يختلف الإعفاء الأخير لوزير الاقتصاد والمالية عن الإعفاءات السابقة، لأن الأمر يتعلق بإعفاء وزير يتحمل مسؤولية وزارة المالية، هذه الأخيرة مكلفة بإعداد سياسة الدولة في المجالات المالية والنقدية والقرض وووو. وتهتم كذلك بتحضير مشاريع قوانين المالية، وتحديد شروط التوازن المالي الداخلي والخارجي، وضمان تحصيل الموارد العمومية، وضمان تصفية وأداء أجور موظفي الدولة (المرسوم المتعلق بتحديد اختصاصات وتنظيم وزارة المالية)، وبالتالي تعتبر وزارة الاقتصاد والمالية مسؤولة عن التدخلات الظرفية والفعل البنيوي داخل الدولة، هذه الاختصاصات تجعل من الوزارة النواة الصلبة للحكومة، وعمودها الفقري، والمسؤولة الفعلية عن توفير الاعتمادات اللازمة لسير المرافق العمومية، (الفصل 75 من الدستور)، واعتبارا لهذه المهام الاستراتيجية، عمل البعض على تصنيف الوزارة كأم الوزارات. اعتبارا لكل ذلك، فإن إعفاء المسؤول الأول عن أم الوزارات، يستدعي الملاحظات التالية: أولا: الإعفاء وتفعيل دور السلطة الملكية في التعيين والإعفاء أرادت الملكية أن تذكر الكل بالسلطة المهمة والأساسية التي يمنحها إياها الدستور المتمثلة في سلطة التعيين (الوزراء-الوزراء المنتدبين وكتاب الدولة)، خصوصا وأن الحكومة في بلادنا وفقا لمنطوق الدستور هي حكومة معينة وليست حكومة منتخبة من طرف نواب الأمة، وتنحصر مهمة نواب الأمة في تنصيب الحكومة عبر المصادقة على برنامجها (الفصل 88 من الدستور). سلطة التعيين هاته لا تفسر فقط من خلال كونها سلطة وموردا، بل تحولت إلى سلطة مشاكل في حالة ما إذا لم يكن المعين في مستوى المسؤولية. وعندما تتحول هذه السلطة إلى مشاكل من خلال عدم قدرة المعين على تشريف وتفعيل المنصب، يبقى من المفروض على السلطة الملكية استعمال الوجه الآخر لسلطة التعيين المتمثل في سلطة الإعفاء. سلطة الإعفاء التي تملكها السلطة الملكية لا تنحصر فقط في إعفاء المعينين بظهير، بل تمتد إلى المعينين من خلال المرسوم والقرار، من خلال استعمال الملكية للسلطة الرئاسية على من يملك سلطة التعيين بمرسوم (رئيس الحكومة) ومن يملك سلطة التعيين من خلال القرار (الوزراء ورئيس الحكومة) (الإقالة السابقة لبعض المدراء)، وبذلك تكون الملكية قد ذكرت الكل بسلطتها الرئاسية، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، وعملت كذلك على تذكير الكل بأنه لا فرق بين المعين وإن كان منصبا من طرف نواب الأمة، أو أولئك المعينين بظهير أو مرسوم أو قرار، لأنهم جميعا يعتبرون منفذين ومسؤولين عن حسن التنفيذ. ثانيا: الإعفاء يوضح أن الأزمة سببها باقي المؤسسات، والحكومة بالأساس ومن جهة أخرى، ومن خلال الإعفاء، أرادت الملكية تذكير الكل بأن الأزمة توجد في الحكومة، وبالتالي أرادت الملكية استحضار ما سبق وقاله رونالد ريغن، الرئيس الأمريكي السابق، سنة 1982، حيث أكد أن الحكومة لا تمثل الحل ولكنها جزء من الأزمة. وبالتالي، فإن الشعب الاجتماعي في المغرب (الشعب الذي يخرج للاحتجاج في الشارع)، عليه أن يدرك أن الشعب الانتخابي (الشعب الذي ينتخب المؤسسات السياسية) ومن خلال صناديق الاقتراع هو من أنتج المؤسسات السياسية العاجزة على الفعل. تحميل المسؤولية للحكومة، يعني أن الشعب الاجتماعي عليه أن يحتج على الشعب الانتخابي الذي صوت على عاجزين وغير قادرين على الفعل. وبالتالي، تبرئة الملكية من أية مسؤولية مباشرة أو غير مباشرة عن الأزمة، وتحميل المسؤولية للحكومة والإدارة. وهذا يعني أن الأزمة مرتبطة بالمستوى التقريري الأدنى والتنفيذي، وأن التعامل مع هذا المستوى سيكون من خلال جدلية المسؤولية –الإعفاء، بتفعيل بنك الإجراءات التي يتوفر عليها من يملك سلطة التعيين وكذلك السلطة الرئاسية. ثالثا: المفهوم العملي لربط المسؤولية بالمحاسبة تعتمد الملكية في المغرب على ثنائية الحداثة "ربط المسؤولية بالمحاسبة" والتقليد (التعيين والإعفاء)، والشق الحداثي يعتمد على ربط المسؤولية بالمحاسبة، من خلال إقرار المسؤولية تجاه الماضي. يعتمد مفهوم ربط المسؤولية بالمحاسبة على تحديد المسؤولية تجاه الماضي، مما يستلزم الاعتماد على علاقة ثلاثية الأضلاع ما بين السلطة والجمهور، من خلال تقديم المحاسبة، وتبرير الإجراءات المطروحة أو القرارات المتخذة، مع تقييم السياسات التي تم نهجها. وبالتالي، فإن المسؤولية السياسية تعتمد أولا على تقديم محاسبة مقروءة ومرقمة للملك والبرلمان والجمهور. وتعتمد المسؤولية كذلك على المسؤولية التبريرية، لأن الديمقراطية هي نظام يلزم السلطة بالتوضيح وتبرير كيفية قيادتها للبلد، وذلك لا يمكن أن يحدث في غياب البرلمان وسلطاته الرقابية. وفي الأخير، فإن المسؤولية تعتمد كذلك على ما يطلق عليه بالمسؤولية التقييمية، التي تركز على الحكم على مدى فعالية السياسات العمومية المتبعة، كما تعمل المسؤولية التقييمية على تحديد الفارق ما بين النوايا والإرادات المعبر عنها في البداية وما تم تحقيقه فعليا على أرض الواقع. وفي غياب هذه الأضلع الثلاثة، يصعب الحديث عن المحاسبة، وعن ربط المسؤولية بالمحاسبة، كما هي متعارف عليها دوليا. وبالتالي، فإن الإعفاء لا يمكن تفسيره إلا في إطار تجسيد الشق التقليدي للملكية المعتمد على ثنائية "المكافأة من خلال منح المنصب" و"الإعفاء العقاب". رابعا: التعيين الأخير لوزير المالية منحه سلطة اختصاص واسعة ومسؤولية كبيرة ومحاسبة أكبر عمل التعيين الحكومي الأخير على منح المسؤول الأول عن أم الوزارات سلطة فعلية عامة وشاملة، بحيث لم يتم اقتسام الاختصاص لا مع وزير منتدب ولا مع كاتب دولة، وبالتالي عملت سلطة التعيين على جعل القطاع المالي وحدة فعلية متجانسة تتيح للمسؤول عنها حرية الحركة والفعل. كما أن الترسانة الدستورية والقانونية والتنظيمية في البلد هيأت لمؤسسة وزير المالية كافة عوامل النجاح، من خلال منحه صفة آمر بالصرف ومدبر إداري، ومنحه حرية تعيين ديوانه، وحرية تعيين المكلفين بالدراسات، وحرية تعيين المهندسين العامين والمتصرفين العامين، وحرية تعيين الكاتب العام والمدير ورئيس القسم ورئيس المصلحة، وحرية خلق الاقسام والمصالح... (مع احترام المساواة أمام المنصب المالي)، ولكن كل هذه الوسائل "مفهوم المكافأة التي تختلف باختلاف الموارد التي يشملها المنصب الذي يتم التعيين فيه". عجز رأس هرم أم الوزارات عن استعمال الموارد المخصصة له من أجل العمل على إنتاج الأفكار (لأن التعيين في المنصب لم يتم من خلال عقدة تحدد الالتزامات المطلوبة من المعين في المنصب والآجال المفروض منحها له للوصول إلى النتائج) وطرح الحلول وخلق الفائض، وخلق الثروة والتحكم في العجز وتسريع الانجاز وإرضاء المواطن ودافعي الضرائب، يجعل من مسألة إعفائه من منصبه تحصيل حاصل. خامسا: إعفاء المسؤول الأول عن أم الوزارات ومصير خريجي مدرسة القناطر بفرنسا إقالة المسؤول الأول عن أم الوزارات ليست مسألة عابرة في تاريخ المغرب الحديث، لأن الوزير المعني يعتبر رمزا من رموز التكنقراط ومن خريجي مدارس البولتكنيك، نخب البولتكنيك كانت تحتل دائما رأس القوائم المقترحة للتعيين في المناصب السياسية أو الإدارية أو في المؤسسات العمومية، لأن المخزن (ومنذ عهد الحسن الثاني) يعتبرها سلاحه الفعال لتجسيد ثنائية السلطة-الفعالية، وبالتالي يعتبرها سلاحه الفعال لمواجهة العواصف والأزمات، ومواجهة كذلك المغرب الاجتماعي، ولكن بعد أكثر من عشرين سنة من التجربة، تيقن المخزن أن هذه النخب كانت عاجزة عن مواجهة الأزمات والعواصف واحتجاجات المغرب الاجتماعي. النتائج التدبيرية الكارثية لهذه النخبة قد تدفع السلطة الملكية إلى تغيير أولوياتها في ما يتعلق بنوعية النخب المقترحة للتعيين، من خلال القطع مع هذه المرحلة. وبالتالي، ينتظر المتتبعون للشأن المغربي الخيار الجديد الذي ستعتمده السلطة لترميم وتحديث صورتها العقلانية، خصوصا وأن الاعتماد على خريجي البولتكنيك جاء بعد فشل نخب القانون خريجي المدرسة الإدارية، ونخب المنتمين لهيئة المفتشية العامة للمالية، ونخب القطاع الخاص، في تدبير مرحلة ما قبل خريجي البولتكنيك، فهل تحمل الإقالات الأخيرة إشارة إلى توجه معين للمخزن لتعزيز سلطة رجال المال والأعمال على عالم السياسة في المغرب بكل المخاطر التي قد يحملها هذا الخيار على المستقبل؟ سادسا: ربط المسؤولية بالمحاسبة تتطلب من وزير المالية أولا تقديم الحساب والمعلومة المرقمة والمدققة في القرن الثامن عشر، وبالضبط في سنة 1781، وجه وزير المالية الفرنسي آنذاك، جاك نيكير، رسالة إلى الملك سماها تقديم حساب إلى الملك، في هذه الرسالة تم لأول مرة تجميع كل المعطيات التي تمكن من تقييم ميزانية الدولة وكذلك وضعية مديونية الدولة. وبالتالي، شكلت هذه الرسالة الحدث البارز في فرنسا آنذاك، لم يكتف وزير المالية، جاك نيكلر، برسالة إلى الملك، بل عمل على طبع ما يناهز ثمانين ألف نسخة من الرسالة ووزعها على الجهات الأربع للمملكة الفرنسية، هذا الإخبار استهدف ترسيخ ما يطلق عليه بديمقراطية الجمهور، التي يعمل الإشهار والإخبار على توسيع التمثيلية. عملت إبداعات هذا الوزير التكنقراطي على وضع الأسس الفعلية لما سيطلق عليه لاحقا "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواطن الفرنسي"، وخصوصا الفصلين الرابع عشر والخامس عشر. وبالتالي، كان المفروض من المسؤول الأول عن أم الوزارات في المغرب العمل على ترسيخ وتوسيع وتطوير ديمقراطية الجمهور، حتى يساعد على ترسيخ الشفافية والوضوح ويعزز الثقة من خلال تقديم الحساب المعزز بالأرقام، وتفعيل دور الملكية في الحياة العامة من خلال ثنائية، السلطة–العقلانية، وإمكانية تفعيل ربط المسؤولية بالمحاسبة. لكن المسؤول الذي لا يقدم الحساب ولا يربط بين القول بالفعل، لا يحتاج إعفاؤه إلى تعليل أمام الرأي العام لأنه عمليا لم يؤسس لأَية علاقة إخبارية مع الجمهور والرأي العام والمواطن. وبالتالي، لم يعلل كيفية ممارسته للسلطة الممنوحة له (خصوصا وأن هناك ترابطا جدليا بين ممارسته للسلطة من خلال التعليل وتقديم الحساب، وشرط تعليل الإعفاء من المسؤولية، وبذلك وجب التأكيد على أن الاعتماد على ثنائية التعيين-الإعفاء (التقليدية)، تحجب ثنائية العقدة-الحساب (الحداثية)، إن التعليل هو التزام أمام الجمهور والرأي العام، سواء بالنسبة لمن يملك سلطة التعيين أو المسؤول المعين. سابعا: ربط المسؤولية بالمحاسبة يتطلب الانتقال من الدولة السرية إلى الدولة المفتوحة إن ربط المسؤولية بالمحاسبة يبقى مرهونا بالانتقال من الدولة السرية إلى الدولة المفتوحة، عبر إقرار وترسيخ حق المعرفة ما بين المواطن والمؤسسات، عبر تطوير شواهد التقييم، وأنظمة التنقيط، وإشهار رواتب القادة، وإعداد التقارير الاجتماعية. ولكن الوضع في المغرب اليوم يؤكد غياب الشفافية عن النظام الاقتصادي (إذ يمكن اعتبار النظام الاقتصادي في المغرب كعلبة سوداء سرية وعصية على الفهم)، وغياب الشفافية كذلك عن النظام السياسي، مما يجعل من الانتقال إلى الدولة المفتوحة، وترسيخ حق المعرفة، عبر توسيع مفهوم المواطن والوصول إلى المجتمع المقروء، حلما بعيد المنال. وفي الأخير، نؤكد أن غياب الشروط الأساسية لإقرار الدولة المفتوحة التي تعمل مؤسساتها على تقديم الحساب وتنزيل الحق في المعرفة، يجعل من مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة هدفا صعب التحقيق في الوقت الحاضر. الخلاصة إن غياب الشروط الموضوعية المرتبطة بترسيخ ثقافة وإلزامية تقديم الحساب عبر محاسبة تقنية ومرقمة، وغياب تفعيل المسؤولية التبريرية للأفعال والقرارات التنفيذية المتخذة، وغياب كذلك للمسؤولية التقييمية التي تعمل على استخراج الفارق ما بين الأقوال والأفعال (حتى يتم ترسيخ الانتقال من دولة الأقوال إلى دولة الأفعال)، تجعل شرط الانتقال من الدولة السرية إلى الدولة المفتوحة أمرا مستحيلا. وبالتالي، فإن الحديث عن ربط المسؤولية بالمحاسبة يبقى سابقا لأوانه، ويعتبر طموحا بعيد المنال. وفي الأخير، وجب علينا الاعتراف بأننا في المغرب ما زلنا في مرحلة بناء صرح التمثيلية، الذي لن يتحقق إلا من خلال ترميم وإصلاح أعطاب الاشتغال الطبيعي للنظام الانتخابي. وعندما نصل إلى مرحلة الاشتغال الطبيعي للنظام الانتخابي، تبدأ آنذاك مرحلة الاشهار وتقديم الحساب لضمان ثقة الشعب في الإجراءات التشريعية. وفي انتظار أن يتحقق ذلك، على الجميع أن يتحلى بالصبر لأن طريق ربط المسؤولية بالمحاسبة ما زال طويلا ويحتاج إلى النفس الطويل والإرادة الصلبة. *باحث في العلوم السياسية