في إطار النقاش العام الدائر حول مدى دستورية انعقاد المجلس الحكومي واستلام الوزراء الجدد لمهامهم، سبق لي كتابة مقال حاولت عبره بسط وشرح الحيثيات القانونية التي بدت أنها تنهض أدلة وبراهين على عدم سلامة الرأي القائل بعدم الدستورية، وقد اعتمدت المساهمة المقترب القانوني بقناعة مفادها أن الموضوع قانوني بامتياز، وأن تناوله العلمي الموضوعي يقتضي الاحتكام إلى مرجعية القانون والابتعاد عن الانحياز لموقف سياسي مع استحضار ما تشكله الايدولوجيا من عائق ابستمولوجي يعيق تحصيل موقف علمي سليم. وتناول الأستاذ حسن طارق ذات الموضوع في مقال منشور بجريدة الاتحاد الاشتراكي بتاريخ 18 يناير 2012، وبرغم ما تضمنه المقال من أفكار نشاطر بعضها لوجاهتها، فإن المساهمة الجديدة ترى فائدة علمية في مناقشة أخرى من باب إثراء النقاش ومحاولة الإسهام، ولو بالجزء اليسير، في خدمة الثقافة الحقوقية. وقبل الخوض في مناقشة جوهر الإشكال، لاشك أن الأستاذ حسن طارق يشاطر الأفكار التالية: - ان القانون أسمى تعبير عن إرادة الأمة مع وجوب امتثال الجميع له، وإذا كان ذلك ينطبق على القانون بمدلوله الضيق، فإنه ينسحب من باب أولى على القاعدة الدستورية التي لها مكانة سامية ومتميزة في تراتبية القواعد القانونية. وبقدر الاتفاق مع الأستاذ حسن طارق على ضرورة احترام الشرعية الدستورية، فإنه يتعين التأكيد على أنه، مهما بلغ نبل الغاية المستهدفة من أي إجراء قانوني، فإنها لاتبرر العمل على هامش الوثيقة الدستورية لأن أي خرق يعتبر شرخا في بنيان دولة الحق والقانون، ولاتسعف اعتبارات الملائمة في تسويغ الموقف. - ان الفصل 88 من دستور 2011 جاء مختلفا في صياغته ومضامينه عما اقترحه حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية قبيل سن دستور 2011، حيث ورد في اقتراحه التالي: "يعين الملك رئيس الحكومة الذي يعرض عليه فريقه الحكومي " يتقدم رئيس الحكومة المعين أمام مجلس النواب ويعرض البرنامج الذي يعتزم تطبيقه. بعد التصويت على البرنامج الحكومي يعين الملك باقي أعضاء الحكومة باقتراح من رئيسها". و تفرض البداهة الركون في التحليل القانوني إلى المضامين الواردة في الوثيقة الدستورية المصوت عليها في الاستفتاء الشعبي، وليس إلى مجرد مقترحات أو تصورات لم يتبناها المشرع الدستوري. 1- حول التنصيب المزدوج في دستوري 1992 و1996 انتهى الأستاذ حسن طارق إلى القول برجحان التيار القائل بالتنصيب الآحادي أو ما سماه ب"التيار الرئاسي" على التيار الذي دافع عن التنصيب المزدوج للحكومة. و هذا الموقف يمكن محاورته ارتكازا على حجج مخالفة، وذلك وفق الآتي بعده. - ان لزوم التنصيب البرلماني للحكومة في النظام الدستوري المغربي لاينفي التعيين الملكي للحكومة سواء في دستوري 1992 و1996 ولاحتى في دستور 2011 لأن التنصيب المزدوج يعني وجود جهتين دستوريتين لتنصيب الحكومة: جهة المؤسسة الملكية وجهة مجلس النواب. وغني عن البيان أن التنصيب البرلماني يدخل في خانة الرقابة البرلمانية الإلزامية التي تسبق الميلاد النهائي للحكومة في الدساتير الثلاثة ( 92، 96 و2011) وتعد ممرا وجوبيا قبل الشروع في تطبيق البرنامج الحكومي. ولايغير وجه الاختلاف، القائم في الأغلبية المطلوبة لنيل الثقة الوجوبية في دستوري 1992 و1996 من جهة و دستور 2011 من جهة ثانية، من حقيقة وجوب التنصيب البرلماني، ذلك أن دستوري 1992 و1996 سويا بين الرقابة الإجبارية والرقابة الجوازية وخصهما بطريقة واحدة للتصويت، وهي طريقة التصويت السلبي التي كانت تفيد أن الحكومة تنجح في نيل ثقة البرلمان أو تمرير نص تصر على المصادقة عليه(حالة ربط موصلة العمل الحكومي بالتصويت على نص قانوني) من طرف مجلس النواب إذا لم تصوت ضده الأغلبية المطلقة. وقد توخى المشرع من ذلك في الرقابة الاختيارية تليين شروط التنصيب البرلماني دون الذهاب إلى حد حجب هذا التنصيب، كما استهدف ضمان الاستقرار وتلافي أسباب نشوء الأزمات الحكومية فيما يتصل بالرقابة الاختيارية. وإذا كان دستور 2011 يلتقي في ذات الأغلبية المتطلبة بخصوص الرقابة الاختيارية، فإن اشتراط التصويت الايجابي فيما يتعلق بالرقابة الإجبارية مقرون بضرورة استيفاء أغلبية مطلقة تتكتل لفائدة البرنامج الحكومي في توجه رام إلى تقييد ميلاد الحكومة بتوافر أغلبية واضحة في مجلس النواب خلافا لما كان سائدا في دستور 1996 حيث البرنامج الحكومي يمكن تمريره بأي عدد من الأصوات مهما كان عددها مالم تستجمع القوى المعارضة ضده الأغلبية المطلقة. وحاصل ذلك أن اشتراط أغلبية غير موصوفة في ظل دستوري 1992 و1996 لايعني أن الحكومة غير ملزمة باجتياز امتحان التنصيب البرلماني، ولا يفيد أن هذا الامتحان الدستوري يبقى شكليا ولايحتمل رسوب الحكومة فيما لو كانت حكومة أقلية حيث الأغلبية- في هذا الواقع الافتراضي - يمكن أن تتكتل ضدها وتحول دون تنصيبها النهائي. كما يمكن- على الأقل نظريا- تصور حكومة ذات أغلبية تتعرض للخذلان يوم التصويت من طرف الأغلبية المساندة. - أشار الأستاذ طارق إلى وجود تيارين فقهيين أحدهما دافع عن التنصيب الآحادي والآخر انتصر لفكرة التنصيب المزدوج قبل أن يذهب إلى القول أن الأول رجحت كفته لحصول اتفاق بالإضافة إلى استقرار الممارسة على شروع الحكومة في عملها قبل نيل التنصيب البرلماني. وهذا يستدعي التوقف عنده لإثارة الحجج المضادة وفق الآتي بعده: 1 - بخصوص حصول اتفاق في فقه القانون الدستوري ينتصر لتيار التنصيب الآحادي، فإنه جدير بالإشارة إلى أن تيار التنصيب المزدوج واصل تمسكه بأطروحته، وكان من الفقهاء المدافعين عنه الأستاذ مصطفى قلوش الذي عضد أسانيد هذا التيار بحيثيات مركزة من الوجهتين الموضوعية والقانونية( مؤلفه النظام الدستوري المغربي، مقاله المحال عليه في المقال السابق). كما أن الأستاذ جورج فيديل دافع بدوره، بشكل أقل وضوحا، عن التنصيب البرلماني في دستور 1992 بقوله أن "البرلمان له حق منح الثقة أو عدمها للحكومة دون التيه في مجادلات سياسية غامضة" مضيفا أن "الدستور المغربي (لسنة 1992) أكثر برلمانية من الدستور الفرنسي.... ومن الأحسن أن تأخد فرنسا من الدستور المغربي"( سلسلة تشييد دولة حديثة، المطبعة الملكية 1992) وما عزز رجحان التيار الثاني وجود تفسير للمغفور له الحسن الثاني للموقف بمناسبة استقباله لأول حكومة مشكلة بعد إقرار دستور1992، وهو تفسير له أهميته القانونية طالما أنه صدر عن جهة دستورية ينعقد لها اختصاص السلطة التأسيسية الفرعية، وبهذه الصفة وضعت الدستور محل النقاش. 2 - إن الأستاذ حسن طارق دخل في موقف تبريري لممارسات تمت على هامش الشرعية الدستورية عند حديثه عن اتخاذ قرارات ومراسيم قبل التنصيب البرلماني في حالات معينة، وهو أمر لايستقيم مع الاحترام الواجب لهيبة وسمو القاعدة الدستورية، وهي هيبة شدد على أهميتها الأستاذ نفسه في مقدمة مقاله. ويبدو أن الأستاذ حسن طارق أتى بنقاشه من باب تبرير المخالفة الدستورية التي وصم بها المرسوم 347.98.2 بتاريخ 16 مارس1998( المصادف ليوم تعيين الحكومة) علما أن أوجه المخالفة في المرسوم 347.98.2 بتاريخ 16 مارس 1998 لاتتعلق فقط ب "وجود لبس أو عدم وضوح الرؤية" حول إشكالية التنصيب، وقد أشار المقال السابق إلى جوانب أخرى يضاف إليها أن المرسوم نشر في الجريدة الرسمية عدد 4571-24 بتاريخ 23 مارس 1998 ورتب أثاره قبل النشر، أي اعتبارا من 19 مارس1998، وذلك دون إنكار، في الشق المتصل بالملائمة، نبل الغاية المستهدفة من الاجراء علما بأن الملائمة شأن يخص الساهر على الشأن العام الذي تتجلى مهارته وقدرته التدبيرية في نجاحه في تحقيق مقتضيات الملائمة بالفعالية والنجاعة اللازمتين مع التقيد في ذات الآن بضوابط و قواعد الشرعية. في هذا السياق سبق لأحد فقهاء القانون أن تساءل ألا يعني التدبير حسن التوقع؟ ويقصد بذلك توقع ما هو لازم من إجراءات والسعي مقدما إلى استجماع شروط سلامتها القانونية للوصول إلى الصيغة المثلى، وهي "التدبير الجيد والمتناغم مع الدستور"M. Mohamed Amine Benabdellah Contribution à la doctrine du droit constitutionnel marocain. وليست هذه حالة فريدة لمخالفة الدستور في الفترة السابقة، فآخر حكومة، قبل الحكومة الحالية، ختمت مدة تكليفها بتصريف الأمور الجارية باتخاذ المرسوم رقم 747.11.2 بتاريخ 31 دجنبر2011 ( المنشور في الجريدة الرسمية عدد 6008 مكرر بتاريخ فاتح يناير 2012)، وهو مرسوم موصوم بتجاوز حدود التفويض البرلماني الممنوح للحكومة في إطار قانون المالية لسنة 2011 استنادا إلى الفصل 45 من دستور1996 (المماثل للفصل 70 في دستور 2011 في نطاق قانون المالية لسنة 2011) مع ما استتبع ذلك من عدم احترام قاعدة سنوية الميزانية طالما أن التدبير امتدت آثاره القانونية لتمس التوازن المالي للسنة المالية اللاحقة(سنعود إلى تفصيل أوجه المخالفة في مقالة منفصلة). لذلك أعود لأؤكد على أن الباحث القانوني أو رجل القانون لاينبغي أن يتوقف انزعاجه من خرق الشرعية الدستورية عند حالة دون أخريات، بل عليه أن يدافع عن الشرعية بقطع النظر عن الجهة الواقفة خلف المخالفة مع ترك القناعات السياسية جانبا في كل موقف يروم المصداقية في زعم العلمية أو الموضوعية. 2- حول حسم الإشكال بمزيد من معطيات الواقع والقانون. تقدمت الإشارة في المقال السابق إلى أن التعيين الملكي يضفي على الحكومة وجودا يؤهلها قانونا لمباشرة تصريف الأعمال الجارية ارتكازا إلى حيثيات موضوعية وقانونية، ومنها وجه الخصوص صريح مقتضى الفصل 47 من الدستور. وفي سياقه أشاطر موقف الأستاذ حسن طارق في تأكيده على أهمية الكلمة والنقطة في الوثيقة الدستورية وما ينطوي عليه ذلك من ضرورة التوقف عند مضمون الفقرة الأخيرة من الفصل 47 السالف ذكره لتحصيل قاعدة مؤداها أن الحكومة الجديدة تتسلم مهمة تصريف الشأن العام عند تشكيلها. ولما كان التشكيل يعني التعيين ولاينصرف معناه القانوني إلى التنصيب البرلماني، فإن التعيين حاصل بالظهير الشريف رقم 01.12.1 صادر بتاريخ 03 يناير 2012 بتعيين أعضاء الحكومة المنشور في الجريدة الرسمية عدد 6009 مكرر بتاريخ 04 يناير 2012، ومن مضامين الظهير يقف القارئ على إفصاحه عن قائمة الفريق الحكومي المعين بصفات أعضائه مع تأكيد، هذه الأداة القانونية الدستورية، على أدائهم للقسم و بيانه سريان الأثر القانوني للتعيين اعتبارا من 03 يناير 2011. واتساقا مع ذلك، وارتباطا بالظهير رقم 183.11.1 الصادر بتاريخ 29 نونبر 2011 بتعيين السيد عبد الإله ابن كيران رئيسا للحكومة، صدر الظهير الحامل لرقم 184.11.1 وتاريخ 29 نونبر2011، والذي نص على تكليف الحكومة المنتهية ولايتها برئاسة الأستاذ عباس الفاسي بتصريف الأمور الجارية إلى غاية تشكيل الحكومة الجديدة، وهذا التشكيل حصل بصدور الظهير المذكور في الفقرة السابقة. وفي سياق هذه المعطيات المتلاحقة والمتناغمة، أصدر المجلس الدستوري قراره رقم 12-825 بتاريخ 02 يناير 2012، منشور بالجريدة الرسمية عدد 6014 بتاريخ 19 يناير 2012، أتى بمعطيات قانونية تجعل الإشكال منحسما أكثر لجهة دستورية انعقاد المجلس الحكومي واستلام الوزراء لمهامهم، ومن ذلك تأكيد المجلس على أن التشكيل الحكومي يتحقق بالتعيين الملكي، وأن الحكومة الجديدة تستمد وجودها الدستوري من التعيين الملكي، ومما قضى به المجلس الدستوري يمكن إيراد الحيثية التالية لعمق مغزاها: "وحيث إن الحكومة، التي تتألف ، حسب الفقرة الأولى من الفصل 87 من الدستور، من رئيس الحكومة والوزراء ويمكن أن تضم كتابا للدولة، لاتكون مشكلة دستوريا إلا بعد تعيين جلالة الملك لأعضائها باقتراح من رئيسها وفقا لأحكام الفقرة الثانية من الفصل 47 من الدستور، وهو التعيين الذي يفسح المجال لرئيس الحكومة ليعرض أمام البرلمان البرنامج الذي يعتزم تطبيقه قصد الحصول على ثقة مجلس النواب المعبر عنها بالأغلبية المطلقة الذين يتألف منهم طبقا لأحكام الفصل 88 من الدستور". بقيت الإشارة إلى أن بعض فقه القانون اعتبر أن تصريف الأمور الجارية ينحصر فقط في التدبير الإداري دون السياسي قبل التنصيب البرلماني، وهنا ينبغي التنويه إلى أن الأعمال الجارية تمتد لتشمل أيضا الجوانب السياسية وإلا فإن حكومتي تصريف الأعمال، خلال الفترة الممتدة من يوم 29/11/2011 إلى غاية 26 يناير2012، ستكون مكتوفتي الأيدي في تدبير علاقاتهما وتفاعلاتهما، على سبيل المثال، مع المؤسسة الملكية والمؤسسة البرلمانية( بما فيها عرض البرنامج الحكومي الجديد ومناقشته) والفاعلين على الساحة الدولية، علما بأن هذه المجالات تخضع لضوابط ومعطيات تقع خارج دائرة المادة الإدارية. وبخصوص سريان أثر تصريف الأعمال من طرف الحكومة الجديدة، فقد تحدد من يوم 03 يناير2012، تاريخ صدور ظهير التعيين الفريق الحكومي، ولم يكن من حق رئيس الحكومة الجديدة الشروع في تدبير هذه الأعمال من تاريخ تسميته بتاريخ 29 نونبر 2011، خلافا لما انتهى إليه البعض، وذلك لاعتبار متعلق بأن هذه التسمية هي تكليف فقط باتخاذ الترتيبات المفضية إلى إعداد مشروع لائحة الفريق الحكومي قصد التأسيس على هذا المشروع في التعيين الملكي لأعضاء الحكومة لاحقا، ويضاف إلى هذا الاعتبار أن الظهير عدد 184.11.1 بتاريخ 29 نونبر2011 كلف الحكومة السابقة بتصريف الأعمال إلى غاية 03 نونبر 2012. * باحث في القانون الدستوري وعلم السياسة