لقد جاءت رسالة الاسلام السمحة لتحقيق مقاصد عظيمة وغايات نبيلة لعموم الخلق، ولعل من أجلّها رفع الأغلال والآصار الثقيلة التي كانت ترزح تحتها الانسانية بسبب التحريفات التي لحقت الشرائع السماوية السابقة، وهو ما أخبر به الحق سبحانه في كتابه العزيز بقوله: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}، فلذلك جاءت شريعة الاسلام رحمة للعالمين وتحقيقا لمصالحهم، وحافظة لحقوقهم، وقائمة بالعدل والقسط بينهم... إلا أن هذه المعاني العظيمة كان يتم الإعراض عنها أو الالتفاف حولها من قبل بعض الفقهاء قديما وحديثا وذلك من خلال إثقال هذه الشريعة السمحة بمنطق الأغلال والآصار التي يضمنونها آرائهم الفقهية التي يمكن تسميتها ب"فقه العنت والأغلال"، حيث يُصرون على التوسع في فتاوى التحريم والتضييق على الناس في معاملاتهم الرحبة التي تجلب لهم المصلحة وتدفع عنهم الحرج وعدم الوقوع في الحرمة المغلظة؛ ومن من هذا القبيل بعض الآراء الفقهية المعاصرة، التي تحرم كثيرا من معاملات الناس المستحدثة كشكل من أشكال التضامن أو توفير المال بالإقراض أو الاقتراض أو تسهيل المنافع بلا ضرر ولا ضرار، ومن هذا القبيل: تحريم "عملية دارت"، وتحريم "شراء حلي الذهب بالتقسيط"، وتحريم "رهن المساكن" أو ما يسمى ب"الرهين"، ومنها آخرا وليس أخيرا تحريم الاستفادة من "برنامج انطلاقة" "الذي جاء بتعليمات ملكية، يهدف إلى إطلاق دينامية جديدة تدعم المبادرة المقاولاتية لتعزيز الإدماج السوسيو اقتصادي للشباب، وذلك بتقديم قروض بنسب مخفضة جداً لا تتجاوز 2 في المائة في المجال الحضري و1.75 في المائة بالنسبة للمشاريع في القرى"، بعلة أنه يقوم على "قروض ربوية"!! إن هذا المنطق الإفتائي المغالي في إشهار بطاقة التحريم في كل نازلة من النوازل المعاصرة، يستدعي منا إبداء الملاحظات التالية: إن كثيرا ممن يتحدثون في هذه الأمور ويحجرون على الناس بفتاواهم يُلغون عقولهم فهما واستنباطا، ولا يُعْمِلونها إلا حِفْظا وترديدا لأقوال من سبقهم من أهل الفقه في العصور الماضية، ولو كانت تنتمي لما يسمى بعصر الانحطاط... ولا لوم على هؤلاء القدامى، لأنهم عاشوا زمانهم ونظروا في أحواله واجتهدوا له بحسب ما تيسر لهم من أدوات فهم النصوص الشرعية وما رأوه وعاينوه من ملابسات واقعية تقتضي تنزيل النص الشرعي على مقتضى الحال... لكن اللوم يقع على من أَوْصَد عقله واسْتَعار فَهْمَ غيره لتفسير أحوال عصره والإجابة عن نوازله، مع ما بين هذا العصر وعصور المسلمين الخوالي من الفروق والتعقيد في كل مناحي الحياة !! إن معظم المتصدرين لهذه الآراء والضالعين في فقه العنت يعيشون وَضْعا ماديا مريحا إما من عمل وظيفي قار يُدِرُّ عليهم دَخْلا محترما – إن لم نقل محترما جدا-أو من ريع "ساقه الله إليهم" لانتمائهم لمجلس من المجالس أو هيئة من الهيئات أو مؤسسة من المؤسسات التي تُخَوّل لهم هذه "الامتيازات" !! أو من خلال أعمال خاصة تيسرت لهم ظروف نَمَائِها وتنميتها في فرصة من فرص الحياة الاجتماعية أو السياسية أو الدعوية... ولذلك فهؤلاء لا يعرفون-أو لا يشعرون- (ب)معنى الضرورة القاهرة التي تُلجئ الناس أو تضطرهم إلى الاقتراض من مؤسسة بنكية أو من أي جهة أخرى بالفائدة أو بالربا أو بالقرض الحسن أو بأي اسم آخر... بسبب "شظف العيش"، أو "ضيق ذات اليد"، أو "شبح البطالة"، أو "أزمة السكن"، أو "مذلّة الكراء" أو "قساوة الخبز الحار"، أو "الطرد التعسفي" أو "الانتقال من أجير إلى مقهور" أو "التقلب من عمل إلى شبه عمل" !!! إن الفقيه، الواقعي وليس النّصّي الحروفي، هو الذي يستصحب هذه الوقائع ويضعها نصب عينيه ويعرضها على محك النصوص قبل أن يصدر فتواه بالحل أو الحرمة. وإن الفقيه الواقعي ليس هو من يعرف الحلال من الحرام، ولكنه الذي يستطيع الموازنة والترجيح بين المصالح والمفاسد، بل وبين المصالح القريبة والمصالح البعيدة، وبين المفاسد الدنيا والمفاسد العظمى...لأنه ليس ثمة مصالح أو مفاسد محضة في غالب أحوال الدنيا وأمور الخلق، وإنما هناك تداخل وتشابك وتمازج بينهما في مختلف مجالات الحياة وعلى جميع مستوياتها، والحكم عليها بهذه الصفة أو تلك فهو على جهة التغليب والتقريب وليس على أساس التحقيق، وللشاطبي في هذا المقام كلام بديع جاء فيه: " فإن المصالح الدنيوية - من حيث هي موجودة هنا - لا يتخلص كونها مصالح محضة، وأعني بالمصالح ما يرجع إلى قيام حياة الإنسان ، وتمام عيشه ، ونيله ما تقتضيه أوصافه الشهوانية والعقلية على الإطلاق، حتى يكون منعما على الإطلاق، وهذا في مجرد الاعتياد لا يكون؛ لأن تلك المصالح مشوبة بتكاليف ومشاق، قلت أو كثرت، تقترن بها أو تسبقها أو تلحقها، كالأكل، والشرب، واللبس، والسكنى، والركوب، والنكاح، وغير ذلك؛ فإن هذه الأمور لا تنال إلا بكد وتعب .كما أن المفاسد الدنيوية ليست بمفاسد محضة من حيث مواقع الوجود؛ إذ ما من مفسدة تفرض في العادة الجارية إلا ويقترن بها أو يسبقها أو يتبعها من الرفق، واللطف ونيل اللذات كثير، ويدلك على ذلك ما هو الأصل، وذلك أن هذه الدار وضعت على الامتزاج بين الطرفين والاختلاط بين القبيلين ، فمن رام استخلاص جهة فيها لم يقدر على ذلك..." (الموافقات: ج2/45)، ويخلص قائلا: " فإذا كان كذلك؛ فالمصالح والمفاسد الراجعة إلى الدنيا إنما تفهم على مقتضى ما غلب، فإذا كان الغالب جهة المصلحة فهي المصلحة المفهومة عرفا، وإذا غلبت الجهة الأخرى؛ فهي المفسدة المفهومة عرفا " (نفسه: ج2/46). . وإن الفقيه الواقعي هو الذي يبني فقهه على التيسير ورفع الحرج ودفع المشقة والعنت عن الإنسان المسلم ما وجد إلى ذلك سبيلا عملا بقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: "يسروا ولا تعسروا، بشروا ولا تنفروا"...حتى يستطيع –هذا الإنسان-أن يعيش عصره مسلما في خاصة نفسه أو عامة مجتمعه؛ وينخرط بفعالية في مختلف مجالات الحياة دون أن يشعر بحرج نفسي أو عنت مادي أو أغلال فكرية. إن بعض المفتين في مثل هذه النوازل يُحَجّرون الضرورة، التي تُلجئ صاحبها إلى ارتكاب الحرام، بقيد "حصول الهلاك المحقق"، بناء على ما نص عليه الفقهاء قديما؛ وهذا تَحْجير لا مُسوغ له ولا يستقيم وخصوصيات زمننا المعاصر؛ لأن المسلم اليوم لن يعدم ما يسد به الرمق دفعا للهلاك المادي/ الجسدي عن نفسه!! إلا أن ثمة هلاك آخر يمكن أن نسميه ب"الهلاك المعنوي"، وهو أشد وأنكى من "الهلاك الجسماني"، لأنه قد يمتد بصاحبه عُمْره كله أو جزءا منه قصيرا أو طويلا، وهو الذي يتعلق في الغالب بكرامة الإنسان ووجوده الاعتباري في المجتمع، ولذا فالضرورات المعاصرة التي قد تبيح المحظورات ينبغي أن تقيّد بما "يحفظ الكرامة الإنسانية"، أي أن ثمة ضرورات كثيرة قد لا يستطيع المسلم اليوم تحصيلها إلا بشيء من المحظور، لأن في ذلك حفظ لكرامته المعنوية والمادية في محيطه الصغير ومجتمعه الكبير... وقد قرر الشاطبي في موافقاته أن "محال الاضطرار مغتفرة في الشرع"؛ أي "أن إقامة الضرورة معتبرة، وما يطرأ عليه من عارضات المفاسد مغتفرة في جنب المصلحة المجتلبة" (الموافقات: 1/107). ولعل العمل الشريف الذي يدر دخلا قارا على صاحبه، يأتي في طليعة هذه الضرورات اليوم؛ سواء كان ذلك من عمل وظيفي –إن تيسر له أمره-أو من عمل حر (تجارة – مقاولة صغيرة أو متوسطة – مشروع خدماتي...). إلا أن هذا العمل الحر قد لا تتهيأ أسبابه لجميع الشباب المبتدئين في مسار حياتهم المهنية والطامحين في تحقيق مشاريع أفكارهم على أرض الواقع بسبب صعوبات التمويل التي تواجههم في غالب الأحيان، فيضطرون إلى طرق أبواب من يأنسون منهم المساعدة، والبداية بطبيعة الحال تكون من أفراد العائلة المقربين الميسورين، إلا أن واقع الحال يؤكد أن نسبة هذه العائلات المغربية الميسورة قليلة –إن لم نَزْعُم أنها قليلة جدا- وقد تكون وجهة طلب المساعدة ما يسميهم البعض ب"أغنياء المسلمين"، لكن هؤلاء الأغنياء في أغلب الأحوال لا يستجيبون لهؤلاء الشباب بدعاوى ومبررات شتى منها: أنهم "لا يرغبون في المخاطرة بأموالهم في مشاريع غير مضمونة"، أو بدعوى أن "مدة سداد الدين طويلة، وهم لا يرغبون في تجميد سيولة أموالهم طوال هذه المدة دون فائدة يجنونها"، أو يتعللون بأنه "ليست لديهم أموال كافية للقرض" !!! وأمام هذه الجهات التمويلية المتاحة، ولكنها موصدة قُوّة أو تبريرا وادّعاء، فإن هؤلاء الشباب الذين لا يملكون في رأسمالهم إلا أفكارهم وطموحاتهم الذاتية ورغبتهم الجامحة في تحقيق مشاريعهم، يجدون أنفسهم مضطرين للجوء إلى أغنياء مسلمين آخرين، ولكنهم ليس كأفراد ولكن كمؤسسات بنكية تدخر الأموال وتمتلكها وتنميها وتقدم خدمات تمويلية لأصحاب المشاريع سواء كانوا ذاتيين أو طبيعيين؛ وبالفعل فإن تلك المؤسسات إذا اقتنعت بتلك المشاريع لا تتردد في تمويلها، لكن شريطة وجود ضمانات لسداد القرض البنكي، وهو عائق عويص يواجه معظم الشباب المغربي حاملي المشاريع... فلذلك جاء "برنامج انطلاقة" ليرفع هذا العائق، ويمكّن هؤلاء الشباب من قروض بنكية بعروض تفضيلية في نسبة الفائدة وبدون ضمانات شخصية أو عائلية تقدم للمؤسسة المانحة للقرض، في أفق أن يستفيد من هذا البرنامج حوالي مليون شخص. وأمام هذه التسهيلات المُيَسّرَة للعمل الحر والشريف الذي يحفظ كرامة الشباب المغربي، ويسهّل انخراطهم واندماج بفعالية في دورة إنتاج الاقتصاد الوطني، وبالنظر إلى العدد الهائل من الأفراد الذين سيستفيدون من هذا البرنامج، وكذا ما سيترتب عن ذلك كله من مصالح راجحة وعامة للأفراد والأسر والمجتمع وعموم البلاد... فإن الفقيه الواقعي –الذي أشرنا إلى بعض أوصافه آنفا-لا يسعه إلا أن يُجيز هذه المبادرة الاجتماعية ويدفع عنها شبهات فقهاء العنت الذين يستهويهم التضييق على الناس وتكبيلهم بآصار وأغلال يظنون أنها من صميم أحكام الشريعة الإسلامية، والشريعة السمحة منها براء.