش المواطنين، والانكباب على ملفات التشغيل والتعليم والصحة، وتثمين أدوار الطبقة الوسطى، واستغلال الإمكانات المتاحة والمتوفرة للاستثمار في الفلاحة والسياحة والمهن المرتبطة بهما من صناعات حرفية محلية وتحويلية، وتأهيل الشباب عن طريق إصلاح قطاع التكوين المهني، وغير ذلك من الاقتراحات والمبادرات، التي تبشر بدخول مغاير هذه السنة يكون عنوانه تنمية الثقة واستدامة نفَس الإصلاح. لكن مما يؤسف له أن تباشير الدخول الجديد بهذه النظرة الاستباقية والإعدادية، لا يزال تدبيرها بالعقليات والذهنيات نفسها التي خرجنا بها خلال السنة السياسية والاجتماعية المنصرمة، بما فيها من غياب التعبئة، والتخبط في العثرات، واستمرار التوترات الاجتماعية، ففي الوقت المنتظر فيه تحرير الدخول الجديد من كل التوترات التي صاحبت الخروج السابق، خصوصا ما يتعلق منها بتأخير مشاريع وعدم الحسم في الملفات الاجتماعية العالقة، تخيم هذه المخارج المتعثرة على الدخول الجديد، وفي الوقت الذي ننتظر فيه تنزيل البرامج والأوراش، تشرع فعاليات وهيئات اجتماعية في تنزيل برامج نضالية ساخنة تفتتح بإضرابات وتختتم بها، وتدشين وقفات احتجاجية متواصلة لإسماع المطالب نفسها العالقة من سنة إلى أخرى. وما لم تكن الحكومة واعية بما لتباطئها وانتظاريتها من أثر سيء في التعبئة للإصلاح، وما لضعف حسمها ومبادرتها في تسوية الملفات الاجتماعية العالقة، ومعالجة الاختلالات والأخطاء في تدبير القضايا الحيوية للمواطنين، فإن طعم الدخول الاجتماعي والسياسي، لن يكون إلا بطعم الخروج السابق نفسه، والذي اختتمت به سنة من الأخذ والرد والتوتر، كان أشدها أثرا في النسيج الاجتماعي ما شهدته المدرسة العمومية من إضرابات طويلة الأمد للأساتذة أطر الأكاديميات الجهوية، أهدرت الزمن المدرسي، وكادت تؤدي إلى سنة دراسية بيضاء، وهي الإضرابات والاحتجاجات نفسها التي افتتح بها الدخول الجديد ويتم التلويح بتصعيدها، في انتظار أن تتطور إلى تكرار سيناريوهات أسوأ مما وقع خلال السنة الفارطة، وتصعيد التوتر بأقوى مما كان عليه. ويقاس على هذا الدخول القديم الجديد في القطاع المدرسي، الدخول في قطاعات اجتماعية واقتصادية أخرى تعاني من غياب الرؤية الاستباقية والعلاجية لاستدامة الحوار والتهدئة وجبر الخواطر، ونزع فتيل التوتر. وإذا كان متعينا على الحكومة أن تنصت لنبض الشارع، وأن تتفاعل مع أدنى المطالب، فإن المشهود من واقع الحال أن النبض قد تحول إلى صوت قوي ضج به الفضاء وملأ الأسماع في السنة السابقة، في غياب حوار جدي ومسؤول وحاسم، ويحول عدم الحسم هذه السنة، دون التعبئة والانخراط الجماعيين المأمولين لإنجاح استحقاقات المرحلة الجديدة في مسيرتنا الديمقراطية والتنموية. إن مسؤوليات الحكامة الجيدة في تدبير استحقاقات المرحلة الجديدة، تتطلب القطع مع العقليات التدبيرية المتهيبة والمترددة في تجسيد الرؤى الاستراتيجية لمستقبل البلاد، وترجمة التوجيهات الملكية التي تؤطر الدخول الجديد، حيث صار من المستعجل الانكباب على إنقاذ الدخول الجديد من جميع الاختلالات التدبيرية التي لا تتوافق مع روح المرحلة الجديدة المطبوعة بالرغبة في إحداث تحول جوهري في العلاقة مع المواطن، وتوطيد الثقة في اختياراتنا الديمقراطية والتنموية، والخروج من الانتظارية القاتلة والتأجيل المهلك.