يقول أحد الشعراء إنما دنياي نفسي... فإذا هلكت نفسي فلا عاش أحدْ ليت أن الشمس بعدي غربتْ ثم لم تشرق على أهل بلدْ يطرح الوجود إشكالا أنطولوجيا أصيلا على الذات المتكلمة والتي تفتقد لفعل الوجود والكينونة، خلو يمنع الذات المتكلمة من ترسيخ وجودها في العالم، كإمكانية للتحقق التام والكامل لفرادتها. إنها بهذا، لا تمنح الإنسان السكن الأليف داخل مسكن الوجود، ولا تمده بفيء ظليل يستريح تحته، فيبقى هائما على وجهه في الصحراء، مكشوفا لهجير شمس حارقة تلفحه طوال العمر. لذلك، لم يأمن الإنسان أبدا المكان ولا سيما الإنسان العربي، كعلامة على السكينة والراحة والأمن والاطمئنان، حاملا جراحاته، خوفه وحدته وقلقه الدائم...، فبقي مترحلا حاملا خيمته على دابته إلى ما لا نهاية، باحثا عن كوة، يعانق من خلالها في يوم من الأيام الخلاص المرغوب/المشتهى. رحلة لاقتناص الدهشة في غابات الحياة، بجمالها غموضها أسرارها...سفينة وسفر لزرع الآمال في واقع محبط، من هنا يجد هذا السؤال معناه وجدواه: هل الترحال قدر الذات العربية، أم أنه يمنحها إمكانيات لا حصر لها تسعفها في تخصيب تجربة الوجود، ليس باعتبارها معطى سابقا عن الوعي، بل بوصفها فعلا مفتوحا على الصيرورة؟ ربما هذا هو القدر المسلط (أو المرغوب..؟ لا ندري..!) على شخوص/نصوص تنفلت من عقالها ومن عقدها وهمومها وآلامها وآمالها، إنه انفلات من سجن الجسد، والحبل من قيض اليد ثم الانطلاق والتحليق خارج المألوف، ولو عبر الحلم، لأن التوقف عن الحلم هو فقد القدرة على الاستمرار في الحياة، وعبر مسافات لانهائية ولربما لأن بعض الود لا يصان إلا بالبعد، كما أرادها الكاتب محمد آيت علو في مؤلفه الأخير، المعرفة ب: "نصوص أدبية" كمحاولة إثارة أفق انتظار القارئ / المتلقي، والموسومة ب: "كأن لا أحد..!" ضمن نصوص منفلتة ومسافات كما هو باد في مقدمة المؤلف. حيث النص يحيك وجوده بالتشابك المهيب بين الواقعي والخيالي، إنه حلم بنص يعرض حقيقة الوجود والعالم. إنها شخوص تخوض وحل المسافات اللامتناهية، المترامية، المفتوحة على التيه/الضلال. شخوص لا تعرف الاستكانة والوثوق بالأرض تحتها، لذلك تجدها دائمة الترحال، ليس داخل حدود ثنائية الزمان والمكان، ففي الفضاءات التي اختارها السارد ركحا لشطحاتها/غياباتها، تنمحي كل المحددات الفيزيقية التي تخلقها الحواس، إنه الترحال والرحيل في الكينونة ومن داخلها، إبحار في مجاهيل/أعماق العوالم الجوانية والفضاءات المغلقة المعتمة، لشخوص لها حضورا شبحيا/أثيريا، يقربها من حالة الاضمحلال/الهباء التام كما هو الشأن في "إصبع صغير" حيث يرحل الجميع ويبقى الأب وحيدا، ويتسع الشرخ مع شيء من الانتظار والترقب والتوجس...مثل ما يجده الانسان في نهاية المطاف، ليجد نفسه وحيدا وبدون أنيس أو سند، وحتى بالنسبة للذين يختارون وحدتهم كشرط للحرية وبلا وساطة، لكن هذه الوحدة التي تم اختيارها عن طواعية وإرادة هي التي ستقوده إلى حتفه، هي التي ستقتله في الأخير ليجد نفسه وحيدا في "وحدك أخيراً"، فلا تعول على أحد لأنك ستجد الريح بل الخواء، والحال سيان، هنا كما هناك، حيث يفر المرء من أهله وأحبائه ودويه، ثم هي شخوص قلقة وجسة، ثم هو يسد الثقب كمن لا يريد أن يحيا هذه الحياة بزيفها، إنه لا يريد أن يعود للحياة مرة أخرى، فقد فضل المستروح/القبر وهو بالنسبة له أفضل مأوى، فضلا عن كونها شخوص وجدت نفسها سجينة داخل جدران المدينة/الوحش التي تحولت إلى متاهة/مينوتور، ترهن ذواتا من ضيق الأفق، صارت شقية حاملة لوعي ممسوخ، مصاب بلوثة الجنون. من داخل هذا المجرى السائر إلى حتفه المضمون، تعلو بعض الأصوات النشاز، يدفعها حب الجمال/الفن، إلى ابتداع إمكانيات أخرى عبر الحلم/السفر، فلا يكفي أن نكون في الحياة، لكن أن نكون على قيد الحلم والآمال والتفاؤل، وعلى قيد شيء جميل يستحق الحياة، وإنه لمن المستعذب أن يكشف الإنسان نفسه في عيون الآخرين الأخوية، إن كل صدمة تولد الاحساس بصدمات أخرى...في الواقع أو في الخيال أو في الوهم... ومادامت تتغيا الخروج/الخلاص، رغبة في معانقة الحقل المخضر، الشمس الدافئة، والبحر اللازوردي، الطبيعة في تبرعمها الأصيل وعذريتها الأولى. إنها رحلة التذكر المؤلم لنبع الوجود الصوفي/الصافي في طهره وأصالته، عودة إلى الأصول المنسية، نحو الرحم/الأم/التراب، اندماج كلي مع الوجود البراني، ونسيان للكينونة باعتبارها وعيا زائفا، يأسرنا إلى قيود محكمة الانغلاق/حلقة مفزعة تشكلها الحقيقة، تحيكها من سقط، الحس الجمعي المجنون/الحواس المشتركة الزائغة، المحدقة في وجوهنا بصلف قطاع الطرق، الساكنين مجاري المياه الآسنة والبرك الراكدة، المدججين بمنجز التقانة، أي كوهم للإنسان المتحضِّر/المحتضِر السائر إلى حتفه كما في "تردد" أو "إنسان وآلة صماء". إنها صرخة من ذات مبدعة، ذات مرهفة، في وجه العمى، في وجه النرجسية والذاتية الزائفة والتمزق والشتات والتيه والوحدة والقلق والخوف وانعدام الثقة وفقدان الإحساس بالحماية على مستويات عدة ولاسيما العاطفي، ذلك أن الناس يشعرون اليوم بالوحدة وأنهم غير محبوبين ومغمورين بالأسى، تبقى الكلمة/ الإبداع وحدها لوقف هذا النزيف وإعادة الاعتبار للقيم، وبه وحده ترقى الأمم، فهل بالإمكان وقف مسلسل هذا الانحدار؟ *ناقد وكاتب