بعد مرور أزيد من عقد من الزمن على تجربة حزب الأصالة والمعاصرة، وعلى ضوء المستجدات الحزبية الأخيرة التي واكبت المؤتمر الرابع للحزب، بات من شبه المؤكد أن هذه المحطة شكلت منعطفا حاسما وتحريفاً لمسارٍ حرص على رسمه وتسطيره، بكل صدق ووطنية، القائمون على زرع أولى بذور هذا المشروع الحداثي، الذي ظل يُجسد القيمة الهوياتية ل"تمغربيت" كقناعة حضارية، ويستجيب للتطلعات الحداثية التي عبر عنها المغاربة منذ الاستقلال، ويرفض كذلك كل محاولات التملك الفئوي للمشترك العَقَدِي حماية للمجتمع من امتدادات الإسلام السياسي. إن المواقف الأخيرة للتيار الذي أفرزه المؤتمر الرابع لحزب الأصالة والمعاصرة، فيما يتعلق- على وجه التحديد- بنظرته لمكانة الإسلام السياسي في العمل الحزبي، لَتُعَبِّرُ، بشكل صريح وواضح، عن محاولة الإقبار النهائي للفكرة الأم والفكرة الأصل التي ألهمت ولا زالت تلهم فئات عريضة من المجتمع المغربي، خصوصا لدى الشباب، فئات مجتمعية مقتنعة براهنية المشروع وعلة وجود الحزب وكذا ضرورة استدامة عرضه السياسي في فضاء حزبي مؤمن بالتعددية. إن هذا الانحراف عن المسار أصبح يهدد المشهد الحزبي برمته، ويعلن القطيعة مع أحد أهم مرتكزات مشروع الأصالة والمعاصرة، الذي ظل يرفض ويقاوم جميع المحاولات التي تصبو إلى الاستغلال المقيت للمشترك العَقَدِي لتوجيه المغاربة نحو "التمكين" لمشروع سياسي بعينه. لقد أصبح لزاما علينا في هذه المرحلة الدقيقة، قراءة موضوعية لمجريات الأحداث في المشهد الحزبي ببلادنا، والتي لا يمكن أن تتم بمعزل عن مقاربة الظاهرة في شموليتها وكذا الأسباب التي ساهمت في فشل، أو إفشال بشكل عام، العمل الحزبي الذي أضحى شبه منبوذ من طرف الغالبية الصامتة في ظل الهيمنة الانتخابية لمكون حزبي بعين هو إعادة تموقع إرادة الأعمال والمصالح في مقدمة المشهد الحزبي، بعد أن وجدت لها في حالة الفراغ التنظيمي فرصة مناسبة لتجديد دورها وتحديث أدواتها قصد توجيه التنظيم بعيدا عن هويته السياسية. إن الفعل السياسي النبيل ما هو إلا امتداد منطقي لحركة ذهنية بلورت لنا مجموعة من المفاهيم التي تدور حول الفكرة "الأساس" و"الأصل"، ونتاج رؤية شاملة للحاضر والمستقبل، حيث يمثل الإطار التنظيمي للحزب ذلك الجسد الحاضن للروح التي تجسدها الفكرة أو المشروع. هذا المعطى يفرض على التنظيم منح الفكرة مصداقية وقوة وصلابة، وفرصة للتجسيد والتطبيق وعندما يُصبح التنظيم عاجزا عن احتواء الفكرة وتبنيها، فإن الواجب هو استبدال التنظيم مع الإبقاء على الفكرة كتعبير راقي عن الطموحات الأصلية. وبإسقاط ما تقدم على حالة حزب الأصالة والمعاصرة، يمكن القول إن الأحداث المتسارعة التي اتسمت بها محطة المؤتمر الرابع للحزب وسنوات التيه والتخبط التي سبقتها، خلقت إجماعا وقناعة عند مجموعة من حكماء الحزب وحملة المشروع بأنه من جهة، يصعب في الوقت الراهن تجاوز ما وقع من أذى وإمكانية العمل بنفس وحدوي في ظل هذه الأجواء، ومن جهة أخرى، فقد أدى هذا إلى إعادة التوهج لمفهوم "البام الفكرة" و"البام المشروع"، مما سيدفع بهم لا محالة إلى إعادة تأصيل مفاهيم "فكرة" المشروع الأصلية التي لازالت تُشكل مصدر إلهام لأبناء المشروع والقيادات الحزبية الملتزمة بالاستمرار في المساهمة في بناء مغرب حداثي وديمقراطي، يعكس البنية السلوكية الجماعية للمغاربة. لقد نجحت دينامية الجمع بين المعاملات والسياسة أو بالأحرى زواج المعاملات بالعمل الحزبي، بدعم -على ما يبدو- من جهة لها اليد على بعض ممن يوجهون سفينة البام في الوقت الراهن، مِنْ وَضْعِ يدها على التنظيم الحزبي الحاضن لفكرة الأصالة والمعاصرة معلنة صراحة وبطريقة مباشرة القطيعة مع روح المشروع الأصلي الذي تم إفراغه من فكرة التأسيس، ولاسيما بعد إرسالها إشارات صريحة بأنها على أهبة الاستعداد للتطبيع المصلحي الضيق مع تيار الإسلام السياسي وانتقادها الحاد لمسببات النشأة ولحملة المشروع الذين تعاقبوا على قيادته، ليتحول بذلك البام إلى حزب بدون روح ولا فكرة قادرة على الحشد والتعبئة والمساعدة في بلورة أدوات الربط بين القواعد الحزبية والقيادات التنظيمية. هذا التوجه سيكون له، لا محالة، أثر ليس فقط على الموقع السياسي والاجتماعي للحزب، بل قد يشكل قطيعة على مستوى توازنات المشهد الحزبي المغربي. فتغييب المشروع الفكري الحاضن لتأسيس حزب الأصالة والمعاصرة سيشكل إفقارا للحقل السياسي وقتلا رمزيا للبدائل الحداثية للإسلام السياسي. وهنا يطرح العديد من المناضلين أسئلة جوهرية ووجودية من قبيل: - هل من الصواب الاستمرار في تنظيم "سياسي" لم نعد نتقاطع معه لا على مستوى المبادئ ولا على مستوى الأهداف، بل نجد اليوم أنفسنا أمام حزب نكاد لا نتعرف عليه؟ - وهل فك الارتباط مع التنظيم يعني بالضرورة القطع مع الفكرة ومع العقيدة السياسية التي مثلتها وثائق التأسيس والأرضية التي انطلق منها المشروع؟ فإلى جانب خيار الانسحاب والرجوع إلى الوراء، يجد الورثة الحقيقيون لمشروع الأصالة والمعاصرة أنفسهم أمام خيارين: إما الاستمرار في الحزب ومحاولة إعادته إلى حاضنته الأصلية وقطع الطريق أمام من يحاول تحويله إلى ملحقة بدون فكرة ولا روح ومعلناً بذلك طفرة في الخارطة الوراثية للإطار التنظيمي، ولكن إذا غابت الحكمة والمسؤولية وانتصرت الذوات، قد يكون هذا عاملا لتضييع مزيد من الوقت والطاقة وسببا في تطاحن آخر في الحقل السياسي المغربي وضربا لمصداقية العمل السياسي برمته، كما أن هذا الخيار سيضعف أكثر المشروع السياسي والرؤية الخاصة به، وإما حمل الفكرة إلى فضاءات أرحب وإطار تنظيمي أنسب يمكن من خلاله تجسيد القيمة الهوياتية ل"تمغربيت"، وذلك عن طريق نقل الأعضاء السليمة للمشروع من الهيكل إلى كائن حركي جديد، كائن يعكس فكرة "تمغربيت" وروح "تمغربيت" وأصالة "تمغربيت"، عبر خلق بنية مناسبة كفيلة باحتضان الفكرة والعقيدة السياسية الأصلية، وهذا لا يعني جمود الرؤية، بل يعني حمايتها وإعطاءها فرصة الاستمرار. وكيفما ستتوالى الأحداث والترتيبات وطبيعة الاختيار في المرحلة القادمة، فإن التجارب التاريخية سواء في المغرب أو خارجه، تؤكد أن المشروع السياسي والفكري يمكن أن يتجدد ويتطور خارج الإطار البنيوي الذي أخرجه للوجود، بل إن تجديد البنية السياسية قد يكون سببا في نجاح المشروع، شريطة أن تتم عملية تقييم تسمح بتعريف مكامن الخلل والضعف وعدم تكرار نفس الأخطاء وتوفير الشروط الموضوعية لإنجاحه.